مظهر محمد صالح

د . مظهر محمد صالح: الدولة الريعية الديمقراطية واتجاهات دالة الرفاهية الاجتماعية في العراق

Iraqi Economists Network

د . مظهر محمد صالح * : الدولة  الريعية الديمقراطية واتجاهات دالة الرفاهية الاجتماعية في العراق

           لم تبتعد المالية العامة العراقية طوال السنوات الماضية عن دائرة التناقض بين مسألة الكفاية efficiency (الانتاجية ) وبين مسألة العدالة  equity في توزيع ثمار الناتج المحلي الاجمالي للبلاد . وان هذه الحيرة قد وضعت مرتسم حالي ومقبل للسياسة المالية يؤكد خيارات ليست بالبسيطة عند مطابقتها مع النتائج الاقتصادية التي خرجت بها الموازنة العامة للبلاد خلال السنوات الخمس الماضية . فكفة العدالة في توزيع عوائد الموازنة قد هيمنت على مسألة الكفاية الانتاجية ، وفق المعطيات الكمية التي تؤشر استخدام قرابة ثلاثة ملايين موظف حكومي ومنح معاشات تقاعدية لاكثر من مليون متقاعد وعدد مماثل من الرعاية الاجتماعية ، إذ يؤشر هذا المعطى ان هنالك خمسة ملايين متلقي للدخل الحكومي وهي حالة تهيمن على المقدرة التوزيعية العالية للموازنة العامة لتشمل 25 مليون نسمة من سكان العراق من متلقي الدخل الحكومي سواء بشكل مباشر او غير مباشر وفق نظام الاعالة العراقي المعتمد . وإذا مانظرنا الى مسألة الكفاية الانتاجية ، فنجد ان القطاع النفطي الذي يهيمن على قرابة 70% من الناتج المحلي الاجمالي المملوك الى الدولة وان عوائد النفط تشكل اكثر من 94% من عوائد الموازنة،   نجد ان 98% من قوة العمل تشتغل في 30% من القطاعات الاقتصادية المساهمة في الناتج المحلي الاجمالي . اذ يلحظ ان البلاد مازالت تعج ببطالة فعلية نسبتها 15% ، ترتفع بين العاملين في سن الشباب لتكون 25% وإذا ما اضفنا الاستخدام الناقص البالغ 25% فأن اجمالي البطالة سيرتفع الى 40% وهو امر خطير يؤشر ان البلاد عاطلة بقوة عن الانتاج وان الكفاءة في تخصيص الموارد الانتاجية عند ادنى نقطة . اخذين بالأعتبار ان ارياف العراق التي تضم 10 ملايين نسمة او قرابة مليونين ونصف من الفلاحين والعمال الزراعيين تتعايش على البطاقة التموينية الغذائية ، وان الريف بنفسه لم يعد مصدرا قويا للعرض الزراعي وانه لايستطيع ان يسد حاجته من الغذاء الا بأقل من 30% في احسن الاحوال .

كما يتلقى اكثر من 700 الف عامل ومهندس صناعي اجور ومرتبات عن مصانع حكومية متوقفة بنسبة 90% وان 90% من مصانع القطاع الخاص تشهد الحالة نفسها لمصانعها البالغة قرابة 30 الف مصنع حيث اضاعت البلاد جيلا صناعيا اندمج حاليا في سوق العمل غير المنظمة ضمن معطيات الاستخدام الناقص .

و مازالت الموازنة  الحكومية تنفق سلعا عامة public goods مجاناً وبنسبة 50% من نفقاتها وان مساهمة افراد المجتمع في سد تكلفة تلك السلع لا تساوي الا اقل من 1% من الايرادات الاجمالية لها، مما جعل الشعب راكبا مجانيا من الطراز الاول . وعلى هذا الاساس اعتاد المجتمع على الأخذ دون العطاء ضمن الافراط في مفهوم العدالة ، وهي حالة خطيرة قد تضعف البلاد في ديمقراطيتها وتفقد الفرد حقوقه الديمقراطية بمرور الوقت .

        فإذا كانت مسألة العدالة على وفق النمط العالي من التوزيع الذي يهيمن على الموازنة العامة للبلاد وبالنسبة التي تؤشرها الموازنة التشغيلية التي تمثل قرابة 80% من اجمالي الانفاق العام ولم يترك للاستثماروالتنمية الحقيقية الا النصيب الجزئي . فأن الحال يتطلب تعريفاً محدداً لدالة الرفاهية الاجتماعية العراقيةsocial welfare function   ، بعد توصيفها من وجهة نظر الاقتصاد السياسي ، لتكون أداة لتقييم واقع السياسة المالية ومستقبلها وتقييم اداء ادواتها الرئيسة وبشكل خاص الموازنة العامة .

وبالقدر الذي تعبر فيه دالة الرفاهية الاجتماعية عن كونها وسيلة افتراضية تستطيع ان تسجل وجهات النظر المجتمعية حول العدالة equity بين افراد المجتمع في اشباع الحاجات و اظهار المقدرة على التعويض والتوزيع بين الرابحين والخاسرين منهـم ، فأن المجتمع المستقر المتماسك هو ذلك المجتمع الذي يتمتع بقدر عالي من العدالة وان العدالة ستكون بدون شك مطلبا اساسياً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

وعلى الرغم من ذلك ، لم ينته الجدل حول الكيفية التي تصاغ بها دالة الرفاهية الاجتماعية للوصول الى الامثلية المثلى للأقتصاد من حيث التوازن بين الكفاية والعدالة في تخصيص الموارد وتوزيعها على قدم المساواة ، الا بتأطيرها سياسياً من قبل الاقتصاد السياسي لعلم الرفاهية بغية معرفة تكنيكات الامثلية الاقتصادية التي تطبق على اوضاع سياسية مختلفة . فأذا كانت القيم الاقتصادية values في المجتمعات الشمولية ذات الاقتصادات المركزية المخططة ، تضعها سلطة التخطيط السياسي وتنفذ بمساعدة الأدوات الاقتصادية النيو كلاسيكية ( كالبرمجة الخطية ) فأن المجتمعات الديمقراطية في الاقتصاديات الحرة ، تؤدي فيها قواعد لعبة السوق المساومة السياسية لمختلف اصحاب المصالح ومن ثم فإن السوق نفسها ستحدد الابعاد المثلى للأسعار او القيم بالأستناد الى دالة الرفاهية الاجتماعية المحددة سياسياً . ولكن الامر يختلف في الاقتصادات الريعية المعتمدة على مورد واحد للبلاد تهيمن عليه الدولة غالبا ، إذ يظهر البعد السياسي الذي يؤطر دالة الرفاهية الاجتماعية في هذه البلدان الريعية ، ان ثمة تنازل بين الصوت الانتخابي الديمقراطي مقابل الحصول على تعويضات compensations مصدرها الريع المركزي للبلاد وفق معايير تقوم على العدالة التوزيعية الى حد مـا . او التنازل عن دفع الضرائب مقابل التنازل عن الصوت الانتخابـي .

ومع ذلك فان الأنموذج العراقي في تكوين دالة الرفاهية الاجتماعية بات يختلف اختلافا كبيرا عن النماذج الريعية الاخرى في العالم ، فعلى الرغم من ان الدولة تمتلك في قبضتها مايقارب من 80% من دخل البلاد وثرواتها ، فأنه يعد انموذجاً ريعياً انتقاليا والتحول به من الهيمنة الشمولية والاقتصاد المركزي الى بناء المؤسسات السياسية الديمقراطية  والتوجه نحو اقتصاد السوق .

ويعد التأطير السياسي  لدالة الرفاهية الاجتماعية العراقية في وضعها الراهن هو أقرب الى مفهوم Rawls 1971 الذي اوضح ان افضل تنظيم اقتصادي وافضل توزيع للسلع هو الذي يقرهُ مجتمع الاكثرية عندما يأخذ الصوت الانتخابي محله قبل ان يتعرف افراده على موقعهم في الترتيب الاقتصادي ومؤاثرتهم للديمقراطية قبل التحري عن المنفعة التفضيلية المسبقة ، لأن الديمقراطية في هذا الخصوص هي التي ستضمن الترتيب الافضل لحياة الفرد .

ولكن مشكلة الانموذج الاقتصادي الريعي الديمقراطي العراقي rental democratic economy ، يعد اليوم من اشد النماذج تناقضاً بين مسألة الكفاية ومسألة العدالة ، حيث اضاع هذا الانموذج للاسف الشديد اكثر من نصف عقد من التنمية لأنشدادهِ الى مسألة العدالة في التوزيع وميلانه المكثف لها على حساب الكفاية الانتاجية بسبب الانعزال بين مفهوم اقتصاد السوق ومفهوم اقتصاد الحكومة ضمن اجندة اقتصادية ضعيفة التوصيف. إذ يلحظ تاريخيا ان النشاط الخاص العراقي قد تعايش على الاقتصاد المركزي في مراحل مختلفة طوال السنوات السبعين الماضية لكي يكون له دوراً في تسيير عجلة النشاط الاقتصادي بكفاءة نسبية ويسهم في تكوين الناتج المحلي الاجمالي خارج قطاع النفط .  فالمعضلة الرئيسة مازالت كما نوهنا في تركيب الاجندة الاقتصادية للنظام الاقتصادي الديمقراطي الريعي في العراق ، حيث تتعايش على وهم ان القطاع الخاص واقتصاد السوق يمكن ان يتولى اعباء التنمية طالما ان دولة الرفاهية welfare state تؤدي وظيفتها التوزيعية للموارد والامكانات التي هي بقبضتها والناجمة عن موارد النفط بصورة تميل بأستمرار الى العدالة والشمول . في وقت ينتظر فيه القطاع الخاص دور للدولة لأضافة شيء الى موارده الانتاجية ليأخذ زمام المبادرة في الاستثمار والانتاج الحقيقي  ، وعلى هذا الاساس نشأ نظاماً اقتصاديا بات يفتقر للتعاون والتلازم  بين النشاط الاقتصادي الاهلي والنشاط الاقتصادي الحكومي ضمن الحركة الانتاجية العامة للاقتصاد ،وبهذا لم تتوفر رابطة تكاملية تستحق الذكر في تطوير النشاط الاقتصادي ورفع الكفاية الانتاجية وتحريك عجلة اقتصاد السوق ، وهي علاقة اشبه ما يسمى بالتمانع المشترك  mutual exclusive   . فكل جانب يعتقد ان الجانب الاخر سيمسك بزمام المبادرة الاقتصادية في بناء التنمية والشروع بالاستثمار الحقيقي ليلتحق به الأخر وهكذا اضاعت البلاد مجهودات سنواتها الخمسة الاخيرة في حلقة مفرغة سببها غياب الهوية الاقتصادية لتوصيف النظام الاقتصادي من حيث توافر الاسس والمباديء التي تحكم التصرفات الاقتصادية بغية مواجهة المشكلات وتوليد دالة منفعة اجتماعية تشكل الأمثلية المثلى optimum optimonum في استخدام الموارد وتوزيعها .

وان الخروج من مأزق الكفاية مع ضمان ذلك القدر المناسب من العدالة ، يقتضي توصيفاً اقتصادياً سياسياً جديداً لدالة الرفاهية الاجتماعية لكي يتاح حقاً بناء ستراتيجية بعيدة الأجل للموازنة العامة ضمن معطيات التفضيل الثاني second best  في اعادة تخصيص الموارد لبلوغ الامثلية الاقتصادية وفق ما تتناوله نظرية الرفاهية الحديثة . وإن على رأس هذا التوصيف السياسي ينبغي وضع المهام والحدود بين اقتصاد الدولة واقتصاد السوق وبيان الامتدادات و الادوار المتبادلة لكلا الاقتصادين ضمن اجندة او هوية اقتصادية تفصح حدود الكفاية ومستوى اتساقها مع حدود العدالة .

وعلى هذا الاساس ربما سنتحول قليلاً الى الادب الاكاديمي في مجال نظرية الرفاهية الاقتصادية الحديثة ، حيث ربطت الامثلية في بلوغ الكفاية الانتاجية بمستوى الاستقرار والتوازن الاقتصادي وامتصاص اية موارد فائضة او معطلة غير مستغلة وعلى رأسها قوة العمل العاطلة ، وهو معيار مهم ومؤشر لارتفاع مستوى الكفاءة .

وبغية إعادة توصيف النظام الاقتصادي العراقي وتوفير إطار سياسي اقتصادي لدالة الرفاهية الاجتماعية يضع البلاد امام اهمية الكفاية والتوازن والاستقرار مع ضمان العدالة ، فأن حلقة التمانع المشترك بين النشاط الخاص والنشاط الحكومي في الدولة الريعية الديمقراطية العراقية ، ينبغي ان تكسر حقاً عن طريق توليد دالة رفاهية اجتماعية تتحول فيها الدولة :

    من دولة راعية بحد اقصى الى دولة مساهمة بشكل اوسع في إدارة النشاط الاقتصادي مع القطاع الخاص . وعلى هذا الأساس فأن اي مشروعات للشراكة ستخدم بحق الأنموذج الاقتصادي للدولة الريعية الديمقراطية لبلوغ التقدم وتعظيم الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية . وعلى هذا الأساس فأن الستراتيجية المقبلة للموازنة العامة ينبغي ان تقوم على اسس اقتصادية اضافية في بناء اهدافها ومنها :

 

أ‌-     الشراكة مع القطاع الخاص في بناء الاستثمار والتنمية وتقوية النشاط الاقتصادي لضمان الكفاية والاستخدام الامثل للموارد على وفق مؤشر كمي حقيقي يوضح انخفاض البطالة وتعاظم مستويات النمو الاقتصادي الحقيقي .

ب‌-  جعل البنية التحتية المادية من مهام اقتصاد الحكومة ونشاطاتها المباشرة خلال السنوات الخمس القادمة على نطاق واسع .

ج- ازالة اشكال الدعم الحكومي غير المسوغ والهدر الفاضح فيه وتوجيهه نحو استهداف الفقر والطبقات الفقيرة والنهوض بها ، إذ مازالت تشكل هذه الطبقة قرابة 20% من مكونات المجتمع العراقي التي تتعايش حول خط الفقر مما يتطلب جهدا مهنيا وميدانيا لحصرها احصائيا والنهوض بها .

د- بناء الحلم العراقي بأن يكون دار سكن لكل اسرة عراقية وعد ذلك هدفاً نبيلاً في بناء الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للعراق الجديد .

هـ- التوجه نحو ضمان الدخل والعيش اللائق لكل من بلغ سن التقاعد في القطاع الخاص ذلك لألغاء فكرة ان الوظيفة العامة هي وثيقة تأمين لمن بلغ سن التقاعد . مما يقتضي التوسع في برامج صناديق التقاعد الخاصة وعد ذلك مدخلا ستراتيجياً للدولة العراقية العصرية التي تكفل الفرد وتقوي مفهوم الدولة الراعية لمواطنيها ممن تفانوا في خدمة البلاد .

إن تحقيق الاهداف الستراتيجية للموازنة العامة في إطار التوصيف الاقتصادي السياسي لدالة الرفاهية الاجتماعية وفق الأسس ألمشار اليها  انفاً  ، لابد من ان تكوّن إطاراً جديداً للنهوض بالكفاية الانتاجية التي تعاني البلاد من تدنيها والتي باتت عبئاً كبيراً على العدالة والرفاهية واستنزافاً لحاضر البلاد الاقتصادي ومستقبله .

وبهذا فأن النموذج المقترح في تحويل الدولة الريعية الديمقراطية من دولة راعية مطلقة تسير نحو فكرة العدالة المفردة الى دولة ريعية مساهمة تحقق الكفاية والعدالة في آن واحد ، سيكون اقرب الى ما وصفه الاقتصادي   Nash 1950  الذي عد دالة الرفاهية الاجتماعية وتوصيفها السياسي الاقتصادي بأنها دالة تحقق الامثلية إذا ماتوجه المجتمع غير المتعاون الى تقاسم الرفاهية بالتحول نحو المجتمع المتعاون وهو ما سماها باللعبة التعاونية cooperative game . وبهذا سيحقق العراق حتماً الكفاية الانتاجية والعدالة لبلوغ مستوى من التناسب بين الديمقراطية السياسية في إطار الدولة الريعية

حزيران 2012

انتهى

*) نائب محافظ البنك المركزي

لتنزيل الملف بصيغة بي دي أف

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: