خواطر إقتصادية

د.مظهر محمد صالح: الرغيف المغترب…!

قطعت حافلة الركاب التي اجتازت حدود الصحراء الغربية قبيل الفجر وطلال مازال يفكر بمرارة الكفاح التي قضاها مغتربا يبحث عن سبل العيش وهو ابن تلك العائلة الكريمة ، الكبيرة الاعتداد بنفسها وقوية الشكيمة والتحدي ، لاجاع يوما  فيها احد ولاتعرى ولاتشرد.ولكن في غفلة الايام من تسعينيات القرن الماضي وجد طلال بلاده قد تدثرت بدثار العوز والجوع وصار حال اهلها بلا مأوى ولامال ولامعين والبلاد كلها في قبضة عصبة قاسية تنكرت بنفسها لهول الاحداث ولايحيطها همٌ ولا كربٌ ولاحاجة ازاء عاديات الزمن  .قطعت الحافلة تلك الصحراء وطلال يحلم بلحظات الوصول الى اسرته التي  ستستقبله بفرح غامر وهو يحمل هداياه لهم بعد مشقة الدرب الطويل .وقبل ان يتهيأ الجميع ليهموا بالنزول وبدقائق من بلوغ الحافلة مرأب الوصول في قلب العاصمة ، سال الراكب الذي جلس الى جوار طلال مشددا القول: ماذا جلبت من هدايا لاهلك يارجل ؟اجاب طلال الم ترَ هذين الكيسين الشفافين الكبيرين من الخبز الابيض عسى ان يسعدوا بها بعد ان خطف الجوع حياتهم وبات شظف العيش ملاذاً خاوياً لهم! ضحك الرجلان بأسى على حال امة فقدت رغيفها وهي تبحث عن سبيل ادنى للعيش حتى من رغيف بارد جائع منطوي!عاود الرجل سؤاله لطلال ماذا حصدت إذن من مال ياطلال بعد ان قضيت عامين في الغربة وانت مكبل بهذين الكيسين من  الخبز الابيض؟اجاب طلال من فوره وهو يتنهد اسىً وحزناٌ عميقاً….لم احصد ايها الرجل سوى عالم فارغ بلا صديق ولا اهل ولكن حصدت شياً قليلاً من الطمأنينة صاحبها الكثير من الآلام ،اما الغبطة فقد غادرتها هي الاخرى ولاعهد لي بها .ترجل  طلال وهمَ بالنزول بعد ان توقفت الحافلة في قلب بغداد الكرخ وكان قبلها  يتطلع الى ذلك الاكتضاض المهول من الجند التي تبحث عن وجهة نقلها او رحيلها وترحالها في بلاد عُسكر ابناؤها وهم بأنتظار حروب الواحدة تلو الاخرى وهي خالية من مقدساتها .تذكر طلال تلك الجموع الهائمة التي انتشرت بدون انتظام بعد ان خوت اجسادها وطوى الجوع ابدانها ليتذكر قول نابليون :الجيوش تزحف على بطونها،مستذكراُ اهمية اطعام الجنود واشباعهم،اذ تشكل الحصص الغذائية ووجباتها الركن الرئيس في المواد اللوجستية المقدمة للجند سواء في تموين الثكنات العسكرية بالطعام المطبوخ او في تموين الميدان بالطعام المعلب او الجاهز.غادر طلال ادراج الحافلة وهو يحمل هديته لاهله كيسين من( البلاستيك) في كل كيس اقراص من الخبز الابيض البارد الذي فقد دفئه…ولم يتقدم طلال الا بضعة خطوات واذا بالجند  قد انهالوا على اكياس طلال الممتلئة بالخبز لتستحيلها في ثوان معدودات الى ركام من اللاشيء في جوف تلك الابدان الخاوية الا من الجوع !اندهش طلال وتراجع خطوة الى الوراء وتساءل في نفسه:كيف سيقاتل اولئك الجند الذين عج بهم مرأب السيارات في محاور وجبهات الحرب المجهولة وهم من قال عنهم نابليون الجيوش تزحف على بطونها؟ ختاما،انتهى طلال برغيفين من اقراص الخبز التي جلبها معه وامامه الجندي الاخير وهو يتطلع الى طلال منكسر الخاطر…هنا تبسم طلال قائلاً له لم يبق معى سوى هذين الرغيفين احدهما سيكون من نصيبك والاخر ساقدمه لعائلتي كعربون لغربتي بعد عامين من الفراق والعودة اليهم  بهذا الرغيف المغترب!!!

(*) المستشسار الإقتصادي لرئيس الوزراء العراقي

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (7)

  1. Avatar
    د عبد الباقي:

    سلام عليكم دتور
    لماذا لا تتشكل لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي العراقي على غرار نظيره المصري
    مع التحية …
    د عبد الباقي

    • dr.schuber
      dr.schuber:

      سؤال وجيه وينبغي توجييه الى مجلس إدارة البنك المركزي

  2. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    نعم استاذى العزيز
    لقد كنت حاضرا انا ايضا فى اليوم الثالث من مجلس الفاتحة للمرحوم الدكتور حميد البستانى الا اننى لم استمر لكى احظى بروْية ذلك المشهد حيث تدافعت جموع الجياع على موائد الطعام —
    لقد طلب منى والح على الدكتور باسل خليل البستانى ( وهو كما تعلمون ابن عم المرحوم حميد البستانى ) البقاء معه الا اننى – ومن حسن حظى – اعتذرت وغادرت مجلس الفاتحة ولكن وكما يقول المثل ( امعلم على الصكعات كلبى ) فلاننى احد اقرباء الدكتورة طبيبة الاطفال خالدة محى الدين واصف زوجة الدكتور حميد البستانى فقد وصلنى فيما بعد الخبر ( المضحك المبكى وشر البلية ما يضحك )
    امد الله فى عمركم ودمتم بكل خير

  3. مظهر محمد صالح
    مظهر محمد صالح:

    دمتم لي عزيزا استاذ مصطفى البهادلي ودعائي لك دوما بالتوفيق والتقدم
    المخلص
    مظهر

  4. Avatar
    مصطفى محمد ابراهيم:

    تحية طيبة استاذي الفاضل الدكتور مظهر محمد صالح المحترم
    ربي يحفظك على هذه المقالة الجميلة جداً وتسلم يداك على كتابة هذه الخواطر الاقتصادية والاجتماعية ويبقى قلمك المميز من بين جميع الكتاب يااستاذي الغالي . لو نعود في ذاكرتنا الى التسعينيات كيف كان رغيف الخبز الذي يتكون من مادة الطحين (السيل) وكيف كانت توزع الحصة التموينية في زمن الحصار الاقتصادي . ربي يحفظك لنا دكتور وزمز للعراق العظيم
    مع التقدير

  5. مظهر محمد صالح
    مظهر محمد صالح:

    دمتم لنا الاستاذ العزيز فاروق يونس …واود ان اضيف انه في العام 1993 او 1994 انتقل الى جوار ربه طبيب الاطفال الدكتور حميد البستاني وذهبنا الى مجلس العزاء في قاعة جامع المرحوم محمود بنية الذي كان مجاور لمرأب سيارات علاوي الحلة،ومن قبيل الصدف كان حضورنا في اليوم الثالث.ولكون المرحوم البستاني من عائلة بغدادية ميسورة فان العشاء المعد للحضور كان بمستوى عال جدا على الرغم من ظروف الحصار الاقتصادي وقت ذاك فكان غنياً بالحوم والرز والخبز الابيض والكثير من الحلويات.واثناء جلوسنا في قاعة العزاء سمعنا اضطرابا بشريا غير معهود ولايتناسب وسكون مجالس العزاء. وفجأة دخل رجل وقور من عائلة البستاني وربما كان الاخ العزيز الدكتور باسل البستاني .. مخاطبا المجلس وهو يعتذر جداُ للحضور لان قاعة الطعام المجاورة لقاعة مجلس العزاء قد تدافع عليها الجند الذين تدفقوا من مرأب السيارات المجاور و الذي يكتض بالجند ليل نهار (امة مُعسكرة تماما) …مؤكدا انهم في حالة يرثى لها وهم اولى بالطعام منكم .واحترم المعزين الموقف وغادرنا قاعة مجلس الفاتحة كي نفسح المجال لتلك الجموع المتعبة ؟ والكل ترك المكان بأسى مرددين لاحول ولا قوة الا بالله على حال العراق وما حل باهله.
    مظهر

  6. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    عزيزى القارىْ
    لامر ما اخفى علينا الدكتور مظهر محمد صالح سبب ان تكون الهدية كيسان من الخبز الابيض وليس شيىْ اخر ولامر ما اخفى علينا الدكتور مظهر سبب تداعى ( الجند ) على اكياس الخبر الابيض كما تتداعى الاكلة على قصعتها —
    تجدون الجواب عند كلكامش:
    الخبز يا اكيدو بهجة الحياة هذا ما قاله كلكامش لصيدقه —
    ان صنع الخبز واكله هو السمة الرئيسية للانسان المتحضر
    الرمز السومرى للاكل هو علامة ( الفم ) مع علامة الخبز فى داخله
    نعم فى تسعينيات القرن الماضى كانت ازمة الغذاء قاسية فى العراق وبلغت نسبة الشوائب فى رغيف الخبز ( الصمون ) العراقى اكثر من 60% ولا عجب ان بعض الاخيار كانوا يوزعون الخبر الاردنى الابيض ( مجانا ) على يعض سكان بغداد فى جانبى الكرخ والرصافة لم لا وقد تدثر اكثر الناس بداثر العوز والجوع —
    الفقر فى اللغة ( هو ما يكسر فقار الظهر — والفقير هو المكسور فقار الظهر ) والفقير فى الشرع الاسلامى ( هو الذى لا يملك قوت سنته له ولعياله وتسمى الحالة بين الغنى والفقر : الكفاف ( ربى اجعل خبزنا كفاف يومنا )
    الفقر لا يكون فى المال فحسب فهو يطلق على فقر العلم وفقر الدين وفقر القوة وفقر النفس ( فقر النفس : كاد الفقر ان يكون كفرا ) كلها تعنى فقد الشىْ والحاجة اليه
    ( ان الله يحب عبده الفقير المتعفف ) ومثل هذا الفقير المتعفف يناْى بنفسه ان يكون من ( الطبقة الرثة ) سيىْ الخلق
    ( لاح الجمال لذى النهى فاحبه — وراه ذو جهل فظن ورجما — لا تطلبن محبة من جاهل — المرء ليس يحب حتى بفهما )
    خالص تقديرى لاستاذى الفاضل مظهر محمد صالح

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: