الصناعة الوطنية

د . مدحت القريشي: الحكومة والسياسيون والمواطنون جميعهم يسهمون بقتل الصناعة العراقية

نشرت جريدة الزمان البغدادية بتاريخ 22/6/2015 مقالة تحت عنوان “الحكومة تسهم بقتل الصناعة العراقية ” ، وحيث ان هذا الموضوع ذو شجون فقد حفزني على كتابة التعقيب الاتي .

يعرف العديد من الاشخاص مدى اهتمامي ومتابعتي  لموضوع الصناعة العراقية ولطالما كتبت مدافعا عنها في العديد من الصحف والمجلات وكذلك في شبكة الاقتصاديين العراقيين وفي الندوات والمؤتمرات . ومن بين هذه المقالات : محنة الصناعة العراقية ،ولماذا الاصرار على محاربة الصناعة العراقية ،والسياسة الاقتصادية العراقية  في خدمة دول الجوار .لكنه ، وللاسف الشديد لم تلقى هذه المناشد ات وغيرها الصدى المطلوب لدى المسؤولين او السياسيين    وحتى الجماهير الشعبية الواسعة ،وكْان الامر لايعنيها .ولهذا كنت اردد القول باننا كمن يغني في سوق الصفارين حيث لا يسمعنا احد .ان هذا التشبيه يعكس بدقة الحالة التي وصلنا اليها في العراق .وتجدر الاشارة الى ان المشكلات التي تواجه الصناعة العراقية معروفة ومشخصة ولا ينقصنا سوى الارادة والتحرك الجاد من جميع الاطراف المعنية .

 ولابد من الاشارة الى ان المقالة المنشورة ، موضوع التعقيب ،جيدة وحددت العديد من الحلول التي من شانها النهوض بالصناعة العراقية وجعلها اداة فعالة في معالجة العديد من المشكلات الاقتصادية في العراق مثل الانتاج والدخل وتوفير العملات الاجنبية وفرص العمل وتحسين واقع الهيكل الاقتصادي الاحادي الجانب فضلا عن المردودات الايجابية على قطاع النقل  والتامين والمصارف وغيرها من النشاطات .

ومن جملة المعالجات المذكورة في المقالة :تشكيل لجنة تضم اقتصاديين وفنيين من الشركات الصناعية وكذلك اكاديميين من الجامعات لغرض دراسة استبدال المكائن المتقادمة بمكائن جديدة ، والزام الدوائر المعنية في الدولة بشراء احتياجاتها من السلع والمواد من الشركات الصناعية ، وقيام المصارف بتقديم التمويل التفضيلي فضلا عن اختيار ادارات كفوءة ونزيهة ومؤهلة لقيادة الشركات الصناعية

وبالعودة الى مسالة قتل الصناعة العراقية فمن الانصاف الاعتراف بان الحكومة ليست الجهة  الوحيدة المسؤولة عن قتل الصناعة العراقية بل هناك جهات اخرى تساهم في هذا الاتجاه :

  • فالحكومة من جانبها لاتمتلك استراتيجية تنموية وبالتالي ليس لديها سياسات وادوات لاعادة تاهيل الصناعة وتنميتها وتطويرها ،لهذا لانجد في الموازنات العامة  المتعاقبة التخصيصات الكافية لتحقيق الغرض المطلوب كما انها لم تجد الصيغ المناسبة لتمويل الاستثمارسواء من خلال المشاركة او عقود الخدمة او غيرها  (باستثناء قطاع النفط ) .هذا الى  جانب تاثير الفساد الاداري والمالي المنتشر في الصناعة وفي غيرها من المجالات ،مما يجعل دور الحكومة غائبا  او مغيبا في مجال احياء الصناعة العراقية .كما ان وزارة التجارة تنفق المليارات على استيراد السلع الضرورية للبطاقة التموينية ولا تفكر في تامين حاجاتها من المنتوجات المحلية حتى عندما تكون هناك منتجات عراقية متوفرة .ان العديد من البلدان لديها  قوانين وتعليمات تجبر الجهات الحكومية على شراء احتياجاتها من المنتجات المحلية قبل التوجه للاستيراد من الخارج ،اما في العراق فحتى عندما تصدر توجيهات من بعض الجهات الرسمية فلا يلتزم بها احد ولهذا نسمع الشكاوى المتكررة  من قبل الشركات الصناعية  لعدم اقدام الجهات الرسمية لشراء ما  يحتاجونه من سلع وخدمات من الشركات الصناعية المحلية .والاسباب باتت معروفة وترتبط بمصالحهم الذاتية  والفئوية .

اما المسؤولون والسياسيون ، سواء في مجلس النواب او في المؤسسات الاخرى فان الغالبية العظمى منهم غير معنية الا بمصالحهاا لشخصية والفئوية والحزبية ،والبعض الاخرمرتبط بجهات  ومصالح خارجية تضغط عليهم من اجل تسهيل دخول السلع والمواد من دول الجوار  وغيرها ليظل العراق بقرة حلوب لها  حتى وان تطلب ذلك عرقلة  نهوض الصناعة الوطنية  والا هل يوجد اليوم دولة في العالم تستورد كل شي ،حتى الماء بل وحتى بعض السلع التي ليس لها حاجة ابدا وكانه لاتوجد دولة وسياسة تجارية واقتصادية …ولا تقتصر هذه الحالة على السلع الصناعية بل تمتد الى المنتوجات الزراعية .وهناك العديد من الامثلة مثل السمنت العراقي الذي يتفوق بالنوعية على السمنت الوارد من عدد من المناشىء الاجنبية ورغم ذلك فان السمنت من مختلف المناشيء تغرق الاسواق العراقية وتؤدي الى تكدس المخازن بالسمنت العراقي مما  اجبر بعض المصانع العراقية على تخفيض اسعار منتجاتها من اجل تصريف الانتاج .

وكذا الحال مع الزيوت النباتية والملابس الجاهزة (البدلات الرجالية )والاحذية والتلفزيون وحتى طابوق البناء يستورد من ايران مع وجود الطابوق العراقي (رغم ان الطابوق يعتبر اقتصاديا من السلع غير القابلة للمتاجرة بسبب حجمها ووزنها الكبيرين ) . وفي الوقت الذي تقدم الحكومة الايرانية مختلف الاعانات والتسهيلات لمصانع الطابوق التي تصدر للعراق نجد ان الحكومة العراقية اما انها تضيق عليهم ولا تقدم لهم الدعم والتسهيلات لتشجيعهم على الاستمرار والتطور ،مما يدفعهم الى غلق مصانعهم وتسريح العاملين لديهم .

وفي عدد من الحالات  قرأنا  تصريحات لبعض النواب  وكذلك اعضاء لجان اقتصادية فيه بان بعض الدبلوماسيين الاجانب في بغداد يضغطون احيانا على بعض البرلمانيين من اجل عدم تمرير بعض التشريعات التي تهدف الى حماية المنتجات المحلية ومنع او تقليص المستوردات الاجنبية المماثلة للانتاج المحلي ،سواء في المجال الصناعي او الزراعي او غيره وفي اعتقادنا فان ما حصل من تاجيلات تطبيق قانون التعرفة الجمركية يعود في بعض جوانبه الى هذه الاسباب .

اما مساهمة المواطنين في قتل الصناعة العراقية فتتمثل في انهم فقدوا الوعي الوطني  في مجال الاستهلاك حيث ان منشا السلعة لم يعد يهم المواطن ابدا ان كانت وطنية او اجنبية وبذلك فان  تاثيرات هذا العمل على الاقتصاد الوطني وعلى رفاهية المواطن ل لم تعد تهمه او انه يجهلها ..وفي الوقت الذي يطالب المواطنون بالقضاء على البطالة وتوفير فرص العمل فانهم لايعملون شيئا لتحقيق هذا الهدف لا بل انهم يساهمون بابعاد تحقيق هذا الهدف ..وانه لامر محزن حقا ان نلاحظ الظاهرة الجديدة في بلادنا  وهي الانتشار الواسع للوحات  الاعلانية الكبيرة جدا والتي

تروج للمنتوجات الاجنبية والتي تعطى مجانا الى اصحاب المحلات ، ويبدوا  هؤلاء مسرورين جدا  لهذه الوحات المجانية بل وكانهم يفتخرون لترويج هذه المنتجات ، وهم بهذا العمل يحاربون المنتجات الوطنية ويزيحونها من السوق .وهكذا يعمل المواطنون على قتل الصناعة العراقية من حيث يدركون او لا يدركون .

واذا اردنا ان نعمل على تغيير هذة الحالة فانه يتعين على جميع الاطراف المعنية : الحكومة والمسؤولين والسياسيين والمواطنين اتخاذ موقف ايجابي من الصناعة الوطنية ومساعدتها على

اعادة التاهيل والتطور والنمو لما لذلك من مردودات اقتصادية لجميع الاطراف المذكورة انفا

فضلا عن تاثيراتها الايجابية على توفير العملات الاجنبية وعلى العمالة  وميزان المدفوعات .

ان هذه المهمة تتطلب جملة من الاجراءات واهمها :

1.وضع سياسة صناعية واضحة المعالم وملزمة التطبيق ضمن استراتيجية تنموية وتحديد الادوات اللازمة  لتنفيذها .

2.العمل على جعل  السياسات الاقتصادية المختلفة تتناغم مع السياسة الصناعية ولا تتقاطع معها وهذه تشمل السياسة  التجارية  وسياسة الحماية والدعم للمنتجات المحلية ,والسياسة النقدية والمالية وسياسات التامين والنقل وبقية الخدمات .

3.التزام مجلس النواب بالعمل على اصدار التشريعات  الداعمة للصناعة العراقية دون ابطاء او وضع العراقيل لمصالح ذاتية او فئوية او سياسية .

4.الاهتمام بتعزيز الوعي الجماهيري باهمية  ومردودات تطور ونمو الصناعة العراقية ،بما يجعل المواطن يفضل المنتج الوطني على المنتج الاجنبي مع مراعاة للنوعية والسعر بطبيعة الحال .واذا كانت بريطانيا في الستينات من القرن الماضي قد رفعت شعاراشتري المنتوج

البريطاني (                      BUY  BRITISH   ) فما احوجنا  نحن اليوم الى مثل هذا الشعار لشراء المنتوج العراقي لكي نحرك عجلة التنمية الاقتصادية والصناعة العراقية .

*   خبير اقتصادي واستاذ جامعي

عن جريدة العالم البغدادية، 15 تموز 2015

http://www.alaalem.com/index.php?news=%C7%E1%CD%DF%E6%E3%C9%20%E6%C7%E1%D3%ED%C7%D3%ED%E6%E4%20%E6%C7%E1%E3%E6%C7%D8%E4%E6%E4%20%CC%E3%ED%DA%E5%E3%20%ED%D3%E5%E3%E6%E4%20%C8%DE%CA%E1%20%C7%E1%D5%E4%C7%DA%C9%20%C7%E1%DA%D1%C7%DE%ED%C9&aa=news&id22=30355

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (3)

  1. مصباح كمال
    مصباح كمال:

    عزيزي مدحت
    أشكرك على التوضيحات الثلاثة، وأود أن أعلق عليها حسب تسلسلها.
    1- إن المسؤولية الجماعية للأطراف الثلاثة (الحكومة والسياسيون والمواطنون)، وبدرجات متفاوتة، في قتل الصناعة العراقية حقيقية. وضع هذه الصناعة تذكّرني بأغنية المونولوجست المفكر عزيز علي التي يُعزي فيها سبب عللنا لأنفسنا (دكتور دخل الله ودخلك مدّاوينا، دكتور، داء اللّي بينا منّا وبينا، دكتور). قد أكون مبالغاً، ومتشائماً أيضاً، عندما أزعم بأن الحس الوطني قد تفتت منذ 2003 بعد أن مَهّد له النظام الدكتاتوري عندما أعلن أن العراق مُلكٌ لحزب واحد أولاً ومن ثم ملك لصنم واحد.
    2- السياسات والإجراءات، لوقف القتل المستمر للصناعة العراقية، جُلّها تقع على عاتق الحكومة والسياسيين ومن ارتبط بهم من صناع القرار. أقول هذا لأن ما يسمى بالإرادة العامة للشعب، أو قل الرأي العام الفعّال، مفقودة وفي أحسن الأحوال ضعيفة تدور في حلقات ضيقة. وخلال ما يزيد عن عقد لم تنجح الحكومات في وضع سياسات اقتصادية وغيرها واكتفت بعقد المؤتمرات في الخارج والترويج للأطروحة السحرية المتمثلة في الخصخصة، وتعليق المعضلة الاقتصادية على شماعة القطاع العام.
    3- خيبة التأمين الكبرى لا تنحصر في التأمين على السيارات (الإلزامي والتكميلي/الشامل) إذ أن أساس الخيبة هو ما رسمه المحتل الأمريكي في قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005؛ وغياب، أو قل سوء توجيه، وزارة التخطيط والوزارات الأخرى فيما يخص إلزام تأمين عقود الدولة لدى شركات تأمين عراقية، وغياب أو ضعف الرقابة على النشاط التأميني (والرقابة هي من مسؤولية ديوان التأمين). وهذا ليس بالمكان المناسب للتوسع في الموضوع، ويمكن الرجوع إلى كتابي (قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005: تقييم ودراسات نقدية، 2014) وكتابات أخرى.
    وفيما يخص التأمين الإلزامي على السيارات يجب التفريق بين نوعين من التأمين. الأول، هو تأمين المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث السيارات التي تسبب ضرراً للطرف الثالث. وقد أدخل هذا النوع من التأمين في العراق لأول مرة سنة 1964 (وكانت مسؤولية مسبب الضرر تقوم على إثبات ركن الخطأ). وتم تطويره بإصدار القانون رقم 52 لسنة 1980 الذي اعتمد مبدأ افتراض قيام المسؤولية عن الضرر بقوة القانون دون حاجة لإثبات خطأ مسبب الضرر. وكان هذا تحولاً متقدماً وفريداً في التشريعات الخاصة بالمسؤولية المدنية.
    النوع الثاني، هو التأمين على الأضرار التي تلحق بالسيارة ذاتها، وكذلك الأضرار التي تصيب ممتلكات الأطراف الثالثة إذ أن القانون حصر تأمين المسؤولية على ما يصيب أبدان الأطراف الثالثة، بضمنها الوفاة، دون ممتلكاتهم.
    التأمين الإلزامي من حوادث السيارات التي تصيب الأطراف الثالثة قائم بقوة القانون، ولا يحتاج إلى قيام مالك السيارة بشراء وثيقة تأمين أو تسديد قسط للتأمين، إذ أن القسط يستوفى من خلال ما يدفعه صاحب السيارة لشراء البنزين.
    التأمين الشامل، هو الآخر موجود وتبيعه شركات التأمين العراقية. أما ضعف الطلب عليه فهو موضوع يستحق البحث، ويكفي القول هنا إن ضعف الإقبال على شراء الحماية التأمينية ينطبق على جميع فروع التأمين.
    لقد كتبتَ، مثلما كتب غيركَ، العديد من الدراسات الموضوعية عن قضايا النفط والصناعة والاقتصاد العراقي عموماً. سؤالي هنا هو: هل أن الحكومة والسياسيين يقرأون، وإن قرأوا هل يعتبرون بما قرأوا، وإن اعتبروا هل ترجموا ما استوعبوه إلى سياسات؟ أشك في ذلك.
    أشكرك لتحفيزي على المناقشة.
    مصباح كمال
    26 تموز 2015

  2. د .مدحت القريشي
    د .مدحت القريشي:

    عزيزي مصباح
    شكرا على تعليقك على مقالتي الاخيرة (الحكومة والسياسيون )واهتمامك الدائم بما اكتب .كما انني اهتم بما تكتب او تعلق على ما يكتبه الاخرونلما تتسم كتاباتك بالموضوعية والدقة والشمول.واود ان ابين الاتي :
    1.انني اتفق معك بان مسؤولية كل طرف من الاطراف الثلاثة في قتل الصناعة غير متساوية، فالحكومة تتحمل الجزء الاكبر ويليها السياسيون بما فيهم النواب واخيراالمواطنون ،فهم بدورهم يتحملون جزأ من السؤولية مهما كان صغيرا
    لانه يقرر ما يريد شراءه من السلع المتوفرة من المنشى المختلفة .الا انني لم افكر حين الكتابة في تحديد نصيب كل طرف من المسؤوليةبل كان همي فقط تشخيص الاطراف المعنية دون الالتفات الى الاهمية النسبية لكل طرف ،رغم اهمية ذلك .ولو كان المستهلك بمستوى الوعي السابق لما كان حجم المشكلة بالشكل الذي هو عليه الان .
    2 .اما السياسات والاجراءات المطلوبة فقد ذكرتها لكي ابين للقرى والمسؤول ماذا يمكن فعله لتحقيق الاهداف المنشودة رغم علمنا بان الوضع القائم بعيد عن امكانية تطبيق هذه السياسات والاجراءات.
    3 .اما الخيبة في مجال التامين وانت العارف الافضل في هذا المجال فيكفي ان اشير الى التامين على السيارات ،فكانت المرور تفرض التامين الالزامي والشركة تروج للتامين الشامل اما الان فلا يوجد تامين الزامي واما الشامل فيكاد يكون غائبا لقلة المؤمنين بذريعة الظروف .مع تقديري د .مدحت

  3. مصباح كمال
    مصباح كمال:

    قتلة الصناعة العراقية وقطاع التأمين
    دأب د. مدحت القريشي على تقديم بحوث ومقالات رصينة في مجال الاقتصاد الصناعي (وهو عنوان أحد كتبه المنهجية، صدر في عمان عن دار وائل للنشر والتوزيع، ط2، 2005)، ومنها بحثه المعنون “السياسة الصناعية والتنمية في البلدان النامية (بين المؤيدين والمعارضين)” المنشورة في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين.
    وهو الآن يشخّص قتلة الصناعة العراقية وهم: الحكومة والسياسيون والمواطنون، وهو تشخيص قابل للنقاش لأنه يحمل المواطنين بمسؤولية القتل على قدم وساق مع الحكومة والسياسيون، وأغلبية المواطنين هم من المغلوبين على أمرهم. وحيث أن هدفي من هذا التعليق هو ما ورد في مقالته حول التأمين، سأكتفي بالقول بأن عبء المسؤولية يقع على عاتق الحكومة والسياسيين، بمن فيهم “ممثلي الشعب” في المنطقة الخضراء وبالأحرى ممثلي الأحزاب الدينية المذهبية والإثنية (التشكيلة المحاصصية) باستثناء عدد صغير جداً منهم. أقول هذا لأن رسم السياسة الصناعية (بافتراض وجود مثل هذه السياسة) هو من مسؤولية صانعي القرار في الحكومة والبرلمان.
    من بين الإجراءات التي يقترحها، لاتخاذ موقف إيجابي من الصناعة الوطنية:
    “العمل على جعل السياسات الاقتصادية المختلفة تتناغم مع السياسة الصناعية ولا تتقاطع معها وهذه تشمل السياسة التجارية وسياسة الحماية والدعم للمنتجات المحلية، والسياسة النقدية والمالية وسياسات التامين والنقل وبقية الخدمات.”
    أعتقد بأن ما يقترحه هو رغبة طموحة خارج الإمكانيات المتاحة في الوقت الحاضر. وحسب المعلومات المتوفرة لنا (ونرجو من القراء المهتمين تنبيهنا إلى خطأ هذه المعلومات)، ليس هناك حتى الحد الأدنى من التنسيق بين قطاع التأمين، ممثلاً بجمعية التأمين العراقية وشركات التأمين العامة وهي الأكبر في السوق، وأياً من الأطراف الأخرى. ليس هذا فحسب بل أن قطاع التأمين ذاته لا يمتلك سياسة تجاه ما صار يعرف بإعادة التأهيل، والتطوير، والتنمية المتعلقة بالقطاع. وأضيف: ليس للقطاع موقف تجاه إعادة النظر ببعض قوانين التأمين (أنظر بهذا الشأن مقالة محمد فؤاد شمقار ومنذر عباس الأسود “ملاحظات حول قانون تعديل قانون التامين الالزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980” المنشور في مرصد التأمين العراقي:
    https://iraqinsurance.wordpress.com/2015/05/18/notes-on-bill-to-amend-the-1980-compulsory-motor-insurance-law/
    وبعد الاحتلال الأمريكي عندما كانت الإدارة المدنية الأمريكية تعمل على فرض قانون لتنظيم أعمال التأمين، يتجاوز في ليبراليته ما هو موجود في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، كان الخوف هو سيد الموقف لدى أركان التأمين العراقي وخاصة لدى ممثلي شركات التأمين العامة في تعاملهم مع ممثلي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. (يمكن متابعة التفاصيل في كتاب مصباح كمال، قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005: تقييم ودراسات نقدية، بغداد: منشورات شركة التأمين الوطنية، 2014، وهو متوفر في موقع الشبكة).
    لا يرصد القطاع ما ينشر عنه في الصحافة العراقية إلا نادراً، ونضطر أحياناً بتذكير ذوي الشأن بما يُنشر لاتخاذ الإجراء المناسب. كما أن القطاع لا يتابع ما يصرح به الوزراء وغيرهم بشأن التأمين.
    لم نقرأ ما يفيد أن ممثلي قطاع التأمين قاموا بتنسيق من نوع ما مع غرفة تجارة بغداد مثلاً. ولم نقرأ بأن القطاع قد قدم برنامجاً تأمينياً متكاملاً لحماية مصانع ومنشآت وزارة الصناعة أو غيرها من الوزارات. ربما لم يخطر فكرة التنسيق أصلاً في بال الطرفين.
    لم يصدر القطاع، حسب علمنا، ورقة موقف تجاه موازنة الحكومة في الماضي أو في الوقت الحاضر. ونعرف ما لبنود الموازنة، في الجانب التشغيلي والاستثماري، من تأثير على الطلب على الحماية التأمينية، وبالتالي الاقتراب من الوزارات والجهات الرسمية وغيرها للتعاون معها لتحديد الحاجات التأمينية ورسم الحلول الحمائية لها.
    لم يقم القطاع بتعبئة الرأي تجاه وقف الهدر المتمثل بتسرب أقساط التأمين إلى خارج العراق بسبب الفجوات الموجودة في قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005، وبسبب فقر الرقابة على النشاط التأميني المفترض أن يقوم به ديوان التأمين العراقي.
    كما أن القطاع لم يستطع إحياء عقود الدولة لتكون على أساس (سي أند إف C&F بدلاً من سي آي إف CIF)، أو تضغط على وزارات الدولة المتعاقدة مع المقاولين الأجانب، وكذلك الهيئة الوطنية للاستثمار، لتكييف شروط التأمين فيها كي يتم التأمين (حسب متطلبات المشروع) مع شركة تأمين عراقية مرخصة من قبل ديوان التأمين العراقي.
    إذا كان هذا حال البيت التأميني العراقي (على المستوى الاتحادي ومستوى إقليم كردستان كذلك) فأين له المكنة والموارد المهنية للقيام بالتنسيق الذي يدعو إليه د. مدحت القريشي.
    ولكي نكون منصفين فإن القصور موجود أيضاً لدى الأطراف الأخرى: وزارة الصناعة، البرلمان ولجانها التي لا تستأنس برأي أصحاب الاختصاص. وعلى سبيل المثل، يتأسى المرء عندما يقرأ مداخلات بعض أعضاء البرلمان، غير القائمة على معرفة، حول مشروع قانون تعديل قانون التأمين الالزامي من حوادث السيارات رقم (52) لسنة 1980 والمقدم من اللجان المالية والامن والدفاع والنفط والطاقة والثروات الطبيعية. (أنظر نشرة الدائرة الاعلامية لمجلس النواب العراقي، 4 تموز 2015). الأطراف الأخرى تتجاهل التأمين.
    باختصار، عندما يكون التخطيط غائباً (صار المفهوم مرفوضاً لدى دعاة اللبرالية الجديدة الفجة في العراق) يغيب معه التنسيق. لِمَ التنسيق أصلاً إذا كان السوق هو المنظم السحري الأعظم للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية؟
    أنا اتفق مع أطروحة صديقي وزميلي القريشي، وهي قابلة للتطبيق عندما تتوفر الإرادة الوطنية المجردة من المصالح الضيقة، لكنها في ظل الأوضاع السائدة تظل طموحاً رغائبياً.
    مصباح كمال
    16 تموز 2015

اترك رداً على مصباح كمال إلغاء الرد

%d مدونون معجبون بهذه: