التجارة الخارجية وموقع العراق في الاقتصاد الدوليمظهر محمد صالح
24/06/2013
ثلاثة وعشرون عاما مضت على وضع العراق وشعبه خلف قضبان الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة وهم يتطلعون اليوم الى بضعة كلمات تفوه بها الامين العام للامم المتحدة السيد بان كي مون في الايام القلائل الماضية وهو يزف البشرى بأن القضبان ستنحني والقيد سينكسر وسيزول الفصل السابع ويطلق سراح الشعب العراقي من سجنه المؤبد ولكني لم اسمع الا صوت واحدا هو صوة الشعب يدوي صرخة واحدة ما قيمة ان يبقى او ان يذهب الفصل السابع وهو جاثم كالسلحفاة منذ عهد بعيد طالما ان الزمن التاريخي في حياة الامة العراقية بات لاشيء بالقياس الى الزمن الكوني بعد ان طُبخت الامة واستوت امالها في اللاشيء من التقدم !
لقد منحنا سراب الفصل السابع طوال العقدين الماضيين شيء من العلاقات الدولية تكيف فيها العراق في مداخله ومخارجه وبأتجاهين مختلفين ، تمثل اولهما : بخلق نشاط اقتصادي هلامي وظيفته ادامة العيش خلف القضبان تمثل ببرنامج تجهيز ابان الحصار سُمي ببرنامج النفط مقابل الغذاء في العام 1996. عندما وضعت ايرادات مذكرة التفاهم لبرنامج النفط مقابل الغذاء في حساب حصري مغلق تحت تصرف الامين العام للامم المتحدة وحده لاغيره في البنك الفرنسي في نيويورك والمسمى PNB باريباس بعد ان رافقه انشاء صندوق الامم المتحدة للتعويضات بموجب القرار 687 في العام 1996 ذلك الصندوق الذي تزامن مع توقيع مذكرة تفاهم ، اذ اتاحت تلك الآلية للامين العام للامم المتحدة حصرا التصرف بموارد حساب النفط العراقي المصدر بموجب مذكرة التفاهم بعد استقطاع مالايقل عن 30% من كل برميل نفط عراقي مُصدر يستوفى كتعويض عن حرب الكويت التي حددت بحوالي 53 مليار دولار ، فضلا عن استقطاع 4% اخرى لسد نفقات فرق التفتيش الدولية التي كانت تبحث عن اسلحة الدمار الشامل في العراق .
وعلى الرغم من ان ذلك الحساب قد سد بعض عوز الشعب العراقي وسد حاجاته الاستهلاكية الغذائية الماسة ولكن بقيت الحاجة دون الحد الادنى ازاء تدهور مستوى المعيشة وارتفاع خط الفقر ليعيش في ظله اكثر من ثلاثة ارباع سكان العراق ، وانتهت البلاد بموجبه الى مستنقع من التخلف والضياع والدمار تعاظم مع فساد البرنامج الاممي نفسه الذي عد واحد من افسد البرامج في الاقتصاد السياسي الدولي المعاصر ، بسبب سوء الادارة والرشى وفساد عقود التجهيز . اذ لم اتصور في حياتي على سبيل المثال ان كتابا جامعيا في مبادئ الاقتصاد للكاتب الاقتصادي المخضرم بول ساملسون يصل العراق على حساب برنامج النفط مقابل الغذاء في اواخر تسعينيات العقد الماضي وكلفة استيراده 300 دولار امريكي للنسخة الواحده ، وحقيقة مهما يكن الامر فأنه لايتجاوز في كلفته ثلاثون دولارا ليس الا، وهكذا كانت تمول احتياجات العراق!
اما الاتجاه الاخر : فقد تمثل في تسويغ استخدام القوة العسكرية والتمهيد لاحتلال العراق بعد ان اقر مجلس الامن تكييفا للاوضاع في قراره المرقم 1441 في العام 2002 الذي لخص مشكلة حرب الكويت واسلحة الدمار الشامل التي جاءت في قراراته السابقة ليمهد استخدام المواد 41 و 42 والمادة 50 من ميثاق الامم المتحدة التي تبيح استخدام القوة والتهيئة لاحتلال العراق في اطار ما يهدد السلم والامن الدوليين .
فأذا كانت معالم المدخلات والمخرجات الاقتصادية والعسكرية التي تكيف فيها العراق تحت مظلة الفصل السابع قبل 9 نيسان 2003 فأن تلك المعالم قد اخذت اشكالا مختلفة بعد التاريخ المذكور ، الذي تمثل بأحتلال العراق عسكريا والتبدلات التي تعرضت اليها معالم الدولة والحياة السياسية والاقتصادية . فبدلا من الغاء الفصل السابع ، دخل العراق بسراب ذلك الفصل وبامتدادات وسعات اخذت تناسب الاوضاع العسكرية والاقتصادية الجديدة دون ان يخرج العراق من قيد هذا الفصل ، وظل ينُظر الى بلادنا على انها بلاد مازالت معتدية على السلام العالمي على الرغم من احتلالها واستسلامها وتبدل معالمها السياسية والاقتصادية ومضيها في طريق السلام.
فقد ولد هذا الامر من استمرار سراب الفصل السابع نتائج اقتصادية هجينة في تركيب نمط الاقتصاد واشكالية النظام الاقتصادي وعلاقاته الدولية التي يتعاطاها العراق كونه بلدا من بلدان المخاطر الاستثمارية العالية بالرغم من تمتعه بفوائض اقتصادية نسبية فعلية وممكنة .ولم تجنِ البلاد سوى انفتاح ليبرالي تجاري ومالي واسع ولكنه لم يتعد في نطاقه الوسط الاقليمي المحيط بالعراق او اجزاء من اسواق اسيا الاستهلاكية لاشباع نواقص الاستهلاك والتعويض عن منتجات كان يعوضها الاقتصاد المحلي في ظروفه الطبيعيه.
كما ظلت التكنولوجيا المتقدمة شبه محرمة من دخول البلاد ، ولم تبادر شركات المقاولات الدولية التي تنهض بالاستثمارات المتعلقة بالبنية التحتية على دخول العراق ولم تستجب لمطالب العراق الانمائية بالرغم من مغريات فرص العمل ، لكونها تنظر الى نشاط الاعمال بعين الريبة وقوة المخاطر التي يفرضها الفصل المذكور. ويلحظ على سبيل المفارقة ان مذكرة النفط مقابل الغذاء الموقعة عام 1996 امست المنفذ الوحيد لشركات النفط الاجنبية في الاندفاع لتطوير حقول النفط والاستثمار فيها ضمن جولات التراخيص لسلامة الوضع القانوني في مجالي التكنولوجيا والتحكيم ، في وقت حرمت البلاد من هذا الاندفاع في مجالات لاتقل اهمية في تقدم الحياة الاقتصادية والتنمية ولاسيما على سبيل الحصر قطاع الكهرباء والصناعة والتكنولوجيا والترابطات ذات العلاقة. ومن حسن الحظ فقد نجى اقليم كردستان من هذا الاجحاف وفق استثناءات بسبب قدرة الاقليم على توفير الادارة الذاتية بعد العام 1991 وان يحكم نفسه بنفسه، مما سهل لكردستان قدم السبق في استعادة بناها التحتية الاساسية بما في ذلك الطاقة الكهربائية التي كانت تفتقر لها لعقود طويلة من الزمن .
لقد استقطب حراك التنمية في العراق وانحدر نحو حافات هشة بسبب الحواجز التي وضعها الفصل السابع بخفة ومرونة غير مرئية او سرابا عال منذ 9 نيسان 2003 وحتى الوقت الحاضر، مما جعلت البلاد على سبيل المثال ورشة عمل متعطلة تنتظر الحصول على الطاقة الكهربائية ومستلزمات نهضتها ، في وقت توافرت للبلاد سيولة بالعملة الاجنبية ملائمة، وربما لاتقل اليوم عن مئة مليار دولار ولكن يبقى هناك معوق ومانع دولي يقف حائلا امام تقدم العراق وهو سراب الفصل السابع. واستمرت التنمية تزحف خلف ليبرالية السوق التي ينبغي الا تتعدى استيراد مفرداتها ماكانت توفره مذكرة التفاهم ولكن هذه المرة استيرادات مغلفة بالحلوى ووسائل المتعة والاتصالات وهي كثيفة الاستهلاك قليلة الانتاج والقيمة المضافة . انه نمط انتاجي خطير لايتطلع الى الانتاج بل ينكفيء خلف قضبان الفصل السابع الاستهلاكية .
من المفارقات اللافتة الاخرى التي تكيف اليها الفصل السابع في سرابه بعد مايس 2003 هي قرار مجلس الامن رقم 1483 الذي انشئ بموجبه صندوق تنمية العراق DFI تحت رقابة الامم المتحدة حيث صممت آلية مصرفية سميت OPRA لاستقطاع نسبة 5% من عائدات النفط والمنتجات النفطية والغاز المصدر من العراق والذي تودع اقيامه في هذا الصندوق ، والذي هو عبارة عن حساب مصرفي لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بعد ان تم بموجبه تحويل بقايا مبالغ مذكرة التفاهم واية ارصدة عراقية مجمدة جري تحريرها من قبل المصارف الدولية والتي جمدت بموجب اجراءات الحصار. ولكن الشيء الذي تبدل في هذه المرحلة مقارنة بمرحلة مذكرة التفاهم ، ان عوائد النفط انتقلت من المصرف الفرنسي الى المصرف الامريكي وان التصرف بها قد انتقل من يد الامين العام للامم المتحدة الى المجلس الدولي للرقابة والاشراف IAMB وهو لجنة مؤلفة من ممثلين من الامم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للجامعة العربية وربما هناك ممثل لوزارة المالية العراقية فيه ان وجد ، ويتولى المجلس المذكور الذي انشأ بموجب القرار 1546 في العام 2004 اداء مهمتين هما : ان الاموال المسحوبة من صندوق تنمية العراق تصب في مصلحة الشعب العراقي . وان استيراد النفط العراقي وتصديره يتم وفق افضل الممارسات في التجارة الدولية. ومن هذا المنطلق فان الحماية على اموال العراق من جانب دعاوى الدائنين التجاريين القضائية ممن لم تجر تسوية مديونيتهم مع العراق بموجب اتفاق نادي باريس ، لايمكن لهم اجراء الحجز القضائي على تلك الاموال بموجب هذه الآلية الحمائية وهو امر جاء امتداداً لما كان عليه حساب مذكرة التفاهم .
وبهذا لم يبتعد قرار مجلس الامن المرقم 1956 في 15-12-2010 الذي انتهت بموجبه الوصاية على اموال صندوق تنمية العراق الممثلة بالمجلس الدولي للرقابة والاشراف ولكن انتهت في الوقت نفسه الحماية الدولية على تلك الاموال وامكانية تعريضها لمخاطر الدائنين التجاريين والحجوزات القضائية وقرارات المحاكم التي بحوزتهم . وكان على العراق ان يصفي حساب صندوق تنمية العراق شريطة ان يضمن آلية دفع 5% تعويضات الى صندوق الامم المتحدة الخاص بحرب الكويت ضمن حساب مفرد. انها معضلة بناء حساب جديد وآلية اخرى في ظل عدم توافر الحماية الدولية كما ارادها قرار مجلس الامن في اعلاه ولم تتوفر امام العراق ازاء هذه الحراجة الا الفرصة التي قدمها الامر الرئاسي الامريكي بموجب قوانين الطوارئ والتي نصت على حماية اموال العراق في الحساب المذكور في اراضي الولايات المتحده بما ينسجم وتاريخ نفاذ قرار مجلس الامن رقم 1956المشار اليه انفا والذي اصبح ساري المفعول في 30 حزيران 2011 حيث وفرت الولايات المتحدة مثل هذه الحماية بموجب الامر الرئاسي و بقرارين مماثلين غطت فيهما الحماية الاميركية اموال العراق خلال السنوات 2012-2014.
ومن صفوة الكلام ، ربما سيخرج العراق من طائلة الفصل السابع في المدة القريبة القادمة ونغادر نحن شعب العراق قضبان ذلك الفصل المعادي للتنمية والتقدم ونحن نتطلع الى واحة الفصل السادس من ميثاق الامم المتحدة وهو الفصل المعني بالسلام والتقدم ومن ثم طي صفحة الحروب. وهنا لابد ان تتحقق القدرة على استعادة الطاقة الكهربائية قبل غيرها. كي نلمس حقيقة ان توقف كهربة العراق كان سببه قيود الفصل السابع وقواه الخفية العمدية التي حرمت البلاد في الحصول على تكنولوجيا الطاقة و ولوج التقدم والتنمية.
واخيرا ، ان ما جرى لهذا القطاع الحيوي هو ثمن سراب الفصل السابع ومسكناته منذ 9 نيسان 2003 والذي ولد لنا للاسف الشديد بلادا خالية من الصناعة والتكنولوجيا شديدة الولع بالمنتجات الاستهلاكية الجاهزة كي نأكل حتى ننام دون مستقبل يذكر … انه الفصل السابع…انها لعبة الامم.
*) باحث إقتصادي ونائب محافظ البنك المركزي العراقي السابق
لقد بين مقال الزميل الدكتور مظهر اهمية القيود التي فرضها الفصل السابع على تطور الاقتصاد العراقي الامر الذي اسهم بتحجيم دخول بعض المقاولين والشركات الاجنبية نتيجة استشفافهم لعامل مخاطرة مرتفع عند التعاقد مع العراق. ولا شك فإن الفصل السابع بعقوباته قد اضاف الى كلف الاستثمار كلفا اخرى كبيرة كالتأمين فالشركات الغربية الكبرى تحافظ على حياة موظفيها وخبرائها اعتقادا منها انهم مصدر القيم المضافة والارباح وذلك بالتأمين على حيواتهم بمبالغ كبيرة. وكلف التأمين هذه تطال ايضا السفر الى العراق بشتى مكوناته فبطاقة السفر الى العراق بالطائرة من اوروبا اغلى بكثير من بطاقة السفر الى بيروت او عمان. اما الشحن الى العراق فكلفه عالية لاسباب متعددة منها الفصل السابع والتأمين ومنها ايضا ضعف البنى التحتية للموانيء والاجراءات التي لا تيسر الدخول الانسيابي للبضائع ونسب التلف المرتفعة بسبب طرق الخزن والنقل ناهيك عن الكلف الاضافية التي يتسبب بها الفساد الاداري والذي صارت قصته معروفة للاسف الشديد
وفي الوقت الذي اتفق به مع الزميل د. مظهر حول التأثيرات السلبية للفصل السابع على تطور الاقتصاد العراقي عموما، الا ان تفسيره لتخلف الاستثمار بقطاع الكهرباء وبقاء هذا القطاع معطٍلا للنمو في بقية القطاعات على انه من تبعات الفصل السابع لوحده لا اجده مقنعا. لقد طالت عقوبات الفصل السابع كل ارجاء العراق ومن ضمنه اقليم كردستان ومع ذلك فقد نجحت مجهودات تطوير قطاع الكهرباء في الاقليم ولو بكلفة عالية نسبيا تتمثل في الاعتماد المفرط على تقنية التوليد عبر التوربينات بدلا من المحطات الحرارية للتوليد. المهم هنا ان الاقليم قد استطاع في ظل عقوبات الفصل السابع من توفير الطاقة لا لسكان الاقليم فحسب بل ايضا لبعض المناطق المتاخمة في محافظة كركوك وعلى ما اعتقد في نينوى. بالمقابل، فقد افشلت المركزية المفرطة لبيروقراطية وزارة الكهرباء محاولات الكثير من المحافظات للنهوض بقطاع الكهرباء. ومما هو اسوأ ان نتذكر الاهمال الواضح لمسؤولي هذه الوزارة في قضية التوربينات الغازية ال 56 التي تم استيرادها بكلف باهضة قبل بضع سنوات من شركتي جينرال اليكتريك الامريكية وسيمنز الالمانية الا لتبقى مرمية بالعراء لفترات طويلة!!
لقد كتب الكثير عن هذه القضية وانني انصح القراء والاخ الدكتور مظهر بالاستزادة عبر قراءة عدد من المقالات القيمة التي كتبها المهندس المخضرم عصام الخالصي عن هذا الموضوع قبل عدة سنوات علما بأن السيد الخالصي كان مديرا لمحطة كهرباء الدورة في الستينيات من القرن الماضي
خلاصة الامر، ان الفصل السابع كان احد عوامل عرقلة عجلة التنمية ولكن انعدام الكفاءة والفساد في قطاع الكهرباء كانا برايي عاملين لا يقلان اهمية عن ذلك الفصل إن لم يكونا هما العاملين الحاسمين في تأخر النهوض بهذا القطاع والاقتصاد العراقي عموما.