خواطر إقتصاديةمظهر محمد صالح

د.مظهر محمد صالح: قلم الرصاص..!

إذا كان الكِتاب هو الفأس الذي يتهشم فيه البحر المتجمد فينا… حسب الروائي الجيكي (فرانز كافكا) فأن القلم هومفتاح العقل و شفرة التحكم في مساراته وتعميق يقضته وبناء جدرانه وتحصينه بشكل واعٍ من اخطبوط المتاهة وتوفيرحافات التكامل مع النفس والطبيعة بسلام وهدوء ،سواء اكان العقل بسيطاً عادياً ام نقدياً معقداً.ولكن كم منا  يدرك حقاُ كيف يُصنع قلم الرصاص لكي يستحق ذلك العنوان الرمزي الاشاري اي:القلم مفتاح العقل وشفرته؟

 ان من اروع الِحكم والاستعارات هي ان تكون البداية مع الكاتب الامريكي الراحل (ليونارد  ريد) الذي اسس وادار بنفسه مؤسسة التعليم الاقتصادي في الولايات المتحدة، عندما أثار في كتيب له، موضوع صناعة قلم الرصاص وكيفية تتكامل عمليات صنعه المعقدة .فقد قص علينا (ليونارد ريد) في كتيبه الذائع الصيت الذي اصدره في العام 1958 ، وجاء بعنوان عريض اسماه : انا قلم الرصاص .. !  موضحاً ان هناك الكثير من العمل الذي  يجري إداءه حتى نحصل على شيء صغير اسمه قلم الرصاص! ولاسيما ان الولايات المتحدة تنتج اليوم لوحدها مايزيد على مليار ونصف المليار من اقلام الرصاص (التي تكتسي اللون الاصفر) سنوياً. في حين  تنتج المانيا سنوياً من اقلام الرصاص(التي تكتسي اقلامها اللون الاخضر) وتنتج كذلك بريطانيا التي تزدان اقلام رصاصها (باللونين الاصفر والاسود)ناهيك عن الهند التي تزدان اقلامها(باللونين الاحمر والاسود ) فيماثل انتاجهم السنوي جميعاً  متوسط انتاج الولايات المتحدة من اقلام الرصاص. كما يؤكد ليونارد ريد في كتيبه:انا قلم الرصاص، واحدة من الحقائق الاقتصادية المتعلقة بالتخصص وتقسيم العمل والتي اوردها مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي آدم سمث  1776 في كتابه الشهير ثروة الامم، موضحاً انه ليس بمقدور فرد واحد ان يصنع بمفرده شيء كقلم الرصاص، ذلك ابتداءً من زرع بذرة الارز في الارض وتنمية اشجارها وتقطيعها ومن ثم انتاج المطاط في ماليزيا  وتحضير الكاربون الاسود الطري وتكثيفه وصنع الطلاء حتى يكتمل صنع قلم الرصاص. فالقلم يصنع عبر ميكانيكيات تفرضها قوى طبيعية هي (اليد الخفية)أي السوق وبأذرعها (العرض والطلب) التي تسيطر على حركة الافراد والاشياء وتدفع الناس نحو المتاجرة والتبادل بالسلع والخدمات.فعندما تشتري ذلك القلم البسيط فأنك لاتعلم كيف جرى تصنيعه وكيف تعارف آلاف الناس فيما بينهم لصناعته.انها قصة صناعية  معقدة على الرغم من بساطة القلم .فالاسواق الحرة هي التي صنعت القلم وان تلك الاسواق هي التي نظمت آلاف الناس ونظمت آلاف العمليات التصنيعية المعقدة لصناعة القلم.ولكن هنالك مخُطط مركزي بأيدي خفية يوجه عوامل الانتاج في كل مكان في الارض وهو يتخذ قراراً مركزياُ خفياً لصنع القلم وهو السوق كما اشرنا آنفاً.

في عقد الثمانينيات من القرن الماضي،وابان رواج الفكر الليبرالي الاقتصادي الجديد وانتشار فكرة السوق العالمي الحر.اثار المفكر الاقتصادي العالم الراحل (ميلتن فريدمان) صاحب مدرسة شيكاغو في الاقتصاد إشاعة الفكر الليبرالي الجديد ذلك بعرض سلسلة تثقيقية أقتصادية في التلفزيون الاميركي:جاءت تحت عنوان:حراً لتختارfree to choose.وقد تناول فريدمان الراحل ليونارد ريد ليكون موضوعاً في تبسيط آليات النظام الاقتصادي الحر.مظهراً قوة السوق ،في قطعة كلاسيكية اكتشفها فريدمان بقوة عند (ليونارد ريد) في كتيبه الشهير: انا قلم الرصاص.ولاتوجد قطعة ادبية ،كما قال فريدمان، تفي بحقها مثلما عرضه ليونارد ريد في تصويره لآدم سمث حول اليد الخفية في صنع القلم ،أي التعاون بين الناس لانتاج القلم دون قهرٍ او قسر.وهنا يضيف فريدمان مؤكداً مقولات ل(فريدريك هايك) وهو من طلائع الليبراليين الجدد عن ما اسماه الاخير( بالمعرفة المشتتة) عند كل فرد ودور نظام الاسعار في تكاملها عن طريق ترسيخ نظام المعلومات وتواصله بصورة مدمجة عبر دورة الانتاج والتي تحث الفرد في النهاية على إداء أي عمل يرغب به من دون ان يجبره  أحد على فعل ذلك .

ختاماً،لايهم الناس كثيرا سواء اكنت بنفسي من الذين يتفقون مع المدرسة الليبرالية الاقتصادية  الجديدة في تفسير علاقات انتاج او صنع قلم الرصاص وقواه المنتجة او ممن يقفون بالضد منها ولكن مايهمني هو القلم نفسه. فما قاله احد حكماء مدرسة الانسانية  هو بحق يمثل الفكر الذي أنتمي اليه عندما اشار:(ما فائدة القلم… إذا لم يفتح فكراً او يضمد جرحاُ او يمسح دمعة او يطهر قلباُ او يكشف زيفاً او يبني بيتاً ويسعد انساناً في اصعب ظروفه). فبالقلم تنتصر الحكمة والبصيرة والعدالة وينتصر العقل !

(*) باحث إفتصادي ونائب محافظ البنك المركزي السابق

الاراء الواردة في كل المقالات المنشورة على موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين لاتعبر بالضرورة عن رأي هيئة تحرير الموقع وانما عن كاتبها فقط، وهو الذي يتحمل لوحده المسؤولية العلمية والقانونية

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (5)

  1. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    اشكرك استاذ محسن الحيدرى لاشارتك الذكية عن ( مزيج اللغة والادب والاقتصاد )
    نعم ( اللغة هى ضوء العقل ) كما قال جون ستيوات ميل
    وللادب شان عظيم فى الادراك اللغوى
    وباللغة يتم التواصل وتنمية الافكار والاراء والعطاء والابداع
    وباللغة تقام الصداقات والعلاقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية
    قال الالمانى اوجست منشيد ( اذا استثنينا الصين فلا يوجد شعب يحق له الفخر بوفرة كتب علوم لغته غير العرب )
    خالص تقديرى

  2. Avatar
    محسن الحيدري:

    مزيج اللغة والادب والاقتصاد , متجسد في سطورك المركرة هذه.بورك فيك. محسن الحيدري

  3. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    اخى العزيز دكتور مظهر محمد صالح
    اهدى اليك والى كل صديق فى شبكة الاقتصاديين العراقيين لم تسنح لى فرصة اللقاء به ولو على قارعة الطريق هذة القصيدة – الدرامى عن الصديق
    الاخوة حك تريد مو بس حجى لسان
    يعجبنى كلمن صار للخوة عنوان
    الاخوة حك تريد مو بس ضحك وروح
    نتعاون سوه عل الضيم ونضحى بالروح
    تبقه الصداقة جسر ما بين الاحباب
    ويبقى الصديق الوفى مفتاح كل باب
    للصحبة اهدى الروح وعيونى الاثنين
    والعمر فدوة يروح للصاحب الزين

  4. د.مظهر محمد صالح
    د.مظهر محمد صالح:

    رائع دوما استاذ فاروق وما اعظم خزين معرفتك وخبرتك في هذه الحياة
    العمر المديد لكم
    مظهر

  5. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    استاذى العزيز مظهر محمد صالح
    بعيدا عن ( فرانز كافكا ) هذا الروائى الجيكى العظيم الذى كتب رواياته بالالمانية ووصلت الينا من خلال ترجمتها الى اللغة الفرنسية ومنها الى العربية
    ولكن ما يهمنى هنا سوْالكم المحورى ذو الصلة ب ( تصنيع العراق ) وهو : كم منا يدرك حقا كيف يصنع قلم الرصاص؟
    فى البداية كان الانسان يكتب باصبعه يغمسها بالدم ثم يرسم ويكتب ما يشاء
    السومريون هم اول من اخترع قلم الكتابة فى مطلع الالف الرابع قبل الميلاد والقلم السومرى عود من الخشب يكتب به على الواح من الطين اللزج
    ابو الاقتصاد ادم سمث كتب عن التخصص وتقسيم العمل عام 1776 فى كتابه ثروة الامم -وهذا اساس الموضوع
    كيف يصنع القلم ؟
    الجواب
    يقطع الخشب شرائح
    يحدد سمك الخشب
    نعمل الجسم الخارجى لشكل القلم
    نعمل مجرى السن
    نضع المادة الاصقة
    نضع الكرافيت
    نلصق الجزئين
    نفصل مجموعة الاقلام طوليا وعرضيا
    التشطيب
    تعبئة وتغليف
    خزن
    اذا اين المشكلة ؟
    مثال عملى
    قام احد رجال الاعمال فى اواسط الستينيات من القرن الماضى بتاسيس مصنع لصناعة اقلام الرصاص فى بغداد وحصل على اجازة تاسيس وعلى حماية جزئية لانتاجه من الاقلام
    لم يقم المنتج بتصنيع القلم – ماذا عمل ؟
    بدء من اخر مرحلة – تصنيعية – كيف ؟
    استورد مادة الكرافيت واستورد ماكنة لادخال ( لب الكرافيت ) فى شريحة الخشب المستورة ايضا
    النتيجة
    كلفة استيراد قلم الرصاص من الصين c&f واصل بغداد 5 فلوس عراقى فى حين كلفة انتاج قلم الرصاص العراقى 7 فلوس عراقى هذا اولا
    وكانت ( لبة الكرافيت ) تتكسر داخل خشبة القلم – يعنى تصنيع ردىْ النوعية وهذا ثانيا ( طبعا النوعية عامل اهم من الكلفة بالنسبة للمستهلك )وبالمناسبة ان تصنيع قلم الرصاص من اول الى اخر مرحلة تصنيعية يتطلب استثمار كبير
    بداية المشكلة
    بعد التضيق على التجار المستوردون تحول الكثير منهم الى القطاع الصناعى ( بعقلية تحقيق الربح السريع ) مثلا انشىْ مصنع لصناعة الحبر كيف ؟ الحبر مستورد وقنينة الحبر مستوردة وسدادة القنينة مستوردة ماذا تبقى ؟ الماء المقطر ومثل اخر انتاج خميرة الخبز – خميرة مستورة يتم تقطيعها ووضعها فى عبوات صغيرة ومثل اخرصناعة الدراجات الهوائية من قبل القطاع العام فى المحمودية – استيراد اجزاء الدراجة المقود ( السكان ) والسرج والزنجيل والصينية ماذا يبقى بوارى الهيكل الداخلى والصبغ ( يقال ان الزعيم عبد الكريم قاسم امر بانشاء هذا المصنع فى المحمودية لاستخدام الدراجية الهوائية من قبل الفلاحين هناك بدل التنقل على ظهور الحمير ) طبعا هذه الامثلة ليست استثناء
    السوْال الان من سيبادر الى تصنيع العراق القطاع العام ام القطاع الخاص ؟

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: