في خضم الحوار والجدل الاقتصادي الدائر حول مسائل المساواة واللامساواة في توزيع الدخل، تبرز جلياً ثمة علاقة سببية بين المساواة المطلقة في اعادة توزيع الدخل والتدهورالمطلق في الكفاية الاقتصادية ! اذ شخص الاقتصاديون منذ عقود مضت، انه كلما تعاظمت درجة المساواة في توزيع الدخل فان الكلفة الفرصية لتعظيم الناتج او الدخل نفسه ستأخذ بالتقلص ومن ثم الانخفاض والتدهور! وكثيراً ما تورد الامثلة والنماذج الاقتصادية بهذا الشأن، التي تهدف جميعاً لفهم العلاقة التبادلية بين تعظيم الكفاية ودرجة امثلية المساواة الاقتصادية.
لنفترض ان الدخل الوطني للمجتمع هو شيءْ يماثل قطعة كبيرة من الجبن ، صفراء دائرية الشكل، و يجري اعدادها بصورة مستمرة سنوياً، وان القطعة التي يحصل عليها اي من ابناء المجتمع تمثل مساهمة كل واحد منهم في صناعة او اعداد تلك الجبنة. ولنفترض ان المجتمع المذكور قرر ولأسباب تتعلق بالعدالة والانصاف، ان يحصل بعض افراد المجتمع على قطع كبيرة من الجبن والبعض الاخر على قطع اصغر من الجبن نفسه.
ولكن يوم قرر المجتمع إعادة توزيع الجبنة وعلى نحو يحصل فيه الجميع على قطعٍ متساوية من الجبن نفسه، بغض النظر عن مقدار مساهمة كل واحد منهم في اعداد ذلك القرص الدائري الاصفر الكبير من الجبن، فانهم سيتوصلون وبمرور الوقت الى ان الحجم الاجمالي للجبنة قد اخذ بالانحسار والتقلص عن سابق عهده. وسيكتشف افراد المجتمع بأنفسهم،ان جبنة اليوم غدت أصغر حجماً من جبنة البارحة!.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا تسهم انت في صنع الجبنة اذا كنت تحصل على قطعة كافية ومناسبة من الجبن من دون بذل اي جهدٍ عمليٍ يُذكر في الانتاج؟ فالاجابة واضحة وصريحة جداَ وهي ان انخفاض قرص الجبن الدائري الاصفر وتقلص حجمه يمثل في جوهره ذلك الضياع في درجة مساهمة الافراد في الكفاية الانتاجية(اي الضياع في الناتج او الدخل السنوي نتيجة الاتكالية وتدني المساهمة في صناعة الجبنة) وان سبب ذلك ناجم لامحالة عن الاثار المؤذية لاعادة التوزيع الذي لايؤدي الى تحفيز الانتاج ويقمع الانتاجية ولايؤدي الى الادخار ومن ثم الاستثمار ولا الى قبول المخاطر الادارية الريادية والتنظيمية! كما ان تقلص وصغر قرص الجبن الدائري نفسه يعكس ايضاً تلك الموارد التي هدرها المجتمع ولمصلحة القوى البيروقراطية التي تولت تسيير النظام الاداري لاعادة توزيع الجبنة!! ولكن يبقى السؤال المدوي: ما هو الحجم الذي يقبل به المجتمع ان يتقلص فيه قرص الجبن الاصفر الكبير عند اعادة التوزيع على نحو يقترب من المساواة؟ فهل الخسارة التي يتسامح بها المجتمع هي 10بالمئة ام 20بالمئة ام 75بالمئة؟ انه السؤال المركزي والاساسي الذي يواجه صناع القرار الاقتصادي حول العالم في البحث عن الحجم الامثل لتوزيع الجبنة بعدالة ومساواة وبأقل خسارة ممكنة في الكفاءة الانتاجية.!!
(*) المستشار الإقتصادي لرئيس الوزراء ونائب محافظ البنك المركزي السابق
احسنت استاذ فاروق على تعقيبكم الغني والرائع حقا
اولا – يصف الاقتصادى السويدى جان تنبركن Jan Tinnbergen الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد مساْلة التوزيع بانها العمود الفقرى للسياسة الاقتصادية ولاحظ غياب تفسير علمى معقول لاتجاهات التوزيع فى الدول المختلفة بسبب اهمال الاقتصاديين لهذه المساْلة فترة طويلة
ثانيا -ان هدف الاقتصاد هو انتاج الثروة وتوزيعها غير ان الذين يسيطرون على الموْسسات الاقتصادية يتمتعون بنفوذ حاسم على الاخرين الذين يعملون لكسب قوتهم ويسعون للحصول على حصة من الثروة
ثالثا – يطرح الباحث مساْلة المساواة واللامساوان فى توزيع الدخل ولكنه لا يقدم ولو ( بصيص ) من الامل لحل لهذة المعضلة وهو معذور طبعا لان بحثه يدور حول ( الحجم الامثل لتوزيع الجبنة بعدالة ومساواة وباقل خسارة ممكنة من الكفاءةالانتاجية ) كما يبدو لى وهو مطلب صعب التحقيق على ارض الواقع
رابعا – توفر بعض الحل لهذه المشكلة فى الدول الراسمالية فى وجود نقابات عمال قوية كما يتم دعوة سلطات الدولة الديمقراطية بشكل متزايد لحماية الاشخاص ( الافراد ) الاضعف من الاشخاص ( الشركات ) الاقوى منهم ومن سلطة وهيمنة الموْسسات الاقتصادية الكبيرة ( الشركات متعددة الجنسية )
خامسا – ضمن المدخل الاجتماعى الاقتصادى .ابرزت الامريكية Irma Adelman ان اكثر المتغيرات تاثيرا فى عدالة توزيع الدخول هى التعليم وتدخل الدولة الاقتصادى فى اذابة الفوارق بين الريف والمدينة والصناعات التقليدية والصناعات الحديثة ومستوى الدخل الفردى المتوسط وقوة النقابات العمالية والمهنية
خالص تقديرى لاستاذى الدكتور مظهر محمد صالح على بحثه العلمى القيم