الفقر آفة اجتماعية كبيرة تعانيها مجتمعات عديدة بما فيها الدول المتقدمة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ولكن ضحايا الفقر في البلدان النامية يشكلون غالبية السكان. كما أن أسباب الفقر في البلدان النامية قد تختلف عن نظيراتها في الدول المتقدمة.
ففي الدول الغنية، ينتج المجتمع ثروات تزيد كثيرا عن حاجاتها الغذائية والاستهلاكية الضرورية التي تسمح له بالعيش الكريم والآمن خارج براثن الفقر والتخلف. إلا أن السياسات الاقتصادية والضريبية والطبقية تتيح لفئات قليلة من أصحاب النفوذ والثروة ورؤوس الأموال من الاستحواذ على الجزء الأكبر من تلك الثروات، فيما تشترك فئات المجتمع الأخرى بالقليل المتبقي مما يمنع المجتمع من التحرر الكامل من كماشة الفقر حتى في ظل الدول التي تنفذ سياسات اجتماعية عادلة.
لاشك في أن بعض الدول المتقدمة نهبت ثروات وموارد الشعوب المستعمرة وحققت تقدما محسوسا على حساب الدول النامية إلا أن الغالبية العظمى من الدول المتقدمة (مجموعة العشرين على سبيل المثال) والدول الناهضة الأخرى لم يكن لديها ماض استعماري أو كانت هي نفسها مستعمرة إلا أنها حققت قفزات اقتصادية مهمة في العقدين الأخيرين.
أما أسباب الفقر في الدول النامية فهي متعددة،وأعتقد أن الوزر الأكبر من مسؤولية الفشل في تحقيق التنمية الحقيقية التي تسمح للمجتمعات بالتحرر من الفقر والجوع تتحملها السياسات الوطنية، دون نسيان الظروف الدولية وأنظمة التجارة غير العادلة ومضاربات الأسواق العالمية، وخاصة أسواق الطاقة، ودورها في عرقلة تحقيق نظام عالمي أكثر عدلا. فالعراق على سبيل الحصر يمثل نموذجا للدول التي أهدر فيها المال العام في الحروب والتسلح وبناء القدرات العسكرية التي تم تحطيمها كليا، وفشلت فيها التنمية وتفشى بها الفقر والجوع. وقد ظهر ذلك جليا في المرحلة الثانية من حكم البعث عندما انفرد صدام حسين بالحكم وقاد البلاد من حرب طاحنة إلى أخرى، بعد أن شهدت فترة حكم البكر تغيرا محسوسا في مستوى معيشة السكان نتيجة ارتفاع مداخيل البلاد من الثروة النفطية.
لقد انحدرت مستويات المعيشة بشكل مفجع في العقد الأخير من حكم البعث إلى الحد الذي صنف فيه حوالي 50% من السكان دون خط الفقر في العام 2003، أما النصف الآخر من المجتمع فقد أمسى هامشيا وغير منتج اقتصاديا في الغالب، وتوقفت عجلة التطور ودمرت البنى التحتية والمصانع والمزارع وتراجعت الزراعة إلى مستوياتها الدنيا، وأصبح العراق مستوردا خالصا للأغذية بعد أن كان مكتفيا إلى حد كبير بالمنتج الزراعي المحلي.كما أن الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في العراق منذ عام 2003 لم يسمح بتحقيق النهضة الاقتصادية المبتغاة في قطاعات الاقتصاد المختلفة ومنها القطاع الزراعي، بالرغم من الاهتمام الخاص من قبل الحكومة بالزراعة،ممثلا بالمبادرة الزراعية التي وفرت موارد مالية إضافية للقطاع الزراعي خارج الموازنة السنوية لوزارتي الزراعة والموارد المائية، وحصل التحول المفاجئ من الاقتصاد المركزي الموجه والمكبوح بقرارات فوقية ليست لها صلة بواقع السوق المحلي إلى انفتاح منفلت لم يتح معه لعوامل السوق أن تفعل فعلها بإعادة التوازن إلى سوق الغذاء.
كما استمر استخدام نظام البطاقة التموينية لكبح تأثير، أو للتعويض عن، ارتفاع أسعار الغذاء وتقلبات السوق والحد من تفشي الجوع بعد سلسلة الحروب والمقاطعة الاقتصادية الخانقة.
من الواضح أن استمرار استخدام نظام البطاقة التموينية في الظروف الجديدة نابع من أسباب ضاغطة عديدة مضاف إليها رغبة الحكومة بتحسين الوضع الغذائي وتوفير المواد الأساسية للسكان في ظروف انتقالية صعبة تتميز بقلة الإنتاج وانتشار الفقر وزيادة نسبة البطالة والأعداد الكبيرة من الأرامل والمعوقين والمهجرين وضحايا الحروب والنازحين والمهمشين وغيرهم.
وليس من الإنصاف معارضة رغبة الحكومة تلك ولا الدعوة إلى حرمان فئات اجتماعية كبيرة من حقها في الحصول على الغذاء عن طريق نظام البطاقة التموينية دون إيجاد بديل أفضل.ولكن من الإنصاف العمل الجاد على تغيير الشروط التي جعلت من فئات مجتمعية واسعة تعيش أساسا على ما توفره لهم مفردات البطاقة التموينية. أي أن نظام تقديم المساعدات الغذائية للسكان (البطاقة التموينية) بحاجة إلى تغيير جذري يتضمن على الأقل مايأتي:
استمرار شمول الفئات التي تصنف تحت خط الفقر في العراق، وهي حسب الإحصائية الرسمية 23% من السكان، ولنقل ربع سكان العراق، يضاف إليها مثلا 10% ممن هم فوق خط الفقر المذكور، والمقدر بحوالي دولارين في اليوم، أي تغطية حوالي 35% من السكان بالبطاقة التموينية.
حجب البطاقة التموينية عن المستفيدين الآخرين نظرا للارتفاع النسبي بمستويات دخلهم المادي.
التوجه الحاسم لشراء مفردات البطاقة التموينية من السوق المحلي ومنع استيراد أية مادة من تلك المفردات من الخارج إذا كانت متوفرة أو منتجة محليا بنوعية مشابهة لما يتم استيراده.
تطبيق صارم وعادل لأنظمة الرعاية الاجتماعية وتحقيق درجة معقولة من شبكات الأمان الاجتماعي التي تمنع تعرض العوائل العراقية للعوز والجوع وتؤمن لهم حياة كريمة إلى حين الاندماج مجددا بالعمل المنتج.
العمل الجاد على التخلي عن تقديم المواد الغذائية مباشرة للمواطنين المشمولين بنظام البطاقة التموينية واستبدال ذلك بتقديم قسائم (مستندات) بمبالغ تلك المواد يتاح معها للمستفيدين شراء السلع الغذائية من أي مصدر آخر.
لاشك في أن هناك الكثير من الأفكار والإجراءات التي يمكن إيرادها ولكن الفكرة الأساسية هي في تحويل الموارد المالية الكبيرة التي أنفقت وستنفق على استيراد مفردات البطاقة التموينية للاستخدام داخل العراق لخلق نهضة اقتصادية كفيلة بالقضاء على الفقر وتحقيق الأمن الغذائي للمواطنين.
* سفير العراق في منظمة الاغذية والزراعة التابعة للامم المتحدة (فاو) في روما
عن صحيفة المدى في 27/7/2012
د. حسن الجنابي*: الفقر والبطاقة التموينية في العراق
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية
اخي د. كامل العضاض….. ما زلت بانتظار تعليقك على المقالين الآخرين مع المودة
حسن الجنابي
الأستاذ الفاضل حسن الجنابي المحترم
الأخ الأستاذ بارق شبر المحترم
قرأت بكثير من الإهتمام والمتعة المقالات الثلاثة للأستاذ
الخبيرالمختص حسن الجنابي حول الفقر والبطاقة التموينية والبيئة الريفية في العراق، مبرزا في الأخير حالة شط العرب في البصرة. لقد سلطت المقالات الثلاثة أضواءا منيرة حول قضايا جوهرية من قضايا التنمية البشرية والمادية، كما كشفت حالة التخلف المريع بعد عقد من الزمان على إسقاط النظام السابق. بيد أن المقالات الثلاثة أثارت بعض التساؤلات، وحفزتنا لنعلّق على بعض النقاط الواردة فيها. ولسنا هنا في معرض التعليق على هذه المقالات كلها دفعة واحدة. ورأينا لغرض ،الوضوح ولعدم الإطالة، الإقتصار في هذه المساهمة على المقال الخاص بالبطاقة التموينية، على أن نتبعها، حسب توفر الوقت بالتعليق على بعض النقاط في المقالين الآخرين. بدءأ لابد من توجيه الشكر للدكتور الجنابي لإثارة هذه الموضوعات الهامة، ونعلق الآن على موضوع البطاقة التموينية؛
قبل كل شئ، لابد أن ندرك ان المعالجات الجزئية لقضية هامة مثل مسألة توفير الغذاء لنسبة كبيرة من الشرائح الفقيرة من الشعب العراقي، تشترط مسبقا وجود إستراتيجية تنموية عليا، تترجم الى خطط عمل سنوية ومتوسطة وبعيدة المدى، إذ بغياب ذلك تتحول المعالجات الى حلول تسكينية مؤقتة، قد تتحول الى ظاهرة دائمة
نتفق مع الأخ الجنابي في عرضه لتلك الحلول المرحلية والتي تقع بخمس نقاط أساسية، نعلق على بعضها كالآتي؛
أولا، نعم ينبغي الإستمرار بشمول الشرائح الفقيرة التي قد تشكل ثلث عدد الأسر العراقية، ولكن لابد من خريطة تفصيلية لتقدير الحاجات الغذائية، وذلك بمسوحات مفصلة عن الدخول ومصادرها وكيفيىة التصرف بها، مثل معرفة نسبة وكلفة إيجارات السكن، والصحة والتعليم وغير ذلك؛
ثانيا، لاشك، لابد من شراء المواد الغذائية من السوق المحلية، فهذا خيار له الأولوية، حتى لو كانت المواد الغذائية المنتجة محليا اغلى مما يشابهها من المواد المستوردة، ولكن قد لا يكون هناك بديل عن الإستيراد في حالة عدم توفر بعض المواد الغذائية المنتجة محليا أو ندرتها.
ثالثا، نتفق مع المقترح لتوسيع خيارات المستهلكين، وذلك بإعطائهم قسائم بدلا عن بضائع ليشتروا بها موادا غذائية حسب خياراتهم؛
رابعا، ان الصرامة في تطبيق نظم وقوانين الرعاية الإجتماعية، تشترط هي الأخرى إجراءآت تنظيمية وإدارية، مع وجود نظام معلومات مستمر التحديث، فضلا عن وجود كوادر إجتماعية مدربة ومختصة؛ وذلك لإن السبيل الى تطبيق أية مقترحات في هذا المجال مرتبط
بتطويرات متناسبة إدارية وبشرية وتنظيمية وتقنية
وتفضلوا بقبول خالص الإحترام والتقدير
كامل العضاض