تهدف هذه الورقة الى تقديم تحليل وصفي موجز لهيكلية الإقتصاد العراقي التي إزدادت تشوّها بعد إكتشاف النفط ، فبدلا عن أن تساعد العائدات من العملات الصعبة التي ترتبت على تصدير النفط الخام في تصحيح التشوّه في هذه الهيكلية، وفي المساهمة في إرساء قواعد إنطلاق لتنمية مستدامة، تقوم على تنمية النشاطات الإنتاجية والخدمية في القطاعات غير النفطية، بما يزيد ويعمق التشابكات الإقتصادية بين كافة النشاطات الإنتاجية، النفطية الإستخراجية وغير النفطية، وخصوصا في قطاعات الصناعات التحويلية والزراعة والمواصلات والتشييد والبناء، وغيرها من النشاطات الإنتاجية والخدمية المحلية، وبما يفضي الى تقليل الإعتماد على إستخراج وتصدير النفط الخام، وهو نشاط آيل الى النضوب في مستقبل غير بعيد في كل الأحوال.
وعليه، ستناقش الورقة، خصائص الإقتصاد العراقي وأثر إكتشاف وتصدير النفط الخام على طبيعة التطورات في مسارات التنمية الكلية، المتأثرة بدورها بنوعية السياسات التنموية، وخصوصا النفطية منها. ومن هنا يبدو مناسبا أن تقع الورقة في سبعة أقسام؛ الأول، يقدم خلفية عامة حول الإقتصاد العراقي وتطور هيكليته منذ تأسيس الدولة العراقية؛ والثاني، يقدم السمات الأساسية للحالة الريعية للإقتصاد العراقي. ويقدم القسم الثالث، نقدا مكثفا للسياسات النفطية المتبعة من قبل الحكومات والأنظمة الحاكمة في العراق، قبل وبعد عام 2003. أما القسم الرابع، فيطرح تصورا تنمويا إستراتيجيا نحو تنمية مستدامة تتخطى العوائق التي تفرزها الحالة الريعية. وفي القسم الخامس، يجري تقديم نموذج رياضي توضيحي للتصور التنموي الإستراتيجي الذي يهدف الى تحقيق هذا المنحى من التنمية المستدامة. ويقدم القسم السادس والأخير خلاصة مع بعض التوصيات المناسبة.
-
نظرة عامة موجزة عن هيكلية الإقتصاد العراقي
تشكّل العراق بحدوده الحالية بعيد الحرب العالمية الاولى. وتبلغ مساحته حوالي 430 ألف كيلو متر مربع، وتحدّه تركيا من الشمال وإيران من الشرق، وسورية من الغرب والسعودية من الجنوب الغربي والكويت من الجنوب. ويخترق البلاد من الشمال الى الجنوب نهران كبيران، هما دجلة والفرات اللذان ينبعان من المرتفعات التركية ويصبان في الخليج العربي بعدما يتحدان شمال البصرة، ليكوّنا نهر شط العرب الكبير، كما تنحدر روافد نهرية عديدة من شرق إيران، مثل ديالى والزاب الأعلى والزاب الأسفل وغيرها. تتدرج الأراض في العراق من مرتفعة في أقصى الشمال الى متموجة نزولا نحو الوسط والجنوب التي تشكل السهول الشاسعة والخصبة والتي يسهل ريها من مياه نهري دجلة والفرات وبعض تفرعاتهما. وتشكل الأراضي القابلة للزراعة أكثر من 20% من المساحة الكلية، إلا ان اقل من نصف هذه الأراضي قابل للزراعة، أو التي تُزرع عادةَ. وتُعتبر الزراعة هي النشاط التقليدي والأساسي في العراق، ولكنها عانت وتعاني من مشاكل كبيرة جدا، منها نظام الملكية ومشكلة حقوق الفلاحين، ومنها عوائق بيئية، تتعلق بترسبات الملوحة وبفيضانات النهرين المحتملة في كل ربيع، وشحة مياههما في الصيف وخلال فصل الشتاء، وذلك على الرغم من مشاريع الري والسدود المهمة التي أُقيمت في العراق منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي. وليس هنا المجال للخوض في دراسة القطاع الزراعي، ولكننا سنبين كيف تضائل دور هذا النشاط المهم في توفير الغذاء والطعام للسكان الذي كان ينمو بمعدلات تفوق ال3% سنويا، بينما لم ينمو الإنتاج الزراعي، وخصوصا بعد ستينات القرن الماضي، بأكثر من 1.5% سنويا.(1) فقبل إكتشاف النفط وتصديره، ولغاية منتصف الخمسينات من القرن الماضي، كان العراق يُعتبر بلدا زراعيا بصفة غالبة، حيث أن حوالي 70% من السكان كان يقطن في الريف، وكان النشاط الزراعي يستوعب ما يقرب من نصف القوة العاملة، ويسّد الإنتاج الزراعي الأستهلاك المحلي الى حد كبير، بينما كان العراق يصدّر الحبوب ومنتجات زراعية أخرى، كالتمور والقطن وبعض منتجات الثروة الحيوانية. إلا إن تخلف تقنية الإنتاج الزراعي، وسؤ تنظيمه مؤسسيا، وما حاق بالعلاقات بين قوى الإنتاج في هذا القطاع الهام من تردي وتوتر، وبسبب الهجرة المتصاعدة، منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، من الريف الى المدن والمناطق الحضرية القريبة، فضلا عن الهجرات الكبيرة الى بغداد العاصمة، كل هذه العوامل أدت الى تدهور هذا النشاط والى إنخفاض مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي. وبمقابل هذا التضاؤل في النشاط الزراعي، إرتفعت أهمية النشاطات الخدمية العامة والشخصية، فتوسعت أجهزة الدولة، بعدما أصبحت الحكومة تعتمد في ميزانيتها المتصاعدة على عائدات تصدير النفط الريعية، ولم تعد تعتمد على جباية الضرائب من السكان. كما تنامت النشاطات الخدمية والإنتاجية ذات الطبيعة الإستهلاكية الغالبة، الى جانب النشاطات الإسكانية أو العمرانية، وذلك على حساب نمو أية صناعات تصديرية غير نفطية مهمة. وهكذا تنامت الطبيعة الريعية للإقتصاد العراقي. ومن أجل التحليل اللاحق، لننظر الى التغيّرات الهيكلية للنشاطات الإقتصادية في العراق عبر بعض المقارنات الزمنية.
إن بروز نشاط تصدير النفط الخام، وخصوصا بعد منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وطغيان أهمية صناعة إستخراجه، اديا ليس فقط الى تضائل نسب مساهمات النشاطات الإقتصادية الأخرى في الناتج المحلي الإجمالي، بل وإلى تشويه الهيكل الإقتصادي، حيث بدأ النشاط الزراعي بالتراجع في اعقاب هجرات متوالية ومتواصلة من الريف الى الحضر، حيث توفرت فرص للعمل في مجال الخدمات والتشييد والبناء، فضلا عن إمكانية توفر بعض خدمات التعليم والصحة. واصبحت الحكومة هي المستخدم الأكبر لتشغيل الناس في أجهزتها، لاسيما في الجيش والشرطة والأمن. وبالنظر لبروز النزعة الإستهلاكية، في ضؤ تزايد عوائد الحكومة الريعية، ولإتساع الخدمات العامة والخاصة في المدن، فقد إرتفع حجم السكان من حوالي سبعة مليون نسمة في عام 1958 الى حوالي 22 مليون في عام 1997، صعودا الى ما يقرب من 35 مليون نسمة في عام 2012، حسب تقديرات وإسقاطات الجهاز المركزي للإحصاء، أي أن نمو السكان كان يفوق ال 3%، وبهذا يكون من أعلى معدلات النمو في العالم. وشكلت القوة العاملة في عام 1997 ما يقرب من ربع السكان، وإرتفع حجمها من حوالي 5 مليون شخص في عام 1997، الى ما يقرب من 8 مليون في عام 2011. أما توزيع قوة العمل المستخدمة فعلا في النشاطات الإقتصادية، فيبيّنها الجدول الآتي:
1.النشاط الإقتصادي نسبة، (%)، المستخدمين من قوة العمل
1997 2011 ا
الزراعة 15 11
النفط (مع الصناعة) 8 6
خدمات الحكومة العامة 28 30
خدمات شخصية 10 12
بقية النشاطات 27 18
عاطلون عن العمل 12 23 ا
المصدر: مستنبطة ومُطورة من بيانات الجهاز المركزي للإحصاء
ويلاحظ من الجدول أعلاه، إنخفاض نسبة الإستخدام في القطاع الزراعي، وتصاعده بشكل ملحوظ في قطاع الخدمات الحكومية العامة، مع إرتفاع أقل في نشاط الخدمات الشخصية، وإنخفاض طال بقية النشاطات، كالنقل والتجارة والإسكان والمال والعقارات والبناء والتشييد والكهرباء والماء، ولكن بدرجات متفاوتة. ويلاحظ إنخفاض نسبة المشتغلين في صناعة النفط الإستخراجية والصناعات التحويلية المحلية. أما نسبة العاطلين عن العمل، فقد تضاعفت، واضحت تشكل 23% من مجموعة قوة العمل المتاحة في عام 2011. وستكون صورة التشوّه في هيكلية الإقتصاد العراقي وزيادة إعتماده على قطاع أحادي، هو تصدير النفط الخام، اكثر وضوحا من خلال إستقراء جدول مقارنة لمساهمات اهم النشاطات الإقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي.
وتجدر الملاحظة بانه في عام 1960، ساهم القطاع الزراعي ب 17.6% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما ساهم قطاع الخدمات الحكومية العامة بنسبة 16.9% من الناتج المحلي الإجمالي. اما في عام 1970، إنخفضت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي الى 16.7%، بينما إرتفعت مساهمة قطاع الحكومة العامة الى 21.9%. أما الصناعات التحويلية، فحافظت على مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.6%، بين عامي 1960 و1970. (2) أما لو نظرنا الى التغيّر الهيكلي لمساهمات النشاطات الإقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة، إستنادا الى بيانات رسمية أحدث نسبيا، فسنجد الصورة التالية، كما يعكسها الجدول أدناه؛
-
مساهمات النشاطات الإقتصادية بالنسب المئوية
النشاط الإقتصاد % الناتج المحلي الإجمالي * ا
2003 2008 ا
الزراعة 14.3 7.5
التعدين والمقالع 51.0 44.8
الصناعة التحويلية 4.3 3.2
الكهرباء والماء 0.7 1.4
البناء والتشييد 0.9 3.2
النقل والمواصلات 3.2 4.2
تجارة الجملة والمفرد 3.3 5.5
المال والتأمين والعقار 4.1 8.1
ملكية دور السكن 3.8 10.1
خدمات عامةوشخصية15.0 18.1
الناتج المحلي الإجمالي** 100.0 100.0
*جرى تعديل على بعض النسب.
**بالأسعار الثابتة لعام 1988 – المصدر- موقع الجهاز المركزي للإحصاء في الكوكل.
وفقا للجدول أعلاه، ثمة ملاحظات واضحة يمكن تسجيلها:
-
إنخفضت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 50% في عام 2008، مقارنة بمساهمتها في عام 2003.
-
أن قطاع التعدين، صناعة إستخراج النفط الخام، أساسا، تكاد تشكل حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي.
-
ان قطاع الخدمات العامة والشخصية، والحكومية منها هي الطاغية، قد إرتفعت مساهمتها الى ما يزيد على 18 % في الناتج المحلي الإجمالي.
-
أن الصناعة التحويلية على ضئالة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي فقد إنخفضت الى مجرد 3.2% منه.
-
لقد تفاوتت نسب بقية النشاطات، وهي على كل حال، بعمومها، تقابل الحاجات الأستهلاكية في السوق المحلي، وليست معدة للتصدير للخارج.
-
أن تركيبة الإقتصاد العراقي وهيكليته، على وفق الصورة المعروضة اعلاه، تعكس إتكاليته، لكسب عملات صعبة أو فوائض من التجارة الخارجية، على قطاع تصدير النفط الخام اساسا. وأن الإنتاج المحلي لا يسد الأستهلاك، فلابد من الإستيراد، وهكذا إنفتح باب السوق العراقية على مصراعية للمستوردات من الخارج. وهكذا صار الشعب يسدد فاتورة طعامه وإحتياجاته الأخرى من عوائده من تصدير النفط الخام. واضحت هذه العوائد تشكل أكثر من 90% من ميزانية الحكومة. وعلى ذلك، توطدت السمات الريعية فى الإقتصاد العراقي، بغياب الإستراتيجيات الفعالة لتوجيه نسب متزايدة من العوائد النفطية للإستثمار في النشاطات السلعية غير النفطية. فما هي هذه السمات الريعية؟
2.السمات الأساسية للحالة الريعية في الإقتصاد العراقي
من الناحية النظرية يتمثل الريع بالميزة الإقتصادية التي يتمتع بها مورد معين، مثل موقع أرض زراعية أو عقار أو منطقة، أو بسبب المنفعة الإقتصادية التي يمتلكها مورد طبيعي نادر أو غير قابل للتجديد، مثل النفط أو الغاز أو المعادن النفيسة الأخرى. والريع، وفقا لنظرية ريكاردو، (3)، هو الدخل الذي تحققه الأرض الزراعية الحدية، نظرا لما تتمتع به من خصوبة، فهذا الريع هو دخل المالك المتحقق من ميزة الأرض التي يملكها. وبدون الدخول في مجال التنظير، فالريع، هنا، يتحقق من بيع النفط الخام الذي خلقته جهود الطبيعة وليس الإنسان الذي يستثمر ما يكفي لإستخراجه وإستغلاله. وحينما يصبح هذا الريع عائدا ماليا ضخما للمالك، كما في حالتنا، (الحكومة العراقية)، تترتب عليه نتائج تنموية إيجابية و/او سلبية، إعتمادا على السياسات التنموية التي تتبعها الحكومة.
تم إكتشاف النفط الخام في العراق قبيل الحرب العالمية الأولى، وجرى إستخراجه وإستغلاله تجاريا من قبل شركة النفط العراقية، IPC، في عام 1927. فشركة النفط البريطانية وشركاؤها حصلوا على إمتيازات إستخراج النفط الخام على مدى مساحة العراق كله، وإستطاعوا تثبيت إحتياطياته في خمسينات القرن الماضي بحوالي 38 مليار برميل. وكانت الشركة تدفع أتاوة محددة للحكومة، ولكن بعد عام 1954، صارت تشاركها في أرباحها، مما وفر للحكومة عوائدا كبيرة نسبيا، أخذت توجهها ليس فقط لبناء سلطتها الإدارية، إنما أيضا لتشييد السدود والنواظم للسيطرة على فيضانات النهرين ولتطوير مشاريع الري، وهذه كانت بالفعل توجّهات عقلانية، لإن النهوض بالإنتاج الزراعي، بإستخدام فوائض العوائد النفطية المعرضّة للنفاد والنضوب يعني تبني إستراتيجية لإدامة التنمية لصالح، ليس فقط الأجيال الحالية، إنما أيضا لصالح الأجيال القادمة. ولإختزال قصة تطور صناعة إستخراج النفط الخام، فإن الحكومة العراقية، بعد سقوط النظام الملكي في عام 1958، تبنت سياسة وطنية للسيطرة على ثروة البلاد النفطية، فأصدرت في عهد حكومة قاسم الجمهورية قانون رقم 80، لإنتزاع الإمتيازات لإستثمار أكثر من 90% من الأراضي الممنوحة للشركات الأجنبية. ومن ثم عمدت الحكومة اللاحقة الى الدعوة للقيام بالإستثمار المباشر في ستينات القرن الماضي. وبعد إنشاء شركة النفط العراقية التي تمكنت من تثبيت إحيتياطيات نفطية إضافية بمقدار 75 مليار برميل، قامت الحكومة بتأميم شركات النفط الأجنبية بعد عام 1972. وتقدر إحتياطيات النفط الأولية باكثر من 115 مليار برميل، وبموجب وكالة الطاقة الدولية، فإن إحتياطيات النفط تقدر ب 143 مليار برميل، وهناك تقديرات تضع إحتياطيات النفط في العراق بحدود ال 400 مليار برميل. وخلاصة القول، فإن العراق اضحى يملك مركزا فريدا في مقدار ثروته النفطية المتاحة، وانه سيلعب دور المجهز الأساسي للنفط في العالم. وإن هذه الثروة تدر الآن وستبقى تدر، ربما، لبضعة عقود، دخولا ريعية كبيرة جدا، فما هي مضامين هذا الدخل الريعي الكبير؟ (4)
تتسم الحالة الريعية بعدد من السمات، وذلك عندما تغيب السياسات النفطية المناسبة لتطويعها لصالح تحقيق تنمية مستدامة، اي لصالح الأجيال القادمة، وبعد نفاد النفط.
أ- أن الإقتصاد العراقي أصبح معتمدا إعتمادا شبه كلي على عوائد النفط الريعية، وبدونها تتوقف أو تنشل حركة النشاط الإقتصادي في البلاد، إذ لا يتوفر نشاط إقتصادي محلي آخر يمكن أن يضاهي نشاط تصدير النفط بمقدار عوائده.
ب- أن القطاع النفطي لا يستخدم عمالة مكثفة، نظرا لإن صناعة إستخراج النفط الخام هي صناعة كثيفة التكنلوجية، مما يترك الأغلبية الكبرى من العاملين تبحث عن قوتها في النشاطات الإقتصادية الأخرى المنخفضة الإنتاجية والأجر.
ج- أضحت الحكومة العراقية حاصلة، من خلال تصدير النفط الخام، على عوائد مالية كبيرة، بما يجعلها في غنى عن فرض رسوم وضرائب على الشعب من أجل إيجاد موارد لتمويلها.
د- أن العوامل أعلاه تجعل الحكومة منساقة الى تبني عقلية ريعية، فتصبح تسلطية و لا تشعر بحاجتها للحصول على رضى الناس، فتتفرد بالسلطة وتنحدر نحو الديكتاتورية، وقد لا يهمها إقامة نظام ديمقراطي تعددي، يتم من خلاله تداول السلطة.
أن السمات العامة أعلاه هي، في الواقع، ميول يمليها تصور الحكومة أنها تملك إستقلالا ماليا، وإنها هي المستخدم الأكبر والمستثمر والمتحكم بمصير الإقتصاد والمجتمع. إن بعض الحكام العرب في بعض دول البترول يتصورون أنفسهم يملوكون بلدانهم وما فيها من بشر! ويرى الدكتور حازم ببلاوي ولوشيني أن الحالة الريعية تولد عقلية ريعية لدى الحكومات المتحكمة. (5)
وتترافق مع ظاهرة الحالة الريعية، ظاهرة المرض الهولندي، وخلاصتها أن إرتفاع عائدات الدولة الريعية سيؤدي، في غياب سياسات مالية مناسبة، الى إرتفاع سعر صرف عملتها الوطنية، وهذا ما يؤدي، غالبا، الى إرتفاع أسعار صادراتها غير النفطية، الصناعية مثلا، في السوق الدولية. وبالتالي، سيؤثر الأمر على تنافسيتها، وربما يفضي الى تكسيد بضائعها المصدرة؛ وبذلك يتعثر نموها الصناعي غير النفطي. (6)
إن آثار الحالة الريعية وما يرافقها من عوامل، مثل المرض الهولندي، وتعاظم تسلط الحكومة وجنوحها الى الدكتاتورية والهدر، وتوجيه الموارد الريعية، للإستهلاك النهائي والتبذير، ولبناء الأجهزة القمعية ولشراء الولاءآت السياسية، وربما لتسهيل الفساد أو التستر عليه، هي آثار مشهودة في الكثير من الدول النفطية. وما نلاحظه في العراق هو ليس فقط وجود وقع لهذه الآثار، إنما أيضا، غياب لرؤية إستراتيجية للخروج من الحالة الريعية، وذلك ينعكس في نوعية السياسات النفطية التي تتبعها الحكومة، وفي طبيعة الخطط والإجراءآت الواردة في برامجها المنفذة.
وقبل الإنتقال لمناقشة السياسات النفطية المتبعة في العراق نرى مناسبا أن نوجز منظورنا الإقتصادي للآثار التعويقية التي تفرزها الحالة الريعية في العراق.
أ- التحول نحو الإستهلاكية؛ إن توفر عوائد كبيرة وسهلة من خلال تصدير النفط الخام، يوفر الإمكانيات للحكومة للتغلب على عجز الإنتاج المحلي، الزراعي والصناعي، عن توفير الغذاء والدواء واللباس للناس، وذلك من خلال فتح أبواب الإستيراد على مصراعيه. كما ستفتح الأبواب أمام التجارة الخارجية وستسمح لتحويل العملات الصعبة لإشباع الحاجات الإستهلاكية والسياحية وغيرها. وبهذا سيقل الحافز لدى الحكومة لتوجيه الإستثمارات لتطوير النشاطين الزراعي والصناعي في العراق. وبما أن حجم السكان في إزدياد مطرد، فالطلب الأستهلاكي سيكون متصاعدا بإطراد أيضا، مما يؤدي الى زيادة تخصيصات الإستهلاك في الميزانية العامة على حساب الإستثمار. وهذا الأمر ينطوي على غياب الرؤية الإستراتيجية الثاقبة لدى الحكومة التي يجب أن تتحسب لنضوب النفط، كمصدر للعملة الصعبة.
ب- تقوم نظريات التنمية الحديثة في البلدان النامية على تشخيص مصدر أو مصادر للفائض الإقتصادي الذي يمكن توظيفه للنهوض بالقطاعات الإنتاجية المتخلفة. وفي هذه الحالة لدينا في العراق فائضا إقتصاديا، يتحقق حاليا من تصدير النفط الخام، وأنه مرهون بزمن محدد، حيث سينفذ النفط بعد إنقضاءه. فالرشاد والعقلانية تقتضيان توظيف هذا الفائض نحو الإستثمار في النشاطات غير النفطية وفي الصناعات التي تستخدم النفط، كمولد للطاقة الإنتاجية أو التي تُصّنع المشتقات النفطية، مع حساب رصين للحاجات الإستهلاكية، على وفق تقديرات دقيقة للموازنة ما بين الإستهلاك والإستثمار، وهو حساب يوازي حساب الموازنة ما بين الحاضر والمستقبل. ولكن نمط التطور في هيكلية الإقتصاد العراقي الذي أشرنا إلية لا يوحي بمثل هذا التبصّر(7)
ج- ولمعالجة إغواء المداخيل الريعية، يتوجب النظر في مخاطر الإنسياق نحو الديكتاتورية، ولتعزيز النظم الرقابية لرصد الفساد وعدم الكفاءة.
د- إن النظام الريعي يضع الإقتصاد الوطني تحت تأثيرات التجارة الدولية السلبية دائما. فبدون تنويع في إنتاج الإقتصاد الوطني، فإنه سيبقى عرضة ليس فقط لتقلبات الأسعار والعملات، وإنما أيضا لضياع الفرص لتنويع صادرته الوطنية، كوسيلة لتجنب الإعتماد على تصدير مادة واحدة هي النفط. وفي هذا السبيل ينبغي إرساء السياسات المالية والتجارية والإستثمارية المناسبة لهذا الغرض.
3. في نقد السياسات النفطية في العراق.
مرّت السياسات النفطية بمراحل مختلفة من حيث دورها وتأثيراتها ونتائجها. ففي المرحلة الأولى، حيث كانت إمتيازات إنتاج النفط وتسويقه لدى الشركات الأجنبية، لم يكن للحكومة الوطنية دور في رسم سياسات إدارة صناعة إستخراج النفط الخام، بل هي كانت مجرد مستلم للأتاوة الريعية من الشركات، أو المستلم لحصتها من أرباح الشركات في مرحلة لاحقة. ولكن دورها أصبح كبيرا وحاسما بعدما أممت شركات النفط الأجنبية في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، واصبحت المالك لكل العوائد من الصادرات النفطية. وفي الوقت الذي بدأت فيه العوائد النفطية تتراكم في النصف الثاني من سبعينات ذلك القرن، وكانت مشاريع التنمية في مختلف النشاطات الإقتصادية والقطاعات المؤسسية تحت التنفيذ أو في مراحل الشروع بالتنفيذ، زجّ نظام صدام الحاكم، البلاد في حرب ضارية مع إيران، مما إستنزف الموارد المالية والمادية والأهم منها البشرية، إذ بعد ثمان سنوات من تلك الحرب الرعناء تبخرت إحتياطيات العراق البالغة 40 مليار دولار، وتدمرت مرافق كثيرة، وتعطلت التنمية. ولم يتعظ ذلك النظام، بل إندفع لإحتلال الكويت بطيش كبير، فمهد لحرب، قادتها الولايات المتحدة لإخراج الجيش العراقي من الكويت، ولإعاقة كل الممكنات العسكرية والإقتصادية والمالية للنظام الصدامي. وترتب على هزيمة العراق توقف تصدير النفط ثم تقنينه بكميات محدودة، بموجب برنامج النفط مقابل الغذاء. وهكذا تعطل إستخدام العوائد النفطية لإحداث أسس لتنمية مستدامة في العراق. وبقي العراق وبقيت صناعته النفطية، تحت الحصار الدولي لمدة ستة عشر عاما، إنتهت بغزو العراق في نيسان عام 2003، حيث تمت الإطاحة بصدام ونظامه المستبد. وإذا كان لنا أن نشير الى سياسات تستند الى إدارة الريع النفطي، فهي سياسات حكومة العهد الملكي، إذ منذ منتصف الخمسينات، شكلت مجلسا للإعمار، وخصصت أول الأمر 70%، ولاحقا جعلتها 50% من حصة الحكومة في أرباح الشركات النفطية، للإعمار ولبناء مشاريع السدود ونواظم الري الكبيرة والمهمة، وللنهوض بالبنى الإرتكازية في البلاد. أما ما بعد سقوط النظام الملكي في عام 1958، فقد إمتد الصراع مع شركات النفط الأجنبية لغاية منتصف السبعينات، وإنتهى بتأميمها، ولكن لم تمض بضعة سنوات على التأميم حتى زجّ صدام البلاد في حروب وحصارات وغزو، كما اشرنا آنفا. وعليه، فإن السياسات النفطية التي سنناقشها بإختصار هنا هي تلك التي إنتهجتها الحكومات بعد عام 2003، اي بعد زوال نظام صدام حسين. وسيجري التركيز على مناقشة سياسة العقود النفطية التي أبرمتها حكومة السيد المالكي مع شركات النفط الأجنبية، وخصوصا خلال عامي 2009 و2010.
بعد غزو العراق في عام 2003، طرح بريمر، الحاكم الأمريكي، توجيها لخصخصة الإقتصاد العراقي، وفي مقدمته خصخصة صناعة إستخراج النفط الخام، وعلى الرغم من ظهور مشايعين لهذا التوجيه، لم تلتزم به الحكومات العراقية المنتخبة لاحقا. وبدلا عن ذلك، أصدرت الحكومة في عام 2007 مسودة قانون للنفط والغاز الذي تضمن أهم النصوص الواردة فيها دعوة لإقامة نظام مشاركات في إنتاج النفط الخام مع شركات النفط العالمية. إلا أن هذا المشروع تعرض للنقد الشديد من قبل خبراء النفط والإقتصاد، (8)، وذلك لإنه يجعل الشركات الأجنبية شريكا في ملكية النفط العراقي، ويزيح سيادة الدولة على مواردها الطبيعية، النفط في هذه الحالة، ويمثل عودة الى نظام الإمتيازات التي رهنت موارد العراق النفطية لدى الشركات الأجنبية لما يزيد على نصف قرن من الزمن. فضلا عن إنتقادات موضوعية شديدة أخرى، لا يتسع المجال لعرضها هنا. وعلى الرغم من محاولة تقديم مسودة معدلة أخرى للقانون، إلا إنها لم تعرض على البرلمان، وتم في الأخير طوي صفحة هذا المشروع أو تأجيله. إما سلطة إقليم كردستان، فقد فسّرت المادة 112 في الدستور التي تخوّل الإقليم والمحافظات التي تملك حقول نفطية التنسيق مع الحكومة الفدرالية لإدارة المشاريع النفطية، فسّرتها على أساس إنها تعطيها الحق في إبرام عقود لإنتاج النفط مع شركات النفط الأجنبية في المناطق الواقعة ضمن الإقليم أو متاخمة له، في المناطق التي سُميت متنازع عليها. وهكذا أبرمت ما يزيد على 40 عقد من نوع مشاركات في الإنتاج مع شركات، قسم منها ثانوية في السوق الدولية، وذلك خلافا للمادة الدستورية الصريحة رقم 111 التي تنص على أن النفط هو ملك جميع العراقيين في جميع إنحاء العراق، وخلافا للمادة 112 في الدستور التي تجعل الحكومة الفدرالية المركزية هي المسؤولة عن إدارة الثروات النفطية في العراق، وإن بمشاركة الإقليم والمحافظات النفطية، لتحقيق أقصى المنافع للعراقيين جميعا. وعلى أية حال، ليس من أغراض هذا البحث الخوض في تفاصيل النزاعات القانونية لإستثمار النفط في العراق، فقد كتبنا في هذا المضمار مرارا سابقا. إلا أن الحكومة، برئاسة السيد المالكي، إستندت الى قوانين سابقة لتنظم الصناعة النفطية، فخولت وزارة النفط لترتيب عقود خدمية فنية، TSC، مع الشركات النفطية العالمية لزيادة انتاج النفط الخام في حقول النفط المنتجة، مثل، الرميلة ومجنون والحلفاية والقرنة 2، وكذلك في حقول أخرى مكتشفة وجاهزة للإستغلال، وهكذا تم إبرام 10 عقود أساسية من خلال جولتي مزادات مفتوحة في عام 2009، وتبعتها عقود إضافية في عام 2010، حيث وصل عدد العقود الى 20 عقدا مع شركات نفط عالمية معروفة، مثل الBP، شركة النفط البريطانية وشركة النفط الصينية الوطنية، CNPC، وشركة أكسون، Exxon، وشركة شيفرون وغيرها، وذلك مقابل أجور مقطوعة عن كل برميل نفط إضافي لزيادة الإنتاج، علما بإن العقود تهدف الى زيادة إنتاج النفط من مستواه الحالي الذي يقارب 2.4 مليون برميل يوميا الى 12 مليون برميل خلال عقد من الزمن. وهناك إتفاقيات أولية وقعت لإستغلال الغاز مع شركة شل، ولكننا سوف نستبعد دراسة تطوير الثروة الغازية في العراق من هذه الدراسة، لعدم إتساع المجال، كما سوف لا نقدم مزيدا من النقاش حول عقود المشاركات في الإنتاج التي عقدتها حكومة إقليم كردستان، بما يخالف الصلاحيات الدستورية للحكومة الفدرالية المركزية، وتضرّ بشكل كبير في الإستغلال الكفء للثروة النفطية لصالح كل أبناء العراق، بما فيهم الكرد.
ونوجز في أدناه أهم الملاحظات النقدية حول عقود النفط المعقودة مع الشركات المشار إليها سالفا.
1- صحيح أن العقود مع الشركات هي لتقديم خدماتها الفنية مقابل أجر محدد مقدما عن كل برميل نفط إضافي يتم إنتاجه. وصحيح أيضا أن الأجر المتفق عليه منخفض، أقل من دولار واحد عن كل برميل إضافي، لكن مدة العقود قد تمتد لربع قرن من الزمن، مما يجعل قرارات الإنتاج لا تقع تحت سيطرة وسيادة الحكومة الفدرالية، ذلك لإن مصلحة الشركات توجب أن تواصل تصدير النفط لإسترداد أرباحها وتكاليف إستثماراتها. لاسيما وإن الشركات أقامت مجالس لإدارة الحقول النفطية، يشارك بها ممثلون عن شركات النفط العراقية، في الشمال والوسط والجنوب، بنسبة 25%، بما يجعل القرارات النافدة هي للشركات التي يشكل ممثلوها الأغلبية في تلك المجالس.
2- ليس في العقود معايير واضحة لضمان مراقبة حسابات الشركات وتكاليفها. ولا لمراقبة قيامها بنقل المعرفة الفنية والتدريب للفنيين والعاملين في الحقول من العراقيين، حسبما لاحظ الخبير النفطي حمزة الجواهري. (9)
3- حسب الإتفاقات العقدية سوف تستثمر الشركات ما بين 50-60 مليار دولار خلال عقد من الزمن لتأهيل الآبار ولتطوير الإنتاج، وذلك مقابل فائدة تجارية زائدا 1% فائدة لايبر. والتساؤل هنا، إن هذه الإستمارات ستكون بحدود 5-6 مليار دولار سنويا، فهل هذا المبلغ هو فوق قدرة الميزانية المالية للحكومة العراقية التي صارت تتجاوز، مؤخرا، المئة مليار دولار سنويا؟
4- إن سطوة شركات النفط ستطال النفط الخام الذي ستنتجه الحقول المتعاقد عليها والتي تمثل 85% من مجموع النفط المنتج في العراق، وبعضها حقول عملاقة، مثل الرميلة ومجنون، وعلى مدى من الزمن قد يصل الى ربع قرن، مما سيؤدي الى تهميش شركات النفط العراقية، وشركة نفط الوطنية بالذات، وهي التي سبق أن لعبت أدوارا بارزة في المشاركة في إستكشاف الحقول وتطوير الإنتاج، والمفروض أن يعاد تأسيسها بقانون يصدر من مجلس النواب لتصبح فاعلا وطنيا في الإنتاج والتطوير النفطي، ولكن الإنتظار قد طال.
5- إن الزيادات المستهدفه لرفع مستوى الإنتاج من 2.4 مليون برميل يوميا، (م.ب.ي)، الى 12 م.ب.ي، خلال 8- 10 أعوام القادمة، تعني ان الهدف هو لمضاعفة العوائد المتوقعة من تصدير النفط الخام. والسؤال هو، هل يجب أن نعظّم العوائد المالية أم أن نعظّم تحقيق معدلات نمو التنمية المستدامة؟ ثم، هل دُرست إمكانية تحقيق هذا الهدف بواقعية؟ هل دُرست الإمكانيات الفنية المتاحة لنقل النفط من خلال أنابيب نقل متطورة؟ وهل تتوفر مخازن للفائض النفطي الذي قد لا يمكن تصريفه في الأسواق العاليمة؟ وماذا عن إمكانية إغراق سوق النفط بفائض قد يؤدي الى إنهيار الأسعار في السوق الدولية؟ وهل سيحافظ العراق على وحدة وإستراتيجية منظمة أوبك، للحفاظ على مستويات أسعار مناسبة للنفط في السوق العالمية؟
6- توجب إسترتيجية التنمية المستدامة، أن يتركز الإهتمام على توسيع الطاقات الإنتاجية في القطاعات غير النفطية، كالزراعة والصناعة وبقية النشاطات الإقتصادية، وأن يجري تصنيع النفط، أي إستخدامه في في الصناعات والنشاطات الإنتاجية ما دون الإستخراجية، او المسماة الداون ستريم، كصناعة المشتقات النفطية، والصناعات الكيمياوية وصناعات الطاقة والنقل. ولذلك يجب أن تكون هناك أولوية للطلب المحلي على النفط الخام، أي لتغذية طلب الصناعات المحلية المعتمدة عليه، ومن ثم تصدير الفائض. بينما إلتزم العراق، بموجب عقود النفط مع الشركات، الى زيادة الإنتاج والتصدير لربع قرن قادم! فهل تشكل سياسة نفطية كهذه، رؤية إستراتيجية لتحقيق تنمية مستدامة؟ وهل ستخرج العراق من فلك الريعية والحلقة الإستهلاكية والإتكالية على التجارة الدولية؟(10)
4– تصور تنموي إستراتيجي نحو تحقيق تنمية مستدامة.
إن التصور العقلاني الرشيد هو لإستغلال الموارد الطبيعية المتاحة والتي لها ميزة نسبية في السوق العالمية، كحالة النفط في العراق، من أجل ضمان مستقبل الإجيال القادمة، من خلال توظيف الفوائض التي تدرها الصادرات النفطية من أجل تنمية وتطوير النشاطات الإنتاجية غير النفطية، كالزراعة والصناعة، وغيرها، ذلك لإنها صناعات مستديمة، اما صناعة إستخراج النفط الخام فهي ناضبة، وربما خلال عقود قليلة، فضلا عن حالة عدم التيقن في ثبات الطلب العالمي على النفط الخام، بسبب إحتمالات بروز بدائل للنفط، كمصدر للطاقة. نوجز في أدناه، أهم معالم هذا التصور أو المدخل:
1. من أجل تقليل الإعتماد على الصادرات النفطية وما تفرزه من ظاهرة ريعية، ينبغي إعتماد مدخل للتخطيط الإستراتيجي، حيث تُرسم أهداف لتوظيف نسب متزايدة من هذه العوائد في الإستثمار في النشاطات غير النفطية، وخصوصا صناعات الدون ستريم والزراعة والصناعة التحويلية والنقل والمواصلات والبناء والتشييد والخدمات المواتية لزيادة الإنتاج غير النفطي.
2. العمل على مراقبة معدلات النمو في الإستهلاك النهائي، الشخصي والحكومي، ومحاولة دعم النمو في النشاطات الإنتاجية المحلية لسد نسب مهمة من الإستهلاك المحلي، عوضا عن الإستيراد من الخارج.
3. وضع سياسات مالية ونقدية أو مصرفية للحوؤلة دون إرتفاع سعر صرف العملة الوطنية، وذلك لتجنب آثار ما يسمى بالمرض الهولندي، حيث ينبغي زيادة عرض العملة المحلية في السوق العالمية، كلما ما مال سعر صرفها الى الإرتفاع.
4. إعطاء الأولوية لسد طلب الصناعات المحلية، كصناعات الدون ستريم والطاقة والنقل وغيرها، على النفط الخام، قبل تقرير حجم الصادرات من النفط الخام للعالم الخارجي. بكلمة أخرى، يجب أن يُنظر للتصدير للخارج على إنه فقط للفائض من النفط الخام المنتج. فالصين، على سبيل المثال، تنتج ما يزيد على 3.5 مليون برميل من النفط يوميا، ولكنها لا تصدر برميلا واحدا، بل بالعكس، فهي تستورد من النفط من العالم الخارجي بما يضاهي ويتفوق على إنتاجها المحلي منه.
5. تبني إستراتيجية تقوم على التوجّه تدريجيا الى تصنيع النفط الخام المنتج لا تصديره. والمقصود بالتصنيع ليس فقط تحويله الى مشتقات، إنما أيضا إستخدامة لزيادة الإنتاج في كافة النشاطات غير النفطية.
6. يجب أن يقوم التصور التنموي الإستراتيجي على ثلاتة عناصر، هي:
أ- تحقيق كفاءة إقتصادية في إستغلال وتخصيص الموارد الإقتصادية؛
ب- وضع السياسات المناسبة، مالية ونقدية، لتجنب السقوط في مهاوي الريعية؛
ج- توظيف السياسات، قصير ومتوسطة المدى، من أجل تحقيق الهدف المنشود في المدى البعيد وهو تحقيق التنمية المستدامة، ومواجهة المستقبل بعد نفاد مادة النفط في العراق.
5. نموذج رياضي توضيحي للتصور التنموي الإستراتيجي.
من أجل تحويل هذه الرؤية الإستراتيجية النظرية والوصفية الى منهج قياسي تخطيطي، قابل للتكميم والإحتساب بصورة علمية وعملية، نطرق باب الإقتصاد القياسي ونضع النموذج الرياضي والتوضيحي، بدون الدخول في حلّه رياضيا، بسبب عدم توفر البيانات اللازمة، من جهة، ومن جهة ثانية، لإننا نقدم النموذج هنا، كصياغة جاهزة لمن سيشتغل على توفير البيانات المطلوبة لحلّه ولتحليل نتائجه، كمؤشرات لازمة لمتخذ القرارات من قبل الجهات المسؤولة عن التنفيذ.
يحتوي النموذج على معادلات تطابقية وأخرى غير تطابقية، ومعادلات تعظيمية، تحت إشتراطات أو قيود محددة. ولبنائه، يتطلب الأمر وضع المختزلات اللازمة لجميع المتغيرات المستخدمة في النموذج.
لنرمز للمتغيرات أدناه بالرموز المبينة أزاءها :
1. الناتج المحلي الإجمالي Gross Domestic Product= GDP 1.
2. معدل نمو السكان 2. Rate of Population growth= Pr
3. معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 3. Rate of growth of the GDP= GDPr
4. الناتج المحلي الإجمالي بدون النفط 4. Gross Domestic Product, excluding Oil=GDP*
5. معدل نمو الصادرات النفطية 5. Growth rate of Crude Oil Exports= Eor
6. معدل نمو الصادرات، عدا النفط 6. Growth rate of Exports, excluding Oil= Er*
7. معدل التغير النسبي في المستوردات Percentage change in Imports=.∆M 7.
8. المستوردات من البضائع الإستهلاكية 8. Imports of Consumer goods= Mc
9. المستوردات من البضائع الرأسمالية 9. Imports of Capital goods= Mk
10. الطلب المحلي على النفط Dd 10. Domestic Demand for Crude Oil=
11. الطلب العالمي على النفط 11. International Demand for Crude Oil= Di
12. عرض النفط عالميا 12. International Oil Supply= Sio
13. أسعار نفط البرميل الواحد من النفط، عالميا 13. International Prices for oil per Barrel=Pio
14. بدائل النفط التنافسية في السوق العالمية 14. Competitive Substitutes for oil in World market
15. معدل نمو إنتاج النفط الخام 15. Rate of growth of crude oil Production= Xor
16. الصادرات غير النفطية 16. Non-oil Exports= E*
17. معدل نمو الإنتاج غير النفطي 17. Rate of growth of the Non-oil Production= Xr*
18. إنتاج النفط الخام 18. Production of Crude Oil= Xo
19. الصادرات من النفط الخام 19. Oil Exports= Eo
20. المستوردات 20. Imports= M
The model
Then;
-
1. GDPr > Pr, .1
-
2. Er* > Eor , .2
-
3. Eo = f (Dd, Di, Sio, Poi, Sis), . .3
-
4. ∆M = Mc↓+ Mk ↑ .4
5.GDP-GDP*=∆↓ .5 . 6. Max ∑E* .6
-
7. Max Eo, .7
Suject to :
-
Er* > Eor .8
9. Max Xo .
10. Subject to: Xr* > xor .10
ونوجز في أناه أهم دلالات المعادلات، المتطابقات وغير المتطابقات، وهي كلها معادلات يمكن حلها رياضيا بسهولة أو من خلال رياضيات المصفوفات، حين تكون البيانات مفصّلة او مجزأة. أما معادلات التعظيم، فحلها يتطلب برمجة خطية أو غير خطية حسب نوع تفصيل البيانات والسلاسل الزمنية او المقطعية التي قد تستخدم، حسب توفرها
.1 لنأخذ المعادلة رقم (1)، من المودل أعلاه؛ إذا كان الهدف الإستراتيجي هو تحقيق تنمية مستدامة، فلا بد من ضمان أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي بمعدلات تفوق معدل نمو السكان.
. 2وفقا للمعادلة رقم (2)، من أجل تقليل الإعتماد على الصادرات النفطية، يجب أن تضمن نمو الصادرات غير النفطية بمعدلات تتفوق على نمو الصادرات النفطية، وطبعا لا يعني ذلك تفوقها من حيث القيمة.
المعادلة رقم (3)، تقدم نموذجا فرعيا لدراسة العوامل التي تؤثر على حجم الطلب على النفط الخام، وتقدم في حلولها إسقاطات عن حجم الطلب والأسعار وغيرها من المتغيرات الأساسية، مما يساعد في تقدير حجم الإنتاج الأمثل للعرض في السوق العالمية.
. 4 من أجل الحد من الظاهرة الإستهلاكية، ومن اجل منع أرتفاع سعر صرف العملة الوطنية، للحد من اثر المرض الهولندي، تقيس المعادلة (4)، التوجه لزيادة الإستيراد من البضائع الرأسمالية على حساب تقليص إستيراد البضائع الإستهلاكية.
ترصد المعادلة رقم (5)، إتجاه حجم التغير في الفرق بين الناتج المحلي الإجمالي مع النفط والناتج المحلي الإجمالي بدون النفط ، فُتتبع السياسات المالية والنقدية لتقليل هامش الفرق بين حالتي الناتج المحلي الإجمالي، مع النفط وبدون النفط.
. 6 في المعادلتين، (6 و7)، تُجري مقارنة بين تعظيم الصادرات غير النفطية مع تعظيم الصادرات النفطية، تحت قيد محدد، وهو أن يكون معدل نمو الصادرات غير النفطية أعلى من معدل نمو الصادرات النفطية. وللوصول الى الحل يجري إستخدام البرمجة الخطية أو غير الخطية، إعتمادا على تفصيل البيانات المتاحة.
.7 في المعادلة، رقم (8)، يجري تعظيم كل من الإنتاج غير النفطي والإنتاج النفطي، تحت إفتراض أن معدل نمو الأنتاج غير النفطي يتفوق على معدل نمو الإنتاج النفطي.
8. يفترض النموذج بأن الحكومة تتمتع بسيادة مطلقة في إتخاذ القرارات الخاصة في إنتاج وتخصيص النفط الخام . أما هي وقد إلتزمت بعقود مع شركات النفط الأجنبية لربع قرن قادم ، قابل للتمديد، لتجهيز النفط وتصديره مقابل ربحية للشركات تتجاوز ال12%، فإن سيادتها للتصرف بالثروة النفطية ستكون محدودة، وبالتالي مقيدة في مجال التخطيط للخلاص من الحالة الريعية وآثارها المعوّقة لتحقيق تنمية مستدامة لصالح الجيال القادمة.
6.خلاصة مع بعض التوصيات .
إستعرضنا خلفية الإقتصاد العراقي والتطور في هيكليته، كسبب ونتيجة لتفشي الظاهرة الريعية فيه. كما عرضنا، بإيجاز، السمات العامة لظاهرة الريعية وآثارها المعوّقة أمام تحقيق تنمية مستدامة لا تعتمد، في المدى البعيد، على الريوع النفطية، بل تقوم على تطوير وتنمية النشاطات غير النفطية الإنتاجية، وهي نشاطات دائمية، بينما تكون صناعات إستخراج النفط الخام ناضبة وعرضة للزوال. غن التنمية المستدامة هي الضمانة لمستقبل الأجيال القادمة. وبشكل خاص، شخصنا زيادة تحول الإقتصاد العراقي نحو الإستهلاكية، مقابل تدني حجم وكفاءة الإستثمارات في القطاعات غير النفطية، لضمان ديمومة الإقتصاد العراقي وإستقراره. وتناولنا بعد ذلك، نقد السياسات النفطية في ظل جميع النظم الحاكمة منذ تشكيل العراق بحدوده الحالية، وركزنا على نقد سياسة العقود النفطية التي عقدتها الحكومة العراقية بعد عام 2003 مع الشركات النفطية العالمية. وقدمنا، بعد ذلك مدخلا أو تصورا لبناء إستراتيجية لتنمية مستدامة تتخطى معوقات الحالة الريعية الراهنة في الإقتصاد العراقي. ثم جسدنا هذا التصور بتقديم نموذج رياضي توضيحي، لإحتساب وتقييس مضامين ستراتيجية التنمية المستدامة، وتركنا النموذج معروضا للحلول الكمية من قبل الباحثين الذين قد تتوفر لهم البانات الإحصائية التفصيلية المناسبة.
ونعرض أدناه، بعض أهم التوصيات التي يخرج بها بحثنا هذا:
1. توصي الدراسة بأهمية فرض السيادة المركزية للحكومة الفدرالية على إدارة وتخصيص الموارد النفطية، بل وعلى كل الموارد الطبيعية الأخرى في العراق، فإنها، بموجب الدستور، ملكا خالصا للشعب العراقي كله، وليس لمنطقة أو فئة أو شريحة من هذا الشعب. وهذا الأمر يقتضي أن تراجع الحكومة إتفاقياتها الواردة في عقود النفط التي وقعتها مع شركات النفط الأجنبية، ليس فقط لتقليص المدد الممنوحة لها لتقديم خدماتها الفنية، بل للنصّ على أن للحكومة العراقية القول الفصل في تقرير حجم الإنتاج والتصدير والتطوير لصناعة إستخراج النفط، وربما أيضا لتمتين ربطها بالصناعات المحلية، وخصوصا صناعات الداون ستريم، والصناعات الأخرى غير النفطية، وإعطاء أولوية للطلب المحلي على النفط المنتج، ومن ثم تصدير الفائض فقط. وكذلك لدراسة مدى واقعية سقوف الإنتاج العالية لزيادة إنتاج النفط الى 12 مليون برميل خلال أقل من عقد من الزمان.
2. كما توصي الدراسة بوضع الخطط والسياسات الإقتصادية والمالية والنقدية، على وفق إستراتيجية عليا للتنمية المستدامة في الأمد البعيد، للخلاص من الآثار المعوّقة للحالة الريعية وما يصاحبها من “مرض هولندي”، ولتقليص هذه الآثار، تدريجيا، مع تنامي الصناعات المحلية غير النفطية.
3. أشارت الدراسة الى قانون النفط والغاز، ولم يتسع المجال لتشخيص كل فجواته، ولكن الحاجة الى هذا القانون تعتبر ملحة، على أن يعدّل على وفق مقتضيات إستراتيجية للتنمية المستدامة في العراق.
4. أشارت الدراسة الى تهميش شركات النفط العراقية، وبالذات شركة النفط الوطنية، ذات الباع في عمليات إستكشاف وتطوير صناعة إستخراج النفط في العراق. فتوصي الدراسة بأهمية إصدار القانون المناسب لإعادة تشكيل وتفعيل هذه الشركة، كلاعب مهم في تطوير وتخطيط إنتاج النفط الخام في العراق وفي التصرف به. كما يقتضي الأمر تفعيل دور شركات النفط العراقية الأخرى، في الشمال والوسط والجنوب.
5. العمل على تطوير الكوادر الفنية في شركات النفط الوطنية، والإستفادة الكاملة من خبرات الكوادر والخبراء العراقيين من الذين واكبوا تأسيس وتفعيل شركات النفط العراقية، وخصوصا منها شركة النفط الوطنية. كما لابد من رفد شركة النفط الوطنية ووزارة النفط بكوادر وأخصائيين إقتصاديين، متمرسين في مجال الدراسات القياسية الكمية، ومن الذي يستطيعون إعداد التنبؤات عالية الدقة حول مستويات الطلب العالمي على النفط، وإتجاهات أسعار البرميل الواحد من النفط الخام، وكذلك لبناء النماذج القياسية، من اجل وضع الخطط والسياسات المطلوبة لتنفيذ الأهداف العليا لإستراتيجية التنمية المستدامة في العراق.
6. وللخلاص من العقلية الريعية التي مدت جذورها في تقاليد عمل كل الحكومات العراقية المتعاقبة، لابد من تشديد الحاجة الملحة لترصين النظام الديمقراطي ولتخليص العملية السياسية الحالية مما تعانيه من عدم الإستقرار والإحتراب والتناقض وتضييع الوقت الثمين في المهاترات. بل ويجب العمل على إنشاء الإطار المؤسسي المناسب لضمان ليس فقط حسن إستخدام الموارد النفطية، إنما لفرض رقابة شعبية مستقلة على كيفية تصرف الحكومة في العوائد النفطية. فالحاجة الى مجلس أو مجالس لمناقشة السياسات النفطية وإقرارها، على غرار المجلس النفطي الأعلى، على أن لا يشكل بموجب معايير المحاصصة والطائفية والعرقية السائدة، إنما يرفد بذوي الخبرة والإختصاص ومن ممثلي المحافظات والإقليم النفطية، بغض النظر عن إنتماءآتهم السياسية والطائفية والفئوية.
*) مستشار إقتصادي سابق في الأمم المتحدة . البحث قدم للملتقى الإقتصادي العراقي العلمي الأول لشبكة الإقتصاديين العراقيين، بيروت؛ 30 مارس-1نيسان 2013 .
أهم المراجع
1. Randy Schnepf- “CRS Report for Congress”’- Iraq Agriculture and Food Supply: Background and Issues.
2. Kamil Al-adhadh- PhD Thesis, “Demand Analysis and Implications for Planning in Iraq”, 1977, Universty of Wales, UK.
3. David Ricardo, “On the Principles of Political Economy and Taxation”.
4. Shafiq, Tariq, (2009), “Harnessing Iraq`s Oil Wealth”. Paper, delivered at the on Conference on; “Iraq Petroleum 2009, Opportunities and Investment”, 7-8 December, 2009.
5. Hazem Beblawi and Giacomo Liciani, ed., (1987), “The Rentier State”. 1987 Instituto Affari Internazeonali, Croo Helm Ltd, Provident House, Burrell Row, Beckonham, Kent, BR3 IAT.
6. Economist,” The Dutch Disease”, November 26, 1977, pp. 82-83.
7. Chakravarty, S., “ The logic of Investment Planning”, North Holland, Amersterdam.
8.Challabi Munir, (2008), “The Internal Struggle for the Iraqi Oil Law continues”, received electronically from the author, January, 2008.
9. Al-Jawahiri, Hamza, (2011), A series of Articles on the IOCs management performances in the various awarded oilfields in Iraq, published on various Web-Sites, Alhewar, Akhbaar & Al-Jadidah, during April & May of 2011.
10. Al-Adhadh, Kamil, (2008), “Optimization of Policies for the Management of the production of the Crude Oil Extraction Industry in Iraq”, delivered at the International Conference on the Oil and Gas Policies in Iraq, organized by: The French Institute for Research, in cooperation with the Iraqi Center for Researches, February, 2008.
لتحميل ملف بي دي أف سهل القراءة والطباعة انقر على الرابط التالي
هيكلية الإقتصاد العراقي والمسألة الريعية- كامل العضاض-محررة
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية