على الرغم من أهميتها الواضحة نوعاً ما في التنمية الاقتصادية الحديثة، فإن تاريخ التأمين ضد الحريق وعلى الممتلكات قد أهمل إلى حد كبير. وكان هذا هو ما عليه الوضع حتى الآن. لقد جاءت دراسة روبن بيرسون، القائمة على البحث المستفيض والمحاجة الدقيقة، التأمين على الثورة الصناعية: التأمين ضد الحريق في بريطانيا العظمى، 1700-1850، لتقدم تاريخاً كاملاً لصناعة التأمين ضد الحريق في بريطانيا خلال منتصف القرن التاسع عشر. بل أكثر من ذلك، ومن منظور نقدي، يبرهن بيرسون كيف كان التأمين على الممتلكات جزءاً لا يتجزأ من الثورة الصناعية، على الرغم من أن بيرسون يحرص على أن نلاحظ أن التأمين ضد الحريق لم يحدد التنمية الاقتصادية (وفي الواقع، وفي كثير من الأحيان فإنها [التنمية الاقتصادية] هي التي كيَّفت التأمين). ويبيّن كيف تطور التأمين ضد الحريق لدعم الاقتصاد الأوسع، وكيف أنه، في كثير من الأحيان، كان في طليعة التوسع في الأعمال الصناعية، وعزز النمو الاقتصادي إلى حد أبعد.
تبين الحجة التي تقدم بها بيرسون، في أوسع مستوى لها، كيف كان التأمين ضد الحريق جزءاً لا يتجزأ من مجتمع يشق طريقه نحو التصنيع. فمع توفره على نطاق واسع في لندن في خمسينيات القرن التاسع عشر وسهولة الحصول عليه في المحافظات خارج لندن، فإن التأمين ضد الحريق قد قلّص من عدم اليقين المرتبط بخطر الحريق – على الأقل من الناحية الاقتصادية للشركات وأفراد الطبقة الوسطى الذين كان بإمكانهم شراء وثائق [بوالص] التأمين بأسعار معقولة جداً. إن توفر أشكال رخيصة ومستقرة نسبياً من التأمين عرَضت الأمن لمالكي العقارات – السكنية، والتجارية أو الصناعية. ومن خلال تعويض حملة وثائق التأمين عن الخسائر الكبيرة في الممتلكات المرتبطة بحوادث الحريق، فإن التأمين وفَّرَ حافزاً مؤسسياً لتراكم الثروة بشكل مواد عينية واستثمارات. وباختصار، فإن التأمين قلّل من المخاطر المرتبطة بالتنمية الاقتصادية المندفعة. وفي الوقت نفسه، كان التأمين ضد الحريق بالغ الأهمية لتمويل البنية التحتية، وبالتالي كان دوره حاسماً في التنمية الصناعية. فقد قدَّمت الشركات رأس المال لمجموعة متنوعة من مشاريع التحسين العامة فضلاً عن المشاريع الاقتصادية الخاصة. كما أن شركات التأمين ضد الحريق اعتمدت على وعززت الشبكات المؤسسية التي اعتمدت عليها التنمية الاقتصادية. وهكذا، فقد أصبح التأمين ضد الحريق جزءاً لا يتجزأ من النشاط الصناعي، “مكوناً بذلك جزءاً من آلية التغذية المرتدة feedback التي من خلالها تضاعفت الثقة داخل المجتمعات التجارية” (368).
يتميز البحث الذي قام به بيرسون بشموليته، كما أن حججه مصاغة بعناية استثنائية إلى حدٍ كبيرٍ جداً بحيث يصعب استعراضها كاملة في مراجعة موجزة.
يبدأ كتاب تأمين الثورة الصناعية بفصل أولي يحدد التطور العام للصناعة [صناعة التأمين] في سلسلة من الجداول التفصيلية المصنفة بشكل جيد. بعد ذلك، يتوزع السرد على قسمين. يقدم القسم الأول صورة مرتبة زمنياً للصناعة. ويقسّم بيرسون سرده أساساً إلى ثلاثة فترات لأغراض التحليل، ضمن حدود التطورات السياسية والاقتصادية الكبيرة، فضلاً عن الاتجاهات المتغيرة في صناعة التأمين نفسها: الفترة 1720-1782، الفترة 1782-1815، وأخيراً السنوات ما بين 1815 و1850. يُموضع بيرسون الصناعة في هذه الفصول في صلب التدوين التاريخي للثورة الصناعية البريطانية. وطوال ذلك، يتبنى نهجاً يستكشف مجمل أوضاع السوق في مجال التأمين. وهو يستكشف تقلبات شركات التأمين ضد الحريق في البلدات وكذلك في المدن الكبرى. ويجمع بدقة ويحلل كماً كبيراً من البيانات، يؤلف منها أكثر من خمسين شكلاً وجدولاً – جهدٌ مثيرٌ للإعجاب و(دون شك) مساهمة قائمة بحد ذاتها استغرق انجازها وقتاً طويلاً.
ويتناول القسم الثاني من التأمين على الثورة الصناعية التنظيم الداخلي للصناعة [صناعة التأمين] بشرح العناصر المركزية حسب المواضيع. ويبحث في أربعة مجالات موضوعية عريضة: عملية تأسيس الشركة والشبكات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية وراء هذه العملية؛ تسويق التأمين وتطوير شبكات الوكلاء لإدارة عمليات التأمين؛ الممارسة الأساسية للاكتتاب وما أصابها من تغير مع مرور الوقت، بما في ذلك تحديات تقييم الأخطار؛ والاتجاهات في كيفية استثمار الشركات لرؤوس أموالها وفهمها لمكانة رأس المال ضمن المحفظة الأوسع نطاقاً للخطر، فضلاً عن الكيفية التي عملت فيها صناعة التأمين في الاستثمار من وجهة نظر المستثمرين الأفراد.
رغم أن الكتاب مكتوب بشكل جيد، فإنه من السهل أن تضيع في تفاصيل هذه القصة. يقدم بيرسون بمحبة وباجتهاد قائمة شاملة من أوجه التشابه والاختلاف في هذه الصناعة، مع إيلاء اهتمام خاص للاختلافات الجغرافية بين الأقاليم المختلفة في بريطانيا، وبين المحافظات والمراكز الحضرية الكبرى. هذا المستوى من الدقة مصدر إحباط في بعض الأحيان من وجهة نظر القارئ، لكنه رغم ذلك فإنه يخدم الهدف الأكبر من الكتاب، وهو أن ندرك الطريقة الخفية – والمتناقضة في بعض الأحيان – التي تطورت فيها الصناعة [صناعة التأمين]. وليس هذا نقداً على وجه التحديد لمهارة بيرسون ككاتب. على العكس من ذلك، فإن بيرسون يُظهر براعة متميزة في التأليف في التعامل مع مثل هذه القصة المعقدة. على سبيل المثل، فإن كلاً من القسم الأول والثاني من السرد يغطي نفس المادة، ولكن هناك القليل من الحس بالتكرار هنا. وفي الواقع، فإن دراسة بيرسون للعناصر المختلفة لصناعة التأمين قد تمت صياغتها بشكل جيد للغاية. إن هذه الفصول هي بمثابة كتاب تمهيدي حول أساسيات التأمين، يطرح فيها المؤلف مواضيع لم تختفي في 1850 بل ظلت مستمرة لتؤرق شركات التأمين في القرن العشرين.
إن تأمين الثورة الصناعية سيصبح مِحكاً للبحوث المستقبلية في تاريخ التأمين ضد الحريق والممتلكات وذلك جزئياً بفضل الروابط التي صنعها بيرسون بين التصنيع والتأمين ضد الحريق. لكن الأهم من ذلك، هو أن هذا الكتاب يضع أيضاً جدول أعمال للبحوث المستقبلية في صناعة التأمين. ويقدم بيرسون حجة مقنعة لماذا ينبغي لنا أن نسعى إلى فهمٍ أفضلَ للروابط بين التنمية الاقتصادية والتأمين على الممتلكات. وهو يقترح أيضاً، أنه يجب علينا أن ننظر إلى هذا الموضوع على الصعيد العالمي، وتطوير دراسات الحالات الغنية التي تبحث في تاريخ التأمين في أوروبا والولايات المتحدة، وغيرها من الأماكن. ومن خلال المثال على ما قام به في دراسة صناعة التأمين ضد الحريق البريطانية، فإنه يبين فوائد إدخال دراسة الحالات من هذا القبيل في صلب التاريخ المقارن للتأمين على الممتلكات. فمن خلال هذا المقترب سنحصل ليس فقط على فكرة أفضل عن تفاصيل هذه الصناعة، ولكننا سوف نكون أيضاً قادرين على فهم أفضل كيف أن توسيع الروابط الاقتصادية العالمية قد عززت استقرار قطاع التأمين من خلال خلق سوق لإعادة التأمين وتشتيت عبء الخطر على نطاق واسع. وأخيراً، يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار أن تاريخ صناعة التأمين ضد الحريق لا ينتهي في 1850 مع ظهور أدوات أكثر تطوراً لفهم الخطر. وبالأحرى، فإن استمرار تطور هذه الصناعة يتحقق بفضل العلاقة المباشرة مع التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الواسعة، وليس أقلها هو أن خطر الحريق في حد ذاته سوف يستمر في التحول في المجتمعات المتوجهة نحو التحديث.
في الواقع، يبين التأمين على الثورة الصناعية كيف تساهم دراسة التأمين ضد الحريق في المناقشات الأوسع نطاقاً في التاريخ الاقتصادي، كما أنه يشير أيضاً ضمنياً إلى وضع دراسة التأمين ضد الحريق ضمن رؤية تاريخية أوسع. ومما يؤسف له أن بيرسون حَذِرٌ جداً بشأن مثل هذه الإمكانيات، بحجة أن “إنشاء صلة إثبات بين التوسع في التأمين والتغيرات الواسعة في المواقف في المجتمع أمر صعب للغاية” (368). وعلى أي حال، أعتقد أنه ينبغي لنا مع ذلك التمدد والتوسع في إطار البحث. يجب علينا تحديد الطرق التي ارتبطت بتوسع تأمين الحريق (والممتلكات) بالتغيرات في النواحي الاجتماعية والثقافية، والسياسية. أعترف بأن إثبات مثل هذه الروابط أمر صعب، ولكن، كما اقترحت في دراساتي بشأن خطر الحريق في المناطق الحضرية، فإن عمل شركات التأمين تركت آثاراً هائلة لصالح المجتمع. وتتضمن هذه تشجيع النزعة الاستهلاكية وحركة المستهلكين من أجل تحقيق السلامة؛ ارتباط أنشطة مكتتبي التأمين على الحريق بشكل واضح مع التحول في تصورات الخطر المجتمعي؛ و، على أقل تقدير، أن رؤى شركات التأمين للعالم قد دخلت في الوجود المادي للحياة العادية.
إن كتاب تأمين الثورة الصناعية هو إنجاز فريد. لقد بيّن روبن بيرسون أن التأمين ضد الحريق لعب دوراً مهماً، ولو أنه دور ينطوي على ازدواجية أحياناً، في الثورة الصناعية. كما أنه يوفر أيضاً خارطة طريق سيتبعها الباحثون في المستقبل في هذا المجال عندما يقومون بصياغة دراساتهم لتاريخ التأمين ضد الحريق. آمل أن تحظى هذه الدراسة الرائعة بما تستحقها من اهتمام جمهور واسع.
Mark Tebeau is author of Eating Smoke: Fire in Urban America, 1800-1950 (Johns Hopkins University Press: 2003).
(*) ألدرشوت، المملكة المتحدة: آشگيت، 2004. عدد الصفحات 13+434. السعر 100 دولار (تجليد فني)، ردمك: 0-7546-3363-2.
(**)نشر الأصل الإنجليزي في موقع شبكة التاريخ الاقتصادي (فبراير 2006)
Robin Pearson, Insuring the Industrial Revolution: Fire Insurance in Great Britain, 1700-1850. Aldershot, UK: Ashgate, 2004. xiii + 434 pp. $100 (hardcover), ISBN: 0-7546-3363-2.
Reviewed by Mark Tebeau, Department of History, Cleveland State University.
Published by EH.NET (February 2006). (C) 2006 by EH.NET
http://eh.net/book_reviews/insuring-the-industrial-revolution-fire-insurance-in-great-britain-1700-1850/
باحث وكاتب عراقي متخصص في قطاع التامين مقيم في المهجر
أشكر الأستاذ فاروق يونس على قراءته الدقيقة لترجمتي. لقد سررت بتنبيهي على أهمية الاتساق في ترجمة العنوان واستعماله في المتن.
فيما يلي اقدم بعض الملاحظات السريعة على تعليق الأستاذ فاروق.
تظل الإشكالية قائمة فيما يخص العلاقة/التفاعل بين التنمية الاقتصادية ومؤسسة التأمين وتحتاج إلى دراسة ملموسة لكل حالة. في حالة العراق فإن ازدياد حجم موازنة الدولة، مصدر الإنفاق الأساسي التشغيلي والاستثماري، لم يترجم نفسه إلى زيادة في الطلب على التأمين، فحجم أقساط التأمين المكتتبة، حتى لو أخذنا بنظر الاعتبار،مثلاً، تسرب هذه الأقساط إلى الخارج بسبب الثغرات في قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005، لا يشكل إلا نسبة صغيرة (بضعة ملايين من الدولارات) مقارنة بحجم الموازنة (عشرات المليارات). وعلى أي حال، فإن الموضوع يحتاج إلى من يقوم بدراسته في ضوء الإحصائيات.
فيما يخص التساؤل عن وجود تأمين يتناسب مع حجم الاخطار في الاقتصاد العراقي، أود التأكيد بأنه موجود وتكتتب به شركات التأمين العامة والخاصة، ولا يشكل حجم الأخطار مشكلة فنية للشركات لأنها تمتلك الوسائل المناسبة لتسعير الأخطار ووضع شروط التأمين اعتماداً على مواردها الداخلية وإن تطلب الأمر (درجة تعقيد محل التأمين وجسامة مبلغ التأمين، على سبيل المثل)، فإنها تلجأ إلى التعاون مع أسواق التأمين العالمية إما بالاتصال المباشر أو من خلال وسطاء محترفين لإعادة التأمين – في سوق لندن في معظم الحالات.
لست ملماً بدور هيئات الدفاع المدني ومحطات إطفاء الحرائق لكن المعروف عنها أنها، في معظم الحالات، تستجيب بسرعة لطلبات الإسعاف في إطفاء الحرائق. أما عدم الالتزام بتعليمات الدفاع المدني فهو جزء من عدم الانضباط في الحياة العامة كما يلاحظ في حركة السير أو التدافع أمام الشبابيك في المؤسسات العامة (غياب نظام الطابور)، والاستهانة باالأخطار التي يتعرض لها الناس والممتلكات. وهذا، باختصار، معناه غياب ثقافة لإدارة الأخطار التي يشكل التأمين جزءاً منها (وهو ما يعرف بتحويل عبء الخطر إلى شركة تأمين بعد استنفاد عمليات تشخيص مصادر الخطر، وقياس آثاره وطرق السيطرة عليه بوسائل هندسية وغيرها).
الملاحظة الاولى
فى عنوان الكتاب – التامين على الثورة الصناعية وتكرر ذلك مرتين فى تقديم الكتاب
وفى تقديم الكتاب جاءت ترجمة العنوان ثلاث مرات ( تامين الثورة الصناعية )
افضل ان تكون الترجمة : تامين الثورة الصناعية : التامين ضد الحريق
الملاحظة الثانية – العلاقة بين الثورة الصناعية والتامين ضد الحريق
جاء فى تقديم
Home Page – Ashgate
——————-
It was not until the start of the eighteenth century that a sophisticated system of insurance became widely avaliable —-
It was not until the effects of sustained industrialization began to alter the economic and social balance of nation that the fire insurance really took off as a concpt
وباختصار فان الثورة النصناعية تناغمت مع نظام التامين المتطور بعامة والتامين ضد الحريق بخاصة
فى العراق الحرائق وما اكثرها فى الاسواق والدوائر الحكومية والممتلكات العامة والخاصة مع عدم توفر شروط ومعايير السلامة فى الابنية العامة والمساكن الخاصة والخسائر مستمرة ولا ادرى ان كان هناك تامين يتناسب مع حجم الاخطار فى الاقتصاد العراقى -لدينا دوائر للدفاع المدنى ولكن دورها محدود والقليل القليل ممن يلتزمون بتعليماتها