تنمية الموارد البشرية

أ.د. محمد الربيعي: الامتحان المركزي ضرورة اكاديمية ام رغبة سلطوية

صدر قرار غريب عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، بفرض الامتحان المركزي على جميع المواد الدراسية للسنة الاخيرة للكليات ذات اربع سنوات وللسنتين الاخيرتين للكليات ذات الخمس سنوات. قرار غريب لاسلوب امتحاني لا يوجد مثيله في اي بلد في العالم ولسبب بسيط ، ان البرامج الاكاديمية والمواد الدراسية للجامعات المختلفة ليس لها ضرورة ان تتماثل في رسالاتها اوغاياتها او محتوياتها او طرق تدريسها. وليس المفروض ان تكون الجامعات متشابهة، فهي حرة اولا، وليست كمثل المدارس الثانوية حيث لا يوجد فروق في مناهجها، وليست هي مؤسسة واحدة كالمصارف واسواق السوبرماركت لها فروع في انحاء البلاد لكنها تدار مركزيا.

لا اريد هنا ان اثير زوبعة في فنجان، ولا تعكير اجواء التعليم العالي وهو يواجه تحديات كبيرة، بل اني ومن دوافع الحرص على نجاح حركة الاصلاح والتطوير التي تمر بها الجامعات العراقية، سأحاول مناقشة هذا القرار الغريب لمعرفة دوافعه وأسبابه الموضوعية وذلك بطرح بعض الاسئلة على الادارة الجديدة للوزارة لعلنا نجد ما يشفي غليلنا من الاجابات.

ان قرار مركزية الامتحانات يفترض شموليا او جزئيا ما يلي:

1- للجامعات نفس مفردات المناهج للأقسام المتناظرة،

2- لمناهج الجامعات نفس مخرجات التعليم والتعلم،

3- للمواد التدريسية (المساقات) نفس الكتب الدراسية المقررة ونفس مصادر التعلم،

4- يلتزم التدريسيين في الجامعات المختلفة بنفس طرق وأساليب التدريس وتتشابه بيدوغوجيات التعليم والتعلم للمناهج المتشابه،

5- عدم وجود تطوير او تحسين في جامعة ما للمناهج والمواد التدريسية بصورة مستقلة عما يحدث في جامعة اخرى،

6- الامتحان المركزي بديل لنظام ضمان الجودة او الاعتماد لقياس كفاءة التعليم والتعلم،

7- لا حق للتدريسي في امتحان طلبته، اي ان الحرية الاكاديمية للتدريسي منقوصة،

8- واخيرا، ان الوزارة لا تثق بإدارات الجامعات وبالتدريسيين وبقدرتهم على امتحان طلبتهم بأمانة وعدالة وبما يتناسب ومحتويات البرامج والمواد الدراسية.

لذا فاني احب ان اطرح التساؤلات التالية:

اذا كان الامتحان مركزيا (وزاريا على ما يبدو)، فلماذا يتم اعتماد نظام لضمان الجودة، ولماذا تسعى الجامعات للحصول على الاعتماد الدولي لبرامجها الاكاديمية؟ أليس الامتحان المركزي معيار كافي يحدد مستوى اداء الطلبة وجودة البرنامج الاكاديمية وعلى حسب تصريح احد مسؤولي الوزارة “ان نتائج الامتحان المركزي تعتبر معيار لكفاءة الجامعات والكليات”؟

اذا كان الامتحان المركزي ضروري لضمان الجودة، فلماذا لا يكون التدريس المركزي ضروري ايضا خصوصا في ظل توفر مستلزمات التعليم عن بعد؟

بيدوغوجيات التعليم الحديثة تفترض علاقة اساسية بين مخرجات التعلم والامتحانات. فلماذا يقوم التدريسي بوضع مخرجات تعلم، ويدّرس على اساسها بينما يقوم شخص آخر بامتحان طلبته؟ في هذه الحالة سيكون الطالب هو المسؤول عن تعلمه (وليس التدريسي) والامتحان سيكون مجرد وسيلة لمعرفة درجة تعلم الطالب ولهذا ليس من الحق اعتباره معيارا لكفاءة الجامعات والتدريسيين.

اشار تقرير التعليم العالي – انجازات ثلاث سنوات- بضمن اشارته الى مفاصل نجاح العملية التعليمية الى منح الاستقلالية للجامعات والتي اعتبرها التقرير “من اهم الخطوات التي كان يحتاجها قطاع التعليم العالي ليأخذ طريقه الى التقدم والنماء”. اليس اجراء مركزية الامتحانات اجهاض لمنجزات الوزارة نفسها في منح الاستقلالية للجامعات؟

من الطبيعي ان يكون الامتحان المركزي اجراء مغري للمسؤول الاداري كحل بسيط للازمة الخانقة للتعليم العالي. الامتحان المركزي بطبيعته تكريس لسياسة المناهج الموحدة التي ابتدأها النظام السابق كجزء من هيمنة الدولة على كل مفاصل الحياة، لكن السياسة المعلنة للوزارة الحالية هي منح الكليات والأقسام الحق في تغيير محتويات المناهج بحدود 20% وبدرجة اكبر في بعض الحالات بدون ممانعة الوزارة كما حصل مع مناهج كلية الطب في جامعة الكوفة، فكيف للجامعات من تحقيق هدف تغيير المناهج ومحتويات المواد على ضوء ما تراه كل منها مناسبا لحاجاتها وظروفها في ظل متطلبات امتحان مركزي موحد؟

نظام الجودة يتطلب ان يكون لكل قسم او برنامج اكاديمي ممتحن خارجي له واجبات استشارية وتطويرية. ماذا سيكون دور الممتحن الخارجي في ظل نظام الامتحانات المركزية؟

هل يمكن للامتحان المركزي ضمان تنوع طرق الامتحان بالاضافة الى الامتحان التحريري المغلق كمثل امتحان الكتاب المفتوح والوقت المفتوح والتقارير والدروس العملية والمشاريع وعرض الدراسات ونقد البحوث والتعليم المعتمد على المشكلة والمقابلة والبوسترات وامتحانات المهارة وغيرها من طرق الامتحانات التي تقيس تعلم الطالب حسب تصنيف بلوم (Bloom’s Taxonomy) والتي تتطلبها شروط ضمان الجودة؟

لكل جامعة وكلية وقسم رسالة وأهداف خاصة بها وهي بطبيعتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمناهج ومحتويات المواد الدراسية وبالامتحانات. هل سيلغي الامتحان المركزي اهمية وجود الرسالة والاهداف؟ فالرسالة الملائمة لامتحان مركزي موحد لابد ان تكون عامة ومتشابه للبرامج المتناظرة، ولربما ستكون الرسالة عندئذ هي نجاح اكبر عدد من الطلاب في الامتحان المركزي، والاهداف الملائمة هي تمكين الطلبة عبر اي سبيل ملائم من النجاح في الامتحان المركزي.

الامتحان المركزي سيزيد من فعالية التلقين والاجترار وسيدفع التدريسي الى الالتزام بمفردات المادة حرفيا، وسيّحرم الابتكار والابداع في التدريس وتدريب المهارات كالقيادة والعمل الجماعي والاتصال والتواصل وغيرها من المهارات التي يتطلبها سوق العمل في وقتنا الراهن. سيدفع اسلوب الامتحان المركزي الاستاذ الى تجنب اضاعة الوقت بتعليم المهارات وتركيز الاهتمام بالمواضيع الاساسية والتي تقدم اجابات للأسئلة المتوقعة في الامتحان المركزي على اعتبار ان مثل هذا الامتحان لن يكون لقياس معارف الطلبة فقط، وإنما ايضا لقياس كفاءة وقابلية التدريسيين. ستتحول الصفوف بامتياز الى كتاتيب والأساتذة الى ملقنين والطلبة الى مجترين.

نعود لنتساءل، لماذا يحصل مثل هذا الاجراء في العراق فقط؟ لماذا لم نسمع بامتحانات مركزية في اية دولة اخرى، او حتى في مجموعة من الجامعات ذات الصلة؟ هل ستعتبر الشهادات الممنوحة شهادات من جامعات معينة كجامعة بغداد او البصرة او الكوفة، ام انها ستمنح من وزارة التعليم العالي؟ كيف يحق للجامعة من وضع اسمها على الشهادة وهي غير مسؤولة عن الامتحان النهائي؟ ليس من حق اي جهة عدا الجهة الامتحانية في منح شهادة التخرج، لذا في حالة قيام اي جهة خارجية باجراء الامتحانات النهائية سيكون منح هذه الشهادة من قبل الجامعات مخالفا للقوانين والاعراف الجامعية. كيف يمكن لرئيس الجامعة من وضع توقيعه على الشهادة ومؤسسته لم تقم بالامتحان النهائي؟

هل يمكن لجامعة عريقة ان تتساوى شهادتها مع جامعة فتية خصوصا وان معدلات القبول فيهما مختلفة وامكانياتهما مختلفة؟ اليس في هذا اجحاف لحق الجامعة العريقة في التصدر؟ لماذا تختلف الجامعات في معدلات القبول بينما تتشارك في امتحانات التخرج؟ لماذا يوجد عدد كبير من الاقسام المتشابهة ومن الكليات المتشابهة في جامعة واحدة بينما يوجد امتحان واحد مشترك بين الجامعات؟

هل يمكن لوزارة التعليم العالي ان تجيب على هذه التساؤلات؟

دعني اقدم اقتراحا بديلا ألا وهو ان يخضع الخريجون بعد الحصول على شهاداتهم لامتحان كفاءة شامل يمثل اعتمادا مهنيا لشهادة الخريج، ومن قبل جهة مستقلة خارجة عن سيطرة التعليم العالي كما هو الحال لعديد من الشهادات المهنية في العالم حيث يعتبر النجاح في امتحان الاعتمادية الشخصية (وهو امتحان اختياري) طريق الخريج من اجل ممارسة المهنة.

أخيرا، نصيحتي للتعليم العالي بعدم اعتماد اي اسلوب او اجراء يخص عملية التعليم والتعلم من غير تمحيص وتدقيق اجراءاته على الصعيد العالمي، ومن دون تجربته بين مجموعة صغيرة لإثبات درجة فعاليته قبل تعميم التجربة، لان عمليات التعليم العالي مثل العمليات الجراحية لا توجد فيها طرق محلية تختلف عن الطرق العالمية. كما انه من الافضل وفي ظروف الحريات الاكاديمية التي تتمتع بها جامعاتنا ان يرفق مع التعليمات شرح للأسباب الموجبة، وتتضمن دراسات سابقة ومراجع علمية وتربوية موثقة، بحيث يتعرف التدريسي على مدى المام الوزارة بالاشكالية التي تضمنها موضوع الامر الاداري والأسباب التي تدفع الوزارة الى اصدار مثل هذه التعليمات وبأنها، اي الوزارة، على معرفة بما سيلحقها من معطيات. الاسباب الموجبة لهذه الطريقة هي ان الجامعات هي اساس كل التحولات، ومصير البلاد يتمثل فيها، و وزارة التعليم العالي جهاز اكاديمي رسمي يمثل قمة المعرفة وبيئة الابتكار في حكومة ديمقراطية  تتعامل مع صفوة المثقفين والعلماء والأكاديميين في البلاد، وليس كجهاز مركزي روتيني فوقي يسّير على طريقة السلاطين العثمانيين.

(قول تربوي مأثور: وضع امتحانات مناسبة هو مبدأ اساسي من مبادئ التدريس الجيد – رامسدن 2003 )

(*) أستاذ جامعي وباحث متخصص في العلوم والتكنولوجيا والتنمية البشرية

 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: