التجارة الخارجية وموقع العراق في الاقتصاد الدولي
31/05/2013
تبنى العراق منذ العام 2003 سياسات انفتاحية واسعة نحو العالم وسعى الى تأسيس قواعد اقتصادية وتشريعية مهمة تعمل وفق آليات نظام السوق،اذ ساعد جلها على تحسين تجارة العراق الخارجية، بعد حصار اقتصادي دام اكثر من عقد ونيف من الزمن ادى الى تهميش العراق على خارطة النظام الاقتصادي العالمي وحرمانه من فرص الاستثمار والتقدم والتنمية والمعرفة التكنولوجية التي كان ينبغي ان تعينه على مواجهة المستجدات والتطورات السريعة التي حصلت للسوق الدولية وتغير قدراتها التنافسية بشدة خلال العقدين الماضيين.
وهكذا انعزل العراق عن محيطه الدولي في خضم عالم اجتاحته تيارات اندماج شركاته وتحرير اسواقه وتكاملها ولاسيما المالية منها وسيادة المذهب الليبرالي الجديد الذي اقتضى تحولات اقتصادية واسعة في مجال المعلوماتية تنسجم واممية النشاط الانتاجي عبر الدور الذي اخذت تؤديه الشركات المتعددة الجنسيات وازدياد الميزة التنافسية للمنتجات التي بدأت تولدها اسواق العالم .
وعلى الرغم من ذلك،نجد في تكامل الاسواق المالية التي صارت قيمة اصولها اليوم تزيد على 850 تريليون دولار،هي العنوان للعولمة المالية وبؤرة الهيمنة الرئيسة في عالمية الاقتصاد الليبرالي الجديد وهي في الوقت نفسه مثلت ديدن الانتقال في محاور التجارة الدولية ومقدمة التحول من نطاق اتفاقية الجات GATTالموقعة في العام 1948الى اتفاقية منظمة التجارة العالميةWTO ، حيث انصبت الاخيرة على تنظيم طيف واسع من تجارة الخدمات ولاسيما الخدمات المالية والتي سميت ملاحقها باتفاقية GATS في 1994بالاستناد الى جولة اورغواي.
ففي الوقت الذي لايتعدى فيه الناتج الاجمالي العالمي 70 تريليون دولار سنويا في الوقت الحاضر وكذلك لم تزد قيمة التجارة العالمية من السلع والخدمات سنويا هي الاخرى الا اقل من ثلث الناتج العالمي المذكور انفا ، نجد ان التجارة في تحويل العملات والمضاربة فيها تزيد على حوالي 4ونصف تريليون دولار يوميا في الاسواق النقدية والمالية الدولية وهي تجارة مضاربة مالية يزيد مجموعها السنوي على اكثر من خمسين مرة من مجموع التجارة العالمية في نشاط السلع والخدمات .
وفي خضم هذه التبدلات في الفضاء التجاري والمالي الدولي ، انتقل العراق الى مستويات تنظيمية مهمة في التحول الى اقتصاد السوق لكسر اثار عزلته الدولية عبر الانخراط في مساحة قوية من الليبرالية الاقتصادية والتي تركزت في تحرير مجالات تجارة العراق الخارجية من السلع والخدمات وسبل تمويلها ،على الرغم من تقلب تنظيمها، و كذلك مجالات التقدم الحاصل في الخدمات المالية وتحسين بيئة الاستثمار الاجنبي من خلال تشريع قانوني المصارف والاستثمار وقانون البنك المركزي، بما يسمح للمصارف الاجنبية العمل في العراق ويسمح بانتقال رؤوس الاموال والعملة وعلى نحو يخدم انفتاح العراق على العالم في ظروف اقتصاد ريعي مركزي صعب المراس في تفهم ليبرالية السوق ، والتي ادت مع ذلك الى توفير فرص ايجابية واسس قانونية وتنظيمية واعدة لبيئة الاعمال العراقية.
الا ان كل ذلك لايكفي لوضع العراق على مسار المنافسة الاقتصادية الدولية.اذ مازال هناك اكثر من خمسة آلاف نص من النصوص التشريعية المعرقلة للحرية الاقتصادية ونشاط السوق، تتولى الاوساط القانونية اليوم دراستها والتي يقضي الحال تعديلها لكي يتمكن العراق من الاندماج في التجارة والاستثمار الدولي وتهيئته للانضمام الى منظمة التجارة العالمية وفق شروط العضوية فيها كي تحصل بلادنا على شرط الدولة الاكثر رعاية ومبدأ المعاملة الوطنية.
مفارقة النفط والزراعة ومشكلات الانضمام الاخرى
في الوقت الذي يهيمن فيه الانتاج النفطي على نسبة تقارب 60%من مكونات الناتج المحلي الاجمالي الا انه لايستخدم سوى 2% من قوة العمل العراقية ، في وقت تشكل صادرات البلاد من النفط الخام وعوائده النسبة العظمى شبه المطلقة من الصادرات الكلية وايرادات الموازنة العامة وحصيلة البلاد من النقد الاجنبي . وازاء ذلك كله ، تستبعد منظمة التجارة العالمية النفط الخام بكونه سلعة ضمن مجموعة السلع التي يتاجر بها دولياً ، وهو الامر الذي مازال يشكل جوهر التناقض في انضمام العراق الى تلك المنظمة التي تستبعد النفط الخام . ولو سمحت منظمة التجارة العالمية بأدخال النفط في الحسبان لترك السعر يتحدد بالعرض والطلب العالمي بعيدا عن كارتيل او تجمعات المستهلكين والممثلة بالمنظمة الدولية للطاقة وخطوطها وبرامجها في ترشيد الطلب على النفط . او بعيدا عن كارتيل او تجمعات المنتجين الممثلة بمنظمة البلدان المصدرة للنفط ( اوبك ) ودورها في تقنين الانتاج والتأثير على الاسعار ، وهو الامر الذي وضع قيودا سعرية وكمية لسلعة تجارية ولكن ستراتيجية وسياسية في الوقت نفسه والتي تعد القوة المحركة لتجارة العراق الخارجية .
وعلى الطرف الاخر من الاقتصاد العراقي، نجد القطاع الزراعي الذي يضم ثلث سكان العراق وحوالي 22% من قوة العمل لايساهم في الناتج المحلي الاجمالي الا بنسبة لاتتعدى 5% مما جعل البلاد مستورد شبه صافٍ للغذاء اوالسلع الزراعية وان هذا القطاع المهم الذي تعرض للعسكرة والاهمال على مدى الاعوام الثلاثين الماضية ، لايمتلك المقومات الكافية في توفير الامن الغذائي من الحبوب او مستلزمات الانتاج الزراعية بعد تقلص المساحات الزراعية المنتجة بفعل التصحر والتملح والبنية التحتية الضعيفة فيه .
وهنا يتناقض القطاع الزراعي مع القطاع النفطي هيكلياً في اتجاهات الانفتاح على السوق العالمية وبجناحين مختلفين من حيث تأثير المنافع والتكاليف التجارية . فقد اصبحت قوى السوق او العرض والطلب العالمية تتحكم بقوة ، سواء في الطلب على النفط وتأثيره على قيمة الصادرات العراقية او في عرض المواد الغذائية وتأثيرها على كلفة استيرادات العراق منها .
وعند الرجوع الى فلسفة خفض القيود الكمركية بنسبة 24% والغاء القيود غير الكمركية وهي الشروط التي تفرضها منظمة التجارة العالمية على الدولة العضو في مجموعة البلدان النامية للعمل بها وتطبيقها خلال مدة ست سنوات من تاريخ الانضمام ، فضلا عن خفض الدعم الزراعي بنسبة 13.3% خلال مدة عشر سنوات من الانضمام .تصطدم هذه الشروط مع اوضاع السوق الزراعية وبورصة المواد الغذائية. فأذا ما نظرنا الى الاحتكارات الزراعية في العالم امام تدهور التنمية الزراعية في العراق ، نجد تهديدا حقيقيا للامن الغذائي يقيد البلاد في حالة الانضمام الى المنظمة ما لم يسبقه البدأ او السير في برنامج زراعي للاكتفاء الذاتي ونحن حقا سنكون بحاجة الى ثورة خضراء على غرار ما قامت به المكسيك والكثير من بلدان امريكا اللاتينية . خصوصا اذا ماعرفنا ان هنالك ما بين 3 الى 6 شركات كبرى في العالم تسيطر على 80 الى 90% محتكرة تجارة المحاصيل الزراعية والتحكم بالاسعار والكميات مثل الحنطة والسكر والشاي والقهوة والقطن والجوت … الخ. في وقت مازالت تهيمن عشر شركات متعددة الجنسيات على ثلث انتاج وتجارة البذور والمبيدات في العالم .
وعلى الرغم مما تقدم فأن دخول العراق الى الانتظام في الفضاء الاقتصادي العالمي عبر منظمة التجارة العالمية وتعامله مع المجموعات الدولية بشروط تسري على الجميع من الناحية الشكلية في وقت مازال فيه العالم منقسم بين دول الشمال والجنوب او دول المركز الصناعي المتقدم والمحيط النامي ، فما على العراق من خيار في مغادرة عزلته الدولية التي ورثها منذ الحصار الذي بدأ في العام 1990 والذي وضع العراق تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ، وهو الفصل الذي مايزال يوفر بيئة اقتصادية سالبة معادية للتنمية وربما معرقلة للاندماج الطبيعي في السوق العالمية. حيث يحظر هذا الفصل مستويات من الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة اوالتعاطي ميسر فيها مع العالم بسبب مايفرضه من قيود على بلادنا بكونها من البلدان عالية المخاطر ومهددة للسلم العالمي واباحة استخدام القوة ضده على الرغم من زوال الاسباب الموضوعية التي فرض الحصار الاقتصادي بموجبها على العراق .منوهين بأن انضمام العراق الى مناطق اقتصادية اقليمية ، كمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى وغيرها من الاتفاقات الاقتصادية في نطاق الجامعة العربية او غيرها من اشكال التكامل والاندماج الاقليمي ، لابد من ان تضع في الاعتبار تنفيذ الاحكام الواردة في اتفاقية منظمة التجارة العالمية ومن قبلها اتفاقية الجات والتي اصبح كلاهما قيدا ملزما على تنفيذ الاتفاقيات التجارية . وبهذا فأن اية تسهيلات تجارية في اطار الاتفاقيات الاقليمية تصبح دون فائدة او قيمة اذا كانت هي ما دون التسهيلات المقدمة في اطار منظمة التجارة العالمية .
ختاما ، ان بقاء العراق منعزلا عن محيطه الدولي سيكلفه الكثير بسبب فقدانه للمزايا والفرص التنظيمية والمنافع التكنولوجية والقانونية والمجالات الاخرى في الاستثمار والتحكيم ، وهي الفرص التي لايوفرها له الانعزال عن العالم ولايمكن من التحول التدريجي الى مجموعة البلدان المستقرة والقليلة المخاطر ، ذلك التحول الذي يشجع على التعاون الدولي في بيئة استثمارية وتجارية عالمية امنة.
*) نائب محافظ البنك المركزي العراقي السابق وباحث إقتصادي
خاص بشبكة الإقتصاديين العراقيين 31/5،2013
كل الشكر والتقدير لأستاذنا الاقتصادي الدكتور مظهر صالح على كل مقالاته.حقيقة لقد استفدت منها شخصيا بشكل كبير نظرا لأوجه الشبه الكثيرة بين الاقتصاد الجزائري والعراقي فكلاهما اقتصاد نفطي.وتمنيت أيضا لو كنت طالبا عند استاذنا الفاضل مظهر صالح حتى أتعرف عليه من قرب.كل رجائي ودعائي للمولى عز وجل أن ينصفه في قضيته الملفقة أمام القضاء العراقي وبايعاز من نظام
المالكيالظالم الذي لم يقدر للرجل قامته العلمية وخبرته والظروف الصعبة التي اشتغل فيها.القذف وذكر الاسماء يتعارض مع شروط النشر على الموقع ولذلك تم حذف الاسم
عن هيئة التحرير د. بارق شبر