بعد سقوط الصنم في 2003، وبعد التخلص من النظام الديكتاتوري، لم تكن لدى سلطات الاحتلال، ولا القوى السياسية العراقية، أي برنامج سياسي، أو اقتصادي، أو اجتماعي، فيه تشخيص كامل للأوضاع وطرق العلاج لها. وقد تم رفع شعارات عامة تتعلق بالديمقراطية والرفاهية الاجتماعية، وتداول السلطة بشكل سلمي، تعبر عن رؤية تنسجم مع متطلبات وتطلعات الشعب العراقي في حينه، وخصوصا بعد فترة طويلة من الحكم الديكتاتوري المتعجرف، الذي أغرق العراق بالحروب والدماء والعوز، وانتشار الفساد المالي والولاء إلى الحزب أو الشخص. وبعد الاحتلال، انهارت الدولة العراقية ومؤسساتها المدنية والعسكرية. ومع ذلك، فقد تم خلال الفترة 2003 – 2005 إصدار قوانين مهمة، تتعلق بتنظيم إدارة الدولة من النواحي الاقتصادية والمالية، مثل قانون الإدارة المالية والدين العام، وقانون البنك المركزي، وقانون المصارف، وقوانين الموازنة، التي تصدر سنويا، وقوانين مهمة أخرى، إضافة إلى الدستور العراقي، وتم كذلك توقيع وثيقة العهد الدولي، واتفاقية المساندة مع صندوق النقد الدولي. وفي عام 2009 صدر قانون مجلس الخدمة الموحد. كل هذه القوانين والوثائق والاتفاقيات والالتزامات، فيما لو طبقت، كان من الممكن أن يتطور العراق إلى مستويات عالية في جميع النواحي الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، تتناسب مع إمكانياته المالية والبشرية. وقد أكدت جميع هذه القوانين والاتفاقيات، كما هو الحال في الدستور، على ضرورة ربط الموازنة العامة بخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإجراء المتابعة والرقابة والمحاسبة، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، ونشاط القطاع الخاص، على أسس الإدارة الرشيدة، بما يتناسب ومتطلبات الوضع الجديد في العراق. كما نصت على ضرورة وضع البرامج اللازمة لمحاربة الفقر، والقضاء على البطالة، وحل أزمة السكن، والتنمية الاقتصادية المستدامة، وتشجيع القطاع الخاص، ليأخذ دوره في النشاط الاقتصادي للعراق. وبدلا من ذلك، تم اتخاذ قرارات غير مدروسة، في بناء الدولة ومؤسساتها، غلبت عليها الحلول الارتجالية، والمصالح الطائفية والأثنية والحزبية والفئوية والفردية، وتم تعيين أشخاص غير أكفاء في الوظيفة، معتمدين على الولاء، بينهم الكثير من المتسلقين الفاسدين، الذين يجدون طريقهم في كل نظام وفي كل زمان، والذين ركبوا موجة التحزب الديني والطائفي, رفعوا شعارات الدين النبيلة، لكنهم غارقون في الفساد المالي والإداري. وأصبحت الوزارات والدوائر الحكومية، قلاعا محصنة للطوائف والمذاهب والقوميات، وذوي المحسوبية والمنسوبية، مع التخبط في تكوين الوزارات والهيئات، التي يترأس اغلبها المسئولون وكالة، وليس أصالة، حتى أصبحت الدولة تسمى بدولة الواوات. وفي غضون بضعة أشهر في عام 2010، تم القرار بتكوين 43 وزارة، منهم وزراء دولة بدون حقيبة وزارية، ومن ثم تخفيضها إلى 32 وزارة. وبالتأكيد مع استمرار رواتب الوزراء المعينين والمعفيين. وقد أدت هذه السياسات الارتجالية، إلى تضخيم الجهاز الإداري، حتى أصبح أكبر جهاز في العالم من حيث عدد السكان. وحسب تصريحات وزير التخطيط الحالي، فان عدد الموظفين الدائمين في الدولة، بلغ أكثر من 3,5 مليون موظف، يضاف لهم حوالي مليون آخرين من المتعاقدين والعاملين بأجور يومية. كل هذا أدى إلى تعقيد التعامل والبيروقراطية، وإلى غياب التعامل المهني مع المهام المطروحة، وانتشار الفساد الإداري والمالي، وتعميق اعتماد الفرد العراقي على الدولة ووظائفها. إن كشف التدفق النقدي، وللتوضيح، يعني حصر الأموال التي تتسلمها الحكومة من الموارد الداخلية والخارجية، والأموال التي أنفقت، وتحديد العجز في الأموال، وكيف تمت تغطيته، أو الفائض المتحقق، وكيف سيتم استخدامه. إلا أنه حتى هذه اللحظة لم يتم تقديم الحسابات الختامية للموازنة، ولا كشف التدفق النقدي. ولم يتم ربط الموازنة بخطط التنمية الاقتصادية، لا بخطة وزارة التخطيط الأولى، التي وضعت عام 2005، ولا بالخطط التالية. مما أدى إلى اعتراف وزارة التخطيط، في مقدمتها عن موازنة عام 2014، بضعف ارتباط الموازنات العامة بخطط التنمية التي أقرتها الحكومة. إن عدم تطبيق هذه القوانين أدى إلى الفوضى بإدارة الدولة وأموالها، وعدم التمكن من مراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة، وتنفيذ المشاريع التي تم إقرارها، من قبل المؤسسات الخدمية والوزارات. وإذا ما تمت الرقابة، فعلى التنفيذ المالي فقط، وليس المادي أو الزمني. وأكدت وزارة التخطيط في مقدمتها عن موازنة عام 2014، أن هناك أكثر من 6000 مشروع لم يتم إنجازها، تكلفتها أكثر من 228 تريليون دينار، وأن هناك 70 تريليون دينار، سلف مسحوبة من قبل مختلف تشكيلات الدولة، لم يتم تسويتها، وأن أكثر من 10 تريليون دينار، تم سحبها على المكشوف، مع عدم وجود تخصيص لها في الموازنات المختلفة. وفي تصريح لمكتب المفتش العام لإعادة أعمار العراق، في تقريره الفصلي الثالث لعام 2012، الذي يستعرض فيه نشاط المكتب المكلف بمراقبة وتدقيق أوجه الإنفاق للأموال المستخدمة في إعادة أعمار العراق، ذكر أن إجمالي المبالغ التي صرفت على البنى التحتية وإعادة أعمار العراق، خلال الفترة من حزيران 2003 ولغاية أيلول 2012، قد بلغت 202,91 مليار دولار، منها 51,08 مليار من الصندوق الأمريكي، الذي يشمل الأموال المنفقة من قبل وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، على المشاريع الخاصة بإعادة الأعمار، و
منها أيضا أموال الصندوق العراقي، الذي يشمل الأموال التي أنفقت تحت إشراف سلطة الإتلاف، و 12,07 مليار دولار من المتبقي من حساب برنامج النفط مقابل الغذاء، و126,01 مليار دولار، تمثل مجموع ما انفق من الأموال المخصصة تحت بند النفقات الاستثمارية في الموازنة العامة، من 2003 وحتى أيلول 2012. إضافة إلى 13,75 مليار دولار، من الدول والجهات المانحة والمقرضة، منها 6,51 مليار دولار، منح قدمتها اليابان والاتحاد الأوربي والمملكة المتحدة، و7,24 مليار دولار، قروض بشروط ميسرة، من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والأمم المتحدة. ومع ذلك لا يوجد أي حصر للمشاريع التي أنجزت من قبل الحكومة، ولا توجد مطابقة لسجلاتها مع سجلات مكتب المفتش العام لإعادة أعمار العراق. وفي هذا المضمار، وفي تصريح لرئيس إحدى هيئات التفتيش في هيئة النزاهة في بغداد، في 22 أيلول عام 2008، قال (( على ضوء الحالات التي قمت بالتحقيق بها شخصيا، أعتقد أن 18 مليار دولار على الأقل، قد ضاعت بسبب الفساد والهدر، أكثر من نصفها من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، ومن هذه ال18 مليار، أعتقد أن ما لا يقل عن 4 مليار دولار ضاعت بسبب الفساد والأعمال الإجرامية في وزارة الدفاع وحدها)).
ومما يؤكد هذه المؤشرات، ما يذكره ديوان الرقابة المالية في تقريره، الذي صدر في آذار 2013، عن عام 2012، حيث ورد في الفصل الأول منه بعنوان “الملاحظات الرقابية المشتركة” ما يؤكد على وجود مؤشرات كثيرة على سوء الإدارة، والفساد المالي، وإصرار الكثير من التشكيلات الإدارية للدولة على عدم تطبيق القوانين المرعية. حيث لاحظ التقرير، عدم جدية بعض الوزارات والتشكيلات التابعة لها، في تصفية ومعالجة الملاحظات الواردة في تقارير ديوان الرقابة المالية، رغم تأكيداته ومتابعاته المستمرة. ولدى قيام الديوان بأعمال الرقابة والتدقيق التي أبرمتها الجهات الحكومية الخاضعة لنطاق عمله تم تأشير الملاحظات التالية:
1- المبالغة في وضع الكلفة التخمينية أو عدم كفايتها للغرض الذي وضعت من أجله، مما يدلل على عدم الدقة في وضع تلك الكلف أو تحديثها.
2- عند فحص عينة من خطابات الضمان وعددها 3693 خطاب نافذ المفعول، و882 خطاب غير نافذ، للفترة من تموز 2010 ولغاية كانون أول 2011، تبين أن بعض مكاتب المفتشين العموميين، لم تقم بتدقيق استمارات تلك الخطابات، لغرض متابعتها وتجديدها. وهذه عينة فقط.
3- توجيه دعوات إلى شركات غير رصينة وأخرى لم يتحقق من وجودها أو وهمية.
4- وجود بعض المشاريع التي أبرمت مع جهات التعاقد، ولم يتم المباشرة بها، أو بوشر بها ولم تنجز، بسبب عدم تهيئة الموقع من قبل جهة التعاقد، من حيث عائدية الأرض، أو من حيث وجود عوائق لم يتم إزالتها كلا أو جزأ، قبل الإعلان عن تلك المشاريع.
5- بلغ عدد المشاريع المسحوبة خلال عام 2012 وحده، بحدود 331 مشروعا بسبب عدم الاستجابة للإنذارات، أو توقف الشركة عن العمل، منها 321 مشروعا تم سحبها فعلا، و10 مشاريع تم إعادتها إلى نفس المقاولين.
6- صرف مبالغ، أو دخول بالتزام، دون وجود تخصيص لها في الموازنة العامة. إضافة إلى التجاوز بالصرف على التخصيص المعتمد، وتبويب بعض المصاريف في غير التبويب المحاسبي الصحيح، لتلافي إظهار التجاوز على التخصيص.
وكل هذا يعني صرف أموال للمقاولين، بدون إنجاز الأعمال الموكلة لهم، وضياع الأموال التي تسلموها.
7- تدني نسب التنفيذ لفقرات الموازنة الجارية عن التخصيص المرصد، ولأغلب الدوائر، مما يشير إلى المبالغة في وضع التخصيص السنوي، الأمر الذي يتطلب توخي الدقة عند تقدير التخصيص.( بلغت نسبة التنفيذ في عام 2011 83.79%).
هذا، وتؤكد جميع تقارير ديوان الرقابة المالية، على أن نسبة تنفيذ الموازنة الجارية تتراوح بين 78% و88%، وهو ما يؤكد وجود فائض في تنفيذ هذه الموازنة، لا يجوز تدويره إلى الموازنات القادمة. وحتى الآن لا يوجد كشف بها وبكيفية استخدامها.
8- عدم مراعاة الدقة في وضع التقديرات السنوية للموازنة الاستثمارية، ولم تقم بعض الإدارات باستغلال الموارد المالية المخصصة لمشاريعها الاستثمارية، حيث كانت نسبة تنفيذها صفر.
9- إن اللجنة المكلفة باكتشاف مخالفات ( ازدواجية استلام الموظف لأكثر من راتب، من جهتين حكوميتين، أو مع الراتب التقاعدي، أو القروض الميسرة، أو رواتب الحماية الاجتماعية)، اكتشفت أن هناك 22921 مخالفة حتى 31 كانون أول 2012، منها 5625 مخالفة في عام 2012 وحده. هذا مع العلم أن بعض التشكيلات الإدارية للدولة لم تقدم كشوفها حتى تاريخ إعداد التقرير في آذار 2013.
إن كل تقارير ديوان الرقابة المالية المنشورة من عام 2004، وحتى آخر تقرير صدر في آذار 2013، تؤكد على وجود مؤشرات كثيرة على الفساد الإداري والمالي، سواء من حيث هدر المال العام أو تعيينات الموظفين. إلا أن الديوان لم يستطع حتى الآن، من اتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاربة هذه الظاهرة ومحاسبة المخالفين، والسبب بشكل أساسي يعود لعدم تعاون الأجهزة المعنية بالرقابة، وخصوصا البرلمان، أو الأجهزة الأخرى داخل الدوائر المعنية، ومن عدم استخدام هذه التقارير لمحاسبة المقصرين ومعاقبتهم، وفرض تطبيق القوانين. هذا مع العلم أن هذه التقارير، تتناول بشكل عام الجانب المحاسبي، وتطبيق التعليمات المتعلقة بالإجراءات، وعلى أساس عينات فقط. والغريب أن جميع التقارير الحكومية تتناول في بحثها المشاريع المتلكئة، ولا تتناول المشاريع المكتملة، والتي من الممكن أن تكون عمليات الفساد المالي فيها أكثر.
إن غياب النظام المحاسبي الالكتروني، في أغلب تشكيلات المؤسسات الحكومية، قد أدى إلى غياب الرقابة الآنية على حسابات هذه التشكيلات، وعدم تمكن ديوان الرقابة المالية، من إنجاز مهمته الأساسية، في تقديم الحسابات الختامية، وكشف التدفق النقدي، في وقت لا يتعدى نهاية الشهر الرابع من كل سنة. ورغم الدعوات الكثيرة لاستخدام الأنظمة الالكترونية في تنظيم الحسابات، والمساعدات الدولية التي حاولت تطبيق هذا النظام، إلا أن المقاومة الشديدة من بعض أجهزة الدولة، قد أدى إلى عدم تطبيق ذلك. وهذا ما أدى إلى تأخير تنظيم الحسابات، وتأخير تقديم التقارير اللازمة للديوان. ومن المعلوم أن أغلب الدول، التي تلتزم بقوانينها، تقوم بمتابعة الإنفاق بشكل دوري، وفي بعض الأحيان بشكل يومي. وسنخوض في تقارير ديوان الرقابة المالية، فيما يتعلق بالتشكيلات الإدارية في المؤسسات الحكومية العراقية، الأكثر فسادا في مكان آخر من هذا البحث.
ونظرا لغياب الإفصاح والشفافية في الموازنة العامة للعراق، سنعتمد على قسم من التقارير الدولية التي يشوبها القليل من عدم الدقة لاعتمادها، في بعض الأحيان على المسح الإحصائي لعينات من المجتمع العراقي، وليس كل المجتمع.
في بحث بعنوان “نظرة على الفساد ومحاربته في العراق” نشر في 10أيار 2013، من قبل التحالف الدولي ضد الفساد – الشفافية الدولية، ذكر أنه، (( بسبب أعمال الاختلاس الكبيرة، وتهريب النفط، وغسل الأموال، والرشوة المنتشرة في الجهاز الإداري البيروقراطي، صنف العراق كإحدى أكثر الدول فسادا في العالم.)) وهذه ظاهرة تؤكدها كل التقارير المحلية، وأن ((مهمة محاربة الفساد، ليست فقط صعبة، وإنما هي عالية الخطورة. ففي الأسبوع الأخير تم قتل أحد أعضاء هيئة النزاهة في شوارع بغداد. وإن التدخلات السياسية في أجهزة محاربة الفساد، وتسييس قضايا الفساد، وضعف منظمات المجتمع المدني، والتراجع الأمني، ونقص المصادر المالية والبشرية، وضعف الإجراءات القانونية، قد حدت من إمكانية الحكومة، في محاربة تصاعد عمليات الفساد. ولذلك فان ضمان نزاهة إدارة أموال الدولة المتنامية، ستكون من التحديات الأساسية في المرحلة القادمة.))
وحسب تقرير الأمم المتحدة الذي صدر في عام 2013، ((أن العراق لم يستطع من تقديم الخدمات الأساسية يشكل كفء، وحوالي 23% من العراقيين في فقر مدقع، وأن الاقتصاد العراقي، خارج قطاع النفط، يبقى ضعيفا، وغير قادر على خلق فرص عمل لقوى العمل النامية، وأدت إلى وجود بطالة بمعدل 20%، وفي عام 2011، وصلت حصة الفرد العراقي من الناتج المحلي الإجمالي، إلى المستوى الذي تم الوصول إليه عام 1980)). هذا رغم المبالغ الهائلة التي دخلت العراق، ومبالغ الموازنات الانفجارية في السنوات الأخيرة. مع العلم، أن عدد الذين يدخلون سوق العمل من العراقيين سنويا، يبلغ أكثر من 450 ألف شخص.
وفي تقرير للبنك الدولي نشر في عام 2011، إن 89 % من المراجعين للدوائر الحكومية في محافظة كربلاء، يقومون بدفع ( هدية ) إلى المسئولين الحكوميين من أجل إنجاز العمل. أما في بغداد، فإن أكثر من 70% من الشركات تعرضت لطلب الرشوة في السنة السابقة. وفي نفس التقرير، وفي مجال المشاريع تبين أن 64% من المشاريع المتوسطة كانوا يدفعون (هدية) من أجل الحصول على عقد حكومي في العراق عام 2011، وقد تصل النسبة إلى 100% في بعض المحافظات، مثل محافظة البصرة. وحسب دراسة قامت بها ( النزاهة المالية الدولية) في عام 2012، تعتمد على إحصائيات صندوق النقد والبنك الدوليين، تم تقدير الأموال التي غادرت العراق بشكل غير قانوني خلال الفترة بين عام 2001 وعام 2011، ب65 مليار دولار، أو ما يعادل ضعف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2005، أو 56% منه عام 2011، وذلك بسبب أعمال الغش الكبيرة، والتهرب من الضرائب وغسل الأموال. ومن أجل الإسقاط السياسي فقد قامت بعض المصادر، التي يجب أن تكون موثوقة، بالمغالاة في تقدير مبالغ عمليات الفساد وتهريب الأموال، التي أصبحت مصدرا لمعلومات بعض المؤسسات الدولية. ففي تقرير مكتب المفتش العام لإعادة أعمار العراق في عام 2013، وعلى ضوء ما صرح به ديوان الرقابة المالية ، الذي قدر المبالغ التي تهرب سنويا ب 40 مليار دولار، من خلال مخطط غسل الأموال، التي تستخدم نشاطات البنك المركزي بسبب الفساد. وهو شيء غير منطقي، إذا ما تم ربط مبيعات البنك المركزي من العملة الصعبة، وحجم استيراد القطاع الخاص سنويا. إن مجموع ما باعه البنك المركزي العراقي في عام 2010، قد بلغ 36,2 مليار دولار، وارتفع إلى 39,9 مليار دولار عام 2011، وبلغ 48,5 مليار دولار عام 2012. وارتفع إلى 51.3 مليار دولار عام 2013.
إن هيئة النزاهة، ورغم كل العراقيل والصعوبات التي تواجهها، ذكرت في تقريرها السنوي لعام 2010
1- عملت الهيئة على التحقيق في 23118 دعوى، منها 11 دعوى إخبارية، تحرى محققو الهيئة فيها عن ادعاءات الفساد، و10757 دعوى جزائية، حقق فيها محققو الهيئة، تحت إشراف قاضي تحقيق. في حين كان مجموع الدعاوى المفتوحة عام 2010 فقط 17067 دعوى.
2- بلغ عدد المطلوبين للهيئة 8307 متهما، منهم 247 متهما بدرجة مدير عام فأعلى، ومن ضمنهم 8 بدرجة وزير. و4225 مطلوبين بأوامر إلقاء القبض، منهم 57 بدرجة مدير عام فأعلى، ومن ضمنهم واحد بدرجة وزير، وكان المنفذ منها 1473 أمر قبض. وتوزعت أوامر القبض على جرائم التزوير بلغت 2430 أمرا، والاختلاس 467 أمرا، والإهمال الوظيفي 369 أمرا، والرشوة 171 أمرا.
3- بلغ عدد المطلوبين بأوامر استقدام، 4082 شخصا، منهم 190 مدير عام فأعلى ومن ضمنهم 7 بدرجة وزير، وكان المنفذ منها 2557 أمرا فقط.
4- أحالت الهيئة 2844 متهما على محاكم الموضوع لمحاكمتهم عن قضايا فساد، منهم 118 من مرشحي الانتخابات، و207 بدرجة مدير عام فأعلى، من ضمنهم 10 بدرجة وزير.
5- بلغ تقدير قيمة الفساد ل697 دعوى، من مجموع الدعاوى المحالة، مبلغا قدره حوالي 1,6 تريليون دينار.وبلغت أعلى نسبة للمحالين في وزارة الدفاع 13,47 %، ووزارة الداخلية بنسبة 7,28 %، ووزارة الأشغال العامة بنسبة 6,26 %.
وفي الصفحة 31، وتحت عنوان المؤشرات التحقيقية منذ تأسيس الهيئة، يشير التقرير إلى ما يلي:
1- مجموع الإخباريات التي تلقتها الهيئة بلغت 32240 وفتحت الهيئة 25640 دعوى جزائية حقق فيها محققو الهيئة تحت إشراف السادة قضاة التحقيق التابعين إلى مجلس القضاء الأعلى.
2- مجموع الدعاوي المحالة إلى محاكم الموضوع، لإجراء المحاكمة فيها عن قضايا فساد بلغ 4137 دعوى، للسنوات السبع، منها 2322 دعوى في عام 2010.
3- عدد المحكومين 1658 محكوما، بينهم 16 بدرجة وزير، منهم 1016 محكوم في عام 2010 لوحدها.
4- عدد من أوقفت بحقهم الإجراءات الجزائية، لعدم موافقة المرجع على الإحالة، في السنوات السبع الماضية 441 متهما، منهم 176 متهما في عام 2010. وكانت وزارة التربية أكثر الوزارات امتناعا عن منح الإذن، حيث رفضت إعطاء الإذن بإحالة 28 موظفا في عام 2010، وكانت وزارة البلديات والأشغال العامة الأكثر رفضا لإعطاء الأذن بالإحالة منذ تأسيس الهيئة إلى نهاية عام 2010، حيث رفضت منح الأذن بإحالة 74 موظفا من مجموع 441 موظف.
4- مجموع من شملوا بقانون العفو رقم 19 لسنة 2008، بلغ 4173 متهما بقضايا فساد منذ بدء تطبيق القانون المذكور عام 2008 ولغاية عام 2010، في قضايا بلغت قيمتها أكثر من 325 مليار دينار.
وكل ذلك يدلل على أن الفساد مستشري في أجهزة الدولة وأن هناك من يحمي الفاسدين.
لقد أجمعت التقارير المتعلقة بالفساد، أن أكثر الدوائر فسادا في العراق، هي دوائر الوزارات الأمنية، الدفاع والداخلية، ووزارات التجارة والكهرباء والبلديات والأشغال.
الوزارات الأمنية
توصف الوزارات الأمنية ( الدفاع والداخلية)، في الكثير من التقارير المحلية والدولية، من أكثر الوزارات فسادا في العراق. ويتم دائما انتقاد عقود شراء الأسلحة. وقد أدى ذلك إلى اكتشاف الكثير من فضائح الفساد. فقد قدر ديوان الرقابة المالية أن 1,4 مليار دولار، قد ضاعت بسبب الاختلاس والفساد المالي عام 2005. وفي عام 2008، أعلن رئيس هيئة النزاهة الأسبق، القاضي الراضي أن حالات فساد بقيمة 4 مليار دولار قد تم اكتشافها في وزارة الدفاع، و 2 مليار دولار، في وزارة الداخلية. وليس بعيدا ما أثير حول صفقة السلاح الأخيرة، التي عقدت مع روسيا الاتحادية، والتي تسببت في إقالة بعض المسئولين العسكريين في جمهورية روسيا الاتحادية، والناطق الرسمي للحكومة وزير الدولة السيد علي الدباغ. إلا أنه حتى الآن لم يتم الكشف عن ماهية الصفقة والمسئولين عنها في الجانب العراقي. كما لم يتم حتى الآن الكشف عن مضمون صفقات السلاح الأخرى، التي أبرمت مع دول عديدة، والتي أثيرت ضجة عليها من قبل جهات عراقية رسمية وغير رسمية، وتم تشكيل لجان تحقيق فيها دون إعلان نتائجها. وقد تناولت الصحف المحلية والأجنبية، قضية عقد أجهزة الكشف عن المتفجرات، الذي بلغت قيمته حوالي 85 مليون دولار. حيث جاء بحكم المحكمة البريطانية، الذي حكمت فيه على المدعو ماكورماك، صاحب الشركة، بالسجن لفترة عشرة سنوات،(إن ارتكابك لهذا العمل الاحتيالي، قد أدى إلى قتل وجرح أشخاص أبرياء، وهذه الأجهزة لا تحتوي على ما يمكن به كشف المتفجرات). ولا زالت هذه المعدات مستعملة في أنحاء العراق. ومع ذلك فان أحد المسئولين الكبار في العراق، يقول في واحد من تصريحاته، ( إن أحسن الأجهزة في العالم لا تستطيع كشف المتفجرات إلا بنسبة 60%، والنتائج التي حصلت عليها تؤشر إلى أن هذه الأجهزة تكشف 20-50% (وبعضها) كان حقيقيا، وكشفت المتفجرات). إلا أن رئيس هيئة النزاهة البرلمانية، السيد بهاء الأعرجي، وعلى قناة البغدادية بتاريخ 16أيلول 2013 ، قد أكد على ما جاء بحكم المحكمة البريطانية، حيث قال: (أن وزارة العلوم والتكنولوجيا العراقية، وعند فحصها لهذا الجهاز، أثبتت أنه فشل في اختبارها له، وأنه غير ذي جدوى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم الاعتماد عليه، وتمت مخاطبة وزارة الداخلية بكتب رسمية، إلا أنها لم تجد آذانا صاغية، بل تم الاستمرار باستيراده). هذا مع العلم، أن الحكومة العراقية قد استوردت هذا الجهاز بقيمة 15 ألف دولار للقطعة الواحدة من المورد البريطاني ، في حين أن قيمة الجهاز الحقيقية تبلغ 23 دولار فقط !!
وقد ذكر تقرير الشفافية الدولية لعام 2011، أن 64% من الذين تم شمولهم بالعينة الإحصائية، والذين لديهم تعاملات مع الشرطة، أكدوا أنهم دفعوا الرشا، مما جعل منها أسوأ مؤسسة عراقية في مقياس الفساد العالمي لعام 2011. وذكرت صحيفة الانديبندنت في عام 2013، لقد كشفت بعض التقارير أن الذين يبحثون عن عمل وخصوصا في القوات الأمنية، لا يستطيعون الحصول عليه بدون دفع المئات من الدولارات، وحتى ألاف الدولارات. وقد اعترفت وزارة الداخلية بشكل علني، على أن 9000 شخصا تم استخدامهم بشهادات جامعية مزورة، بما في ذلك في مكتب رئيس الوزراء. وهذا ما أكدته تقارير ديوان الرقابة المالية في عدة سنوات. وقد بلغ حد الفساد في المؤسسات الأمنية، أن بعض المناصب المتوسطة والعليا، في قيادة القوات، تباع وتشترى كأي سلعة في السوق العراقية. إن هذا التنافس المحموم على المناصب، ناجم عن الفوائد التي يتحصل عليها آمر الوحدة العسكرية من (الفضائيين)، ومن متعهدي إطعام القطعات العسكرية.
وزارة التجارة
لقد تعرضت وزارة التجارة إلى انتقادات كثيرة، واتهامات بعمليات الفساد، على كل المستويات بسبب عدم تمكنها من إدارة ملف البطاقة التموينية. ورغم المبالغ الطائلة التي يتم تخصيصها سنويا في الموازنة العامة، التي تراوحت بين 5 و 7 مليار دولار، ورغم تقليل مفردات البطاقة التموينية، من 12 إلى 5 مواد، إلا أنها وحتى هذه اللحظة، لم تستطع إدارة هذا الملف بشكل صحيح. وحتى الآن يعاني المستفيد من عدم تسلمه لكل مفردات البطاقة بشكل منتظم. وبسبب عمليات الفساد المستشرية في وزارة التجارة، ورغم محاولات الدفاع المستميتة عن وزير التجارة السابق، من قبل جهات متنفذة في الحكومة، تم في عام 2012 الحكم عليه غيابيا ب7 سنوات سجن، بسبب وجوده خارج العراق. ورغم ذلك لا زال التخبط في ملف البطاقة التموينية هو السائد، دون الوصول إلى حلول جذرية، والمراوحة بين التوزيع النقدي ومبلغه، وبين نقل هذه المهمة إلى الحكومات المحلية. وهكذا يتم دحرجة هذه المهمة الأساسية في حياة الغالبية العظمى من الشعب العراقي، بين التشكيلات الإدارية المختلفة، رغم تشخيص الأسباب المتمثلة بالفساد الإداري والمالي. وقد وصلت الحالة، أن شن الكثير من النواب حملة كبيرة على العاملين في وزارة التجارة، بسبب هذا الملف، واعترفوا بوجود مافيات في هذه الوزارة، منتفعة من البطاقة التموينية، تساندها بعض الجهات المتنفذة في الحكومة. وقد ورد في تقرير ديوان الرقابة المالية السنوي الصادر في عام 2013 بعض المؤشرات، في الشركة العامة لتجارة المواد الغذائية، التي يتمحور نشاطها بشكل أساسي، في تأمين مفردات البطاقة التموينية، لو تم التحقيق فيها، لكان من الممكن الوصول إلى الخيوط التي أدت إلى كل هذا التخبط.
– قامت الشركة العامة لتجارة المواد الغذائية بالتعاقد مع بعض الشركات عن طريق الشراء المباشر النقدي، رغم عدم توفر الشروط الخاصة بالشركات الرصينة، وخلافا للأمر رقم 81 لسنة 2009، الصادر من مجلس الوزراء، الذي نص على أن ( يكون شراء مفردات البطاقة التموينية بشكل مباشر من الشركات الرصينة، عن طريق فتح الاعتماد، استثناء من شروط الدعوة والمناقصة، وإيقاف عملية الشراء المباشر النقدي عن طريق الوسطاء). وهذه نماذج لبعض هذه المخالفات كما وردت في التقرير:
– عقد رقم 540 بتاريخ 31 تموز 2012 مع شركة الشاكرين للتجارة، لشراء كمية 70 ألف طن من السكر الأبيض بقيمة 56,7 مليون دولار( المبلغ الوارد في التقرير 567 مليون دولار، وهو غير منطقي لمثل هذه الكمية، ولو كان الرقم صحيحا لكانت الطامة الكبرى). والعقد رقم 57 بتاريخ 1تشرين ثاني 2011 مع نفس الشركة لشراء 20 ألف طن بقيمة 28,2 مليون دولار، وتم التعاقد بشرط التسليم في مخازن الشركة مع التكلفة والتأمين، مع العلم أن المادة كانت موجودة داخل العراق ومخصصة للأسواق المحلية.
– عقد رقم 564 في 7آب 2012 مع شركة زهراء الحسن التجارية ( إماراتية الجنسية) لشراء 120 ألف طن سكر أبيض، بقيمة 94,2 مليون دولار. والعقد رقم 120 مع شركة عطارد ( إماراتية الجنسية) لتجهيز حليب الأطفال. وجد فيها كميات كبيرة غير صالحة للاستهلاك البشري.
– عقد رقم 1218 في 20 كانون أول 2011 مع شركة دجلة ( تركية الجنسية ) بمبلغ 18,165 مليون دولار، لتجهيز10 الاف طن من مادة زيت زهرة الشمس. حيث لوحظ استلام 3338 طن خلال الفترة من 28 تشرين ثاني ولغاية 19كانون أول 2011، أي قبل توقيع العقد.
وزارة البلديات والأشغال
تؤكد جميع تقارير ديوان الرقابة المالية منذ بداية التغيير، وحتى تقريرها الأخير الصادر في آذار 2013، على وجود حالات كثيرة، من عدم الالتزام بالقوانين والتعليمات الخاصة بإبرام العقود ومراقبة تنفيذها، مما أدى إلى التأخر في تنفيذ المشاريع الخدمية في جميع أنحاء العراق. وكشفت الأمطار الأخيرة، وأوضاع الخدمات المتردية باستمرار، نتائج عمل الوزارة وعمل الوحدات الإدارية التابعة لها، أو التابعة إلى المحافظات. وهذه بعض الأمثلة من تقرير الديوان الصادر في آذار 2013:
– تدني نسب الانجاز المادي للمشاريع المحالة على بعض المكاتب والشركات، حيث لم تتجاوز نسبة الانجاز المحددة لها بموجب جداول العمل في مشاريع المديرية العامة للتخطيط العمراني 50% لغاية 31/12/2011، ومنها المشاريع المنفذة لصالح بلديات بغداد. وفي محافظة المثنى 8%، مع توقف بعض المشاريع منذ عام 2008، دون القيام بسحب العمل من الشركات المنفذة. مع قيام المحافظة بإحالة المشاريع في عام 2012 على شركات متلكئة في تنفيذ المشاريع المحالة إليها سابقا. وهذه الملاحظة تنجر على أغلب الوحدات الإدارية الأخرى، ، دون اتخاذ الإجراءات اللازمة بحق الشركات المنفذة. وبلغت السلف الموقوفة 1328 مليون دينار. وفي نفس الوقت قامت المحافظة بصرف مبالغ الإشراف والمراقبة البالغة 4124 مليون دينار على جوانب مختلفة ليس لها علاقة بالمشاريع الاستثمارية. أما في محافظة نينوى فهناك تدني في عدد المشاريع المنجزة والبالغة 240 مشروعا من مجموع 780 مشروعا.
أما المديرية العامة للمجاري فقد تعاقدت مع مكاتب استشارية ليس لها دقة أو كفاءة في العمل، مما أدى إلى تعديل التصاميم وتحمل المديرية زيادة في كلف الإحالة.
وقد قامت المديرية العامة للمجاري بالتعاقد مع شركات العزة والحنان والوفاء للمقاولات العامة ( عراقية الجنسية)، لإعداد دراسة وتصاميم مع تجهيز وتنفيذ وتشغيل وصيانة المشروع بطريقة (تسليم مفتاح) بمبلغ 122,4 مليار دينار، وبأسلوب الدعوة المباشرة خلافا للتعليمات، التي تنص على تنفيذ مشاريع المياه والمجاري من قبل شركات عالمية متخصصة، ذات سمعة معتمدة ولديها أعمال مماثلة، ولم تقم الشركة بتنفيذ شرط تقديم ثلاث مكاتب استشارية أجنبية ذات سمعة عالمية جيدة، ولديها أعمال مماثلة في إعداد التصاميم.
وقد أبرمت محافظة بغداد العقد المرقم 917 في 26/9/2011 مع شركة الكرامة العامة، الخاص بتجهيز مجموعة من الآليات، بمبلغ إجمالي يبلغ 24.9 مليار دينار، بشكل مباشر خلافا للتعليمات. وقد تبين أن هذه الشركة هي شركة وسيطة، وليست مستوردة أو مصنعة، وقد قامت بالتعاقد مع شركة سبرنك فيلد الإماراتية بمبلغ 23.7 مليار دينار. ورغم أن المحافظة قامت بصرف كامل المبلغ للشركة، إلا أن نسبة الانجاز صفر، وزارة النفط
أن ما يمكن أن نتابعه في طبيعة عقود جولات التراخيص، هو أن من حق الشركات أن تشتري، أو تتعاقد لشراء أجهزة ومعدات حتى 20 مليون دولار، دون الرجوع إلى اللجنة الفنية، وهو ما دفع هذه الشركات إلى تجزئة المشتريات، دون هذا المبلغ (في أكثر من حالة مسجلة)، وبعلم اللجنة المذكورة، بغية تسهيل عملها دون رقيب أو حسيب، ويمكن أن نبين بعض الحالات السلبية في بعض العقود على النحو الآتي: أ- تنفيذ أنبوب تصريف نفط مجنون قياس 32 عقدة وطول 67 كم بقيمة 120 مليون دولار، لأعمال تنفيذ فقط، إذ أن الأنبوب من تجهيز (شركة نفط الجنوب)، علما أن الكلفة التقديرية، وحسب الأعمال المنفذة سابقا من قبل الفنيين العراقية، لا تتعدى 59 مليون دولار، وهو أعلى حتى من تلك المقاولة التي تقوم بها شركة (لوك أويل الروسية)، لتجهيز وتنفيذ مد أنبوب ناقل للنفط بقطر 48 عقدة وبطول 80 كم تقريبا، إذ كان المبلغ 93 مليون دولار.
أ. قيمة بعض التحويرات في محطة مجنون الرئيسة، وصلت إلى 120 مليون دولار، في حين أن هذا المبلغ يكفي لإنشاء ثلاث محطات متكاملة حسب العقود السابقة لشركة نفط الجنوب.
ب. عرضت شركة (لوك أويل الروسية) تجهيز ثلاث مولدات توربينية، سعة الواحدة 43 ميكاواط، أي بمجموع 129 ميكاواط، بمبلغ 330 مليون دولار. علما أنه وحسب الأسعار التي تقدمها الشركات المصنعة مثل SEMENS و GE تعد كأقصى سعر مليون دولار للميكاواط، أي 129 مليون دولار لتجهيز وتركيب المولدات. إلا أن مسئول GMC أحال المشروع إليهم بمبلغ 250 مليون دولار، على الرغم من اعتراض اللجنة الفنية على ذلك.
ج. أما شركة (BP البريطانية وشركة اكسون موبيل الأمريكية)، فتعدان عالم خاص يصعب الدخول إليه، لعدم إشراكها ممثلين من شركة نفط الجنوب، لمناقشة إحالاتها ومقاولاتها وأسعارها، إلا أنه أمكن الحصول على بعض منها. مثلا أحالت شركة BP تجهيز وتنفيذ أنابيب بمبلغ 470 مليون دولار، علما أن مثل هذا العمل وبالمواصفات نفسها، نفذ سابقاً بأقل من نصف هذا المبلغ. هذا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مدير هيئة تشغيل الرميلة، والمسئول المباشر عن تمشية عقود الشركة الانكليزية، قد اعفي مرتين من منصبه في هيئة الحقول، مرة في زمن النظام السابق، وأخرى بعد الاحتلال، بسبب فضائح الفساد المالي.
كما أشار ديوان الرقابة المالية في تقريره لعام 2012، عن بعض الحالات السلبية في تدقيق عقود جولات التراخيص الأولى والثانية، وتم إبلاغها للأمانة العامة لمجلس الوزراء ووزارة النفط. وهي كالآتي ([1]):
أ. نصت عقود التراخيص على حقوق المقاولين، والتي تتألف من (كلف التطوير من ألآت ومعدات ومدفوعات، والتي يستردها كاملة، وكلف تشغيل الحقل طيلة فترة الإنتاج، والربح أو الحصة التي يطلق عليها مبلغ التعويض، ويتراوح بين 2 إلى 5 دولار، عن كل برميل زيادة طيلة مدة نفاذ العقد “) في المادة (19/5) ما محتواه ” خلال مدة الإنتاج المستقر. وسيتم تعديل أجور التعويض القابلة للدفع فيما يخص الإنتاج الصافي لأي فصل، بمضاعفتها بعامل الأداء، مع ذلك فأن أي تعديل بأجور التعويض سيبطل في حال فرض الحكومة تحجيم الإنتاج، أو عند تحجيم الإنتاج، أو إيقافه بفعل فشل الناقل في استلام الإنتاج، عند نقطة تحول بدون أي تقصير من المشغل أو المتعاقد. وبرأي الديوان فأن النصوص المتقدمة غير واضحة، وقد تضر بالجانب العراقي، خاصة عند عدم تمكنه من تسويق كامل إنتاجه، لأي سبب كان، سواء بسبب حصة العراق في منظمة أوبك، أو حاجة السوق العالمية الفعلية، وأثر ذلك في تغيير الأسعار وحجم التداولات الدولية. وبالتالي سيضطر العراق إلى خفض الإنتاج حفاظا على الموارد المالية. في حين يجري احتساب حصة المستثمر، على أساس الطاقة الإنتاجية، التي تم التعاقد عليها في حال الوصول إليها فعلا.
وزارة الكهرباء
v لقد بلغت نفقات وزارة الكهرباء حتى نهاية عام 2012 وحسب تصريح الناطق الرسمي للوزارة 37 مليار دولار، منها 16 مليار دولار نفقات تشغيلية، والباقي نفقات استثمارية لإنتاج الطاقة الكهربائية. وحسب تقييم المختصين، كان بالإمكان إنشاء بين 21 ألف إلى 25 ألف ميكاواط بهذه المبالغ. إلا أن ما تم الوصول إليه من الطاقة الكهربائية هو 11.8 ألف ميكاواط ، حتى شهر آب 2013، مع ما ورثناه من الطاقة في الشهر الرابع من عام 2003 البالغ 4 الاف ميكاواط، إضافة إلى الطاقة المستوردة.
ومما نشرته بعض التقارير أنه تم التعاقد مع شركة GE على شراء 56 مولدة، كل مولدة توربينية بمبلغ 53.6 مليون دولار. إلا المرجع الوطني للتوربين الغازي لعام 7- 2008، حدد سعر المولدة الواحدة يبلغ 29.17 مليون + – 5%، جاهزة مطروحة ارض المعمل. وفي الوقت نفسه فان USAID اشترتها بمبلغ 22.6 مليون دولار عام 2005.
إن تقرير ديوان الرقابة المالية بشهر آذار2013، قد أتاح بعض المعلومات عن كيفية تنفيذ العقود المبرمة من قبل وزارة الكهرباء:
– بالرغم من قيام الوزارة بصرف مبالغ عالية جدا على إنشاء محطة الكحلاء، بلغت 89.9 مليون دولار، إضافة إلى 13,6 مليار دينار( ما يعادل 11.685 مليون دولار) أي ما مجموعه 101.585 مليون دولار، إلا أن معدلات الإنتاج للطاقة الكهربائية لم تتجاوز 3% من إنتاجيتها المطلوبة. وقد تم تسليم 4 وحدات توليدية بدلا من 5 وحدات حسب ما نص عليه العقد. وحسب تقرير خبراء (إي أس آي)، المقاول الثانوي للشركة المجهزة، فان المعدات المجهزة تستهلك زيادة في الوقود،عن الكميات المثبتة في مواصفاتها التعاقدية، عند تشغيلها على زيت الغاز، وبكمية 279.4 متر مكعب يوميا. وقد سبب ذلك في زيادة النفقات حوالي 118 مليار دينار سنويا.
– من خلال دراسة الوثائق الأساسية الخاصة بوحدات محطة الرشيد الغازية، تبين أن المحطة لا تعمل على نوعين من الوقود، خلافا لعقد المقاولة. وقد قامت الوزارة بإطلاق 10.5 مليون دولار إلى الشركة المقاولة، أي إجمالي المبالغ المتعاقد عليها للأعمال الكهربائية والميكانيكية للمشروع، مع العلم أن نسبة الإنجاز بلغت 90% فقط.
– لم تتمكن محطة القدس الكهربائية من استغلال الطاقات الإنتاجية منذ سنة 2004 ولغاية آخر تقرير (شهري/سنوي)لشهر آب2011، حيث تراوحت بين31% و47% من الطاقة التصميمية البالغة 912 ميكاواط، بالرغم من قيام الوزارة بصرف ما يعادل 543 مليون دولار على عمل المحطة للسنوات 2007-2010. أما في ما يتعلق بتجهيز الوقود للمحطة، فقد تم صرف أجور نقل 5002 متر مكعب، رغم عدم تجهيز هذه الكمية وعدم نقلها.
– أما ما يتعلق بمحطة الصدر الغازية بطاقة 314 ميكاواط، فقد تم التعاقد مع الشركة المقاول، صانير الإيرانية بمبلغ 111.4 مليون يورو، بالرغم من كونها غير مستوفية لشروط المناقصة. وقد قامت الوزارة بحذف فقرة إنشاء سياج للمشروع بمبلغ 234.2 ألف يورو بعد الإحالة. وأحيل على الشركة العصرية للمقاولات بمبلغ 1.8 مليار دينار. وكذلك قامت بحذف فقرة إنشاء وحدة تصفية الوقود بالمحطة، التي كانت بمبلغ 11.4 مليون يورو، وتمثل 10% من قيمة العقد. وجاء هذا منافيا لمبدأ المنافسة بين الشركات، مما أدى إلى تحمل المشروع مبلغ الفرق الكبير في تنفيذ هذه الفقرة. ( لم يذكر التقرير المبلغ الذي تم التعاقد عليه ولا الشركة التي تم التعاقد معها). وقد لوحظ عدم قيام الشركة الإيرانية المقاولة بتنفيذ بعض فقرات العمل في المشروع، والتي تخص الأعمال ( الميكانيكية، الكهربائية، المدنية)، بشكل متكامل، طبقا لما ورد في جدول الكميات الخاصة بالمقاولة، والبعض الآخر تم تنفيذه بصورة غير مطابقة للمواصفات الفنية المطلوبة. وقد قامت الوزارة بإبرام ملحق عقد مع الشركة المقاولة بمبلغ 3.860 مليون دولار بغرض تشغيل وصيانة وحدات التوليد، ولمدة 6 أشهر اعتبارا من 14/5/2012، على الرغم من هذه الفترة تقع ضمن مدة الضمان لوحدات التوليد المذكورة. هذا مع العلم أن معدل إنتاجية المحطة بلغت بحدود 29% من طاقتها التصميمية ابتداء من تاريخ التشغيل ولغاية شهر تموز 2012.
إن الأمثلة التي تم ذكرها أعلاه، عن الفساد الإداري والمالي والهدر في المال العام، تشكل جزءا من منظومة، لديها طريق مفتوح لتكون طبقة متكاملة من الفاسدين والمفسدين، من الصعب مكافحتها، ممكن أن تتحول إلى قوة مالية كبيرة، مؤثرة في رسم مستقبل العراق الاقتصادي والاجتماعي، بسبب عدم تطبيق المعايير التي تفرضها القوانين التي تعنى بإدارة أموال الدولة والمشاريع. ولدى هذه المنظومة ارتباطات داخلية وخارجية مالية واسعة تتمثل بعلاقاتها التجارية والمالية، وبالفاسدين والمفسدين، داخل التشكيلات الإدارية العراقية، وعلى أعلى المستويات، التي تمثل مصالح حزبية وشخصية وفئوية. إضافة إلى علاقاتها الدولية المتمثلة بإمكانية اللجوء إليها في تشكيل الشركات الوهمية التي تمارس الاحتيال وعمليات غسل الأموال، مع مراعاة مصالحها في التوجه نحو تعظيم الاستيراد والعمل على تعطيل التنمية الاقتصادية المستدامة في العراق. فقد ارتفع استيراد العراق من السلع والخدمات من قبل الحكومة والقطاع الخاص من 9.6 مليار دولار عام 2003، إلى 58 مليار دولار عام 2010، والى 64 مليار دولار عام 2011، والى أكثر من75.2 مليار دولار عام 2012. وقد أكدت بعض التقارير المحلية أن إجمالي الأموال التي هربت من العراق قد بلغت 138 مليار دولار خلال العشرة سنوات الأخيرة. ولا يمكن محاربة مثل هده التوجهات إلا بتطبيق القوانين، وربط الموازنة العراقية بخطط التنمية، وتفعيل دور القضاء ومحاربة الفساد فيه، والتأكيد على استقلاليته. إضافة إلى حزمة من الإجراءات التربوية الصارمة، وتفعيل تقاليد العمل الغائبة عن الساحة العراقية.
*) خبير اقتصادي ومالي عراقي
مقال مهم وواسع وجريء وجامع للكثير من المعلومات ومليء بالملاحظات القيمة حول الثغرات في النظام الإداري والمالي ودورها في عرقلة الإعمار وضياع الموارد، وكذلك يقدم المقال في موقع واحد يسهل تناوله الكثير من المعلومات والأمثلة عن الفساد رغم أن معظمها معروف أصلا، إلا أن بعضها جديد، خاصة ما يتعلق بالمشاريع النفطية وهي معلومات مستقاة من تقارير ديوان الرقابة المالية. والمقال صريح في الحديث عن الكثير من مواطن الفساد والمسؤولية في هذا المجال، ويحاول أن يقدم بشكل خاص الأمثلة التي تتوفر تجاهها أدلة كمية، وهنا نجد بعضا من النقاط التي تتطلب الإهتمام والتعليق.
1- المقال يخلط أمثلة الفساد من حقب مختلفة، أولها فساد إدارة الإحتلال ومؤسسته وهو فساد في غالبه أمريكي، أي إفساد للعراقيين وقد يكون مقصودا ولو أنه يختلط بما كان موقعه أصلا في المؤسسات المدنية العراقية بعيدا عن الفرض الأمريكي. عدا عن ذلك، يمكن أن يدخل سوء التصرف بالموارد في باب التدمير أو النهب الإستعماري أكثر من كونه فسادا بمعنى إنحراف الإدارة عن هدف خدمة المصلحة العامة. وبالمناسبة، إن المفتش العام المذكور في المقال هو المفتش العام الأمريكي وهو مدير دائرة أمريكية خاصة. وبدل الإفتراض بوجود حاجة لتطابق سجلات الحكومة مع سجلات المفتش الأمريكي، ينبغي السؤال عن الدور الذي لعبه المفتش المذكور في تلك البيئة الفاسدة أو المفسدة. لذا أعتقد أنه ينبغي علينا النظر إلى مؤشرات الفساد الكمية في حقبة الإحتلال على حدة، ومحاولة وضع أمثلة الفساد في إطار زمني لمعرفة مدى إستمرار أو تعمق أو تراجع الظاهرة على مر الزمن، وكذلك معرفة شيئ عن تغير طبيعتها. وهنا نجد أن الإشارة إلى القطاع النفطي كانت ناقصة دون الإشارة إلى التهريب والسرقة المعروفة والتوضيح مثلا إن كان هناك تحسنا أم تغيرا في هذا المجال أم لا.
2- لا أتفق أن جميع القوانين والإتفاقات الإقتصادية التي أصدرت في 2003 إلى 2005 كانت جيدة بشكل عام أومناسبة لتطوير العراق كما يوحي المقال وخاصة الدستور. وإن كان الأمر كذلك، هل يتناقض ذلك مع القول في البداية أن سلطة الإحتلال لم يكن لديها برنامج إقتصادي أخذت به الفئة السياسية فيما بعد ولوهلة؟ وعلى كل حال، يصيب المقال في تركيزه على خطورة إستمرار حالة عدم الربط بين الموازنات السنوية وخطط التنمية وعلى عدم الإفصاح عن الحسابات الختامية أو عدم وجودها أصلا وعلى كون هذه بيئة مناسبة لإنتشار الفساد.
3- هناك الكثير من النقاط التي من ممكن أن تدخل في باب مؤشرات إنعدام الكفاءة أكثر مما تكون مؤشرات فساد. السؤال هو كيف يمكن أن نحدد أنها مؤشرات فساد إداري أو مالي وليست حالات ونماذج من ضعف الإدارة وعدم القدرة على التكيف مع الظرف الجديد؟ بمعنى، هل أن الحل إداريا أم أن المسألة لن تحل إداريا ولن يكون الحل بمجرد تطوير النظم المحاسبية وأساليب التعاقد وأداء الأجهزة الرقابية وغيرها؟
4- وعلى أية حال، ينبغي التوضيح أن دور ديوان الرقابة المالية هو ليس محاسبة المخالفين بل المكاشفة، وهنا نجد الحاجة إلى دراسة فلسفة ودور وأداء المؤسسات الجديدة التي جاءت بها إدارة الإحتلال للتعامل مع مواضيع الفساد وهي هيئة النزاهة ودوائر المفتش العام، وهل هي مناسبة وتؤدي أغراضها المفترضة؟ وما هي الإصلاحات المطلوبة أو الإطار المؤسسي الأكثر ملاءمة لمتطلبات محاربة الفساد؟ وأين دور بقية مؤسسات الدولة والمجتمع؟
5- التقارير الدولية المشار إليها في المقال تعتمد في الغالب على المصادر الرسمية والأخبار، وبعضها مما يعتمد على المسح الإحصائي بالعينة . السؤال يبدر هنا هو المنهجية المتبعة في التوصل إلى البيانات الإحصائية ووضع التقارير وحول جدية المسح الذي تقوم به هذه المؤسسات. ما لدي هو مجرد تساؤل، وأيضا طلب الإستفادة من توضيح المصادر كل على حدة.
6- بخصوص بيانات التقرير السنوي لهيئة النزاهة في الفقرة 1، هل الرقم هو فعلا 11 دعوى إخبلرية من كل الدعوات؟ ماذا تعني كل هذه الأرقام هنا وفي الفقرات التالية؟ كما ذكرت أعلاه، نحتاج أن نعرف شيئا عن دور هيئة النزاهة في مكافحة الفساد وفي النظام الإداري؟ ما هي الفكرة من هيئة النزاهة وما هو موقعها من نظام الرقابة، وكيف توصلنا إلى هذا الإطار؟ أعتقد أن ذلك سيساعدنا على قراءة ملخص تقارير الهيئة. و دون التقليل من أهمية جريمة قتل موظف أو موظفي الهيئة المشار إليها، هل أن هيئة النزاهة هي فعلا في الصف الأول في محاربة الفساد؟
7- لدي بعض النقاط التفصيلية، فبشأن تصريح راضي الراضي المشار إليه، وذلك ينطبق أيضا على غيره ممن كانت لديهم المسؤولية، ألا يفترض بمصدر كهذا أن يكون أكثر تفصيلا وأن يقدم الأدلة. و بشأن موضوع مولدات شركة GE تجدر الإشارة إلى ما كتبه الأستاذ عصام الخالصي حول الموضوع. وفي الفقرة الأخيرة، توجد إشارة إلى الأموال “التي هربت”، ما هو المصدر وما هو تعريف التهريب في هذه الحالة؟
8- لدي سؤال من د. ماجد أو من المتخصصين الآخرين حول صلاحية تعاقد الشركات النفطية دون العودة إلى الجانب العراقي، هل هي ما زالت محددة بقيمة 20 مليون دولار أم أنها رفعت إلى مبلغ أعلى على ما أذكر؟ وهنا أود الإشارة إلى أن موضوع النفط بشكل عام بالتأكيد يحوي جوانب متعلقة بالفساد بشكل وجود عنصر أو عناصر فاسدة في مواقع مسؤولية مباشرة عن تمشية عقود شركة ما، وطبعا فرص الفساد واسعة في هذا المجال. لكن عسى أن يكون الأهم هنا ليس الفساد لوحده بل العلاقة غير المتكافئة فيما بين الشركات والطرف العراقي، وهذا موضوع يتعلق بطبيعة السياسة النفطية التي إتبعت. ويجوز لنا هنا أن نسأل إن كانت القضية هي فعلا قضية فساد إداري، أم أن أساسها سياسة خاطئة مستعجلة تشجع الفساد والربح السريع والتبعية لشركات لا مصلحة لها ببناء مؤسسي وإقتصادي رصين؟
لدي ملاحظة أخيرة وهي أن وصف ظاهرة الفساد ومحاولة القياس الكمي لنتائجها وآثارها الخطيرة على العقود والمشتريات الحكومية وغير ذلك، كلها قد تكون أقل أهمية من فهم الفساد كجزء من طبيعة وممارسة السلطة في المجتمع وكخاصية ملازمة للنظام القائم بجوانبه السياسية والإجتماعية والثقافية العامة. فالفساد عندما وصل إلى الحدود الحالية في العراق ليس مجرد ممارسة خاطئة أو إنحراف جزئي بل إنه جزء أساسي من النظام السائد وله وظائف إجتماعية وإقتصادية وسياسية. وفي هذه الحالة يصبح الحل الفني الإداري متعذرا، وكذلك فإن المعالجة التي تعتمد فقط على التوعية بأشكال الفساد لن تصمد أمام تزاوج القوة والسلطة والمال ومعها الهيمنة الإعلامية وأيضا الهيمنة الفكرية حين تصبح ممارسات الفساد إعتيادية ومقبولة وحين يصبح القضاء ضعيفا وعاجزا ومكبلا في أية مواجهة مع مراكز القوة والهيمنة. كما أن النظام الطائفي الحالي يكرس المحاصصة، وهذه الأخيرة ليست ضمانة لما جرت تسميته “بالمكونات”، بل وسيلة للكسب الخاص غير المشروع. وحتى إن سقطت المحاصصة السياسية على مستوى الحكم في المرحلة القادمة، فإن ظاهرة الزبائنية والمحاباة ستبقى وتفعل فعلها في إتخاذ القرارات الحيوية في توفير الخدمات وتوزيع الأراضي كما في إختيار المشاريع وإرساء العطاءات والتوظيف وغيرها. والواقع أن إمكانات الإستفادة من قرارات الدولة تكاد لا تحصى سواء كانت الدولة تعتمد على مورد أحادي مثل النفط أو على مصادر متنوعة، و سواء كان القرار مركزيا أم محليا. وكذلك نجد الأمر نفسه في إستغلال النفوذ الإداري في القطاع العام كما في محابات مصالح معينة من القطاع الخاص وفي خصخصة تشبه الإستحواذ على الرأسمال الوطني. وأصبح الفساد أيضا جزء أساسيا من عملية إعادة هيكلة الإقتصاد الوطني وعنصرا فاعلا في آلية إدماجه في الإقتصاد الدولي، والحديث عن الحد من الفساد عن طريق التعاقد مع الشركات العالمية الرصينة قد لا يقود إلا إلى تحويل مكاسب الفساد من جهة إلى أخرى، ونحن نعلم أن الشركة “الرصينة” هاليبرتون” كانت أم الفساد في العراق. وحيث أن مظاهر الفساد أصبحت معروفة وهي حديث الشارع اليومي كما هي جزء من مناكفات السياسيين أنفسهم وحتى الفاسدين منهم، فما الذي يمكن أن تقدمه البحوث الإجتماعية والإقتصادية والإدارية إذا كان طريق الحل الفني والإداري موصدا؟ أعتقد أننا بحاجة إلى التفكير حول هذا الموضوع خارج الأطر التي وضعتها لنا منظمات الشفافية والبحث بما هو مطلوب لإحداث تغيير جذري يستهدف وظيفة ضرب الفساد الإجتماعية والسياسية. وقد يكون التأكيد على والتعبئة من أجل تقليل الفروقات الطبقية والحد من النزعة الإستهلاكية ومن الإنفتاح المنفلت على الأسواق التجارية والمالية الخارجية هو طريقا لكسر شوكة الفساد.