ترجمة: مصباح كمال **
أصدر رئيس البنك الاحتياطي الاتحادي Federal Reserve السابق بِنْ بِرنانكي، الذي تربّع على رأس الانهيار المالي العالمي والركود العظيم Great Recession الذي أعقب ذلك، كتاباً جديداً، بعد أن عاد إلى الوسط الأكاديمي. يركّز الكتاب، الذي يحمل عنواناً (الشجاعة على الإقدام: مذكرات أزمة وما بعدها) The Courage to Act: A Memoir of a Crisis and its Aftermath فيه غطرسة دفاعية خاصة على أحداث الأزمة المالية، ولكنه يشمل أيضاً الحكايات الشخصية التي ترجع إلى قبل وقت برنانكي في الاحتياطي الفيدرالي، وحكايات يرجع تاريخها إلى طفولته في بلدة صغيرة في ولاية كارولينا الجنوبية.
يدافع برنانكي في الكتاب عن سياسات البنك الاحتياطي الفيدرالي تحت قيادته في أعقاب الأزمة المالية. ولا سيما قرار إنقاذ معظم البنوك الاستثمارية الرائدة من خلال تقديم الاعتمادات الضخمة وأموال دافعي الضرائب لها. يقول إنه “كانت هناك فرصة جيدة معقولة أن ينتهي بنا الوضع إلى كساد على غرار كساد الثلاثينيات باستثناء استقرار النظام المالي.” ومن المثير للاهتمام، ادعاؤه أنه كان يود أن ينقذ بنك الاستثمار ليمان براذرز Lehman Brothers، في أيلول/سبتمبر 2008 أيضاً ولكنه اضطر للسماح لفشل البنك بسبب “كوننا قد استنفدنا الرصاصات في تلك المرحلة.” لنفاد الأموال؟
ولكن ما سبب هذا الانهيار المالي في المقام الأول؟ هو يزعم الآن أن السبب يكمن في الجشع وحتى في الأفعال الإجرامية من قبل أولئك الذين يديرون البنوك الاستثمارية ومؤسسات إقراض الرهن العقاري. فقد قال لمجلة يو اس ايه توداي USA Today إن أكثر المصرفيين والمديرين التنفيذيين للشركات الذين ساهموا في إحداث الأزمة المالية ينبغي أن يكونوا في السجن. وقال بإن وزارة العدل ركّزت كثيراً، في أعقاب الانهيار meltdown، على فرض عقوبات على المؤسسات المالية والحصول على غرامات كبيرة. وقال انه لم يكن هناك جهداً كافياً لمعاقبة الأفراد. “كنت أفضل أن يكون هناك المزيد من التحقيق في الأفعال الفردية، لأنه من الواضح أن كل ما حدث من خطأ أو كان غير قانونياً قام به بعض الأفراد، وليس من قبل شركة مجردة ….abstract firm وقال “إن ما كنت أتحدث عنه هو أننا كنا نعرف ذلك … العديد من البنوك الكبرى [الاقتباس غير كامل في الأصل]، فرضت وزارة العدل المليارات والمليارات من الدولارات ضد الشركات عقاباً على أنواع مختلفة من السلوك السيئ”. “إذا كان هناك عناصر سيئة، عليك أن تنال منهم كل على حدة.” ومع ذلك، فإن برنانكي لم يتحدث في ذلك الوقت لأن البنك الاحتياطي الفيدرالي لم يكن يملك القدرة على سجن أي شخص. ولذلك فإن الفشل في اتخاذ الإجراء ضد الأفعال الإجرامية تقع على عاتق وزارة العدل.
لكنه يدافع عن خطة الإنقاذ bailout. رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق يقول: “إننا كنا سننتهي إلى كساد على غرار كساد الثلاثينيات.” هذا القول مخادع على أقل تقدير. ما الذي كان يقوم به بنك الاحتياطي الفيدرالي في حين أن أولئك المشاركين في حفلة الطفرة في الائتمان المصرفي الاستثماري كانوا يرقصون جنباً إلى جنب من أي وقت مضى مع تصاعد الرهون العقاري الثانوية sub-prime mortgages والمشتقات derivatives – الأسلحة المالية للدمار الشامل، كما سماها وارن بوفيت Warren Buffet ؟ لا شيء.
على الرغم من أنه خبير أكاديمي بطبيعة وأسباب الكساد العظيم في الثلاثينيات، فإن برنانكي (مثل كل الاقتصاديين التقليديين mainstream تقريباً) فشل في رؤية الانهيار المالي القادم. ففي بيانه إلى الكونغرس في أيار/مايو 2007، عندما كان انهيار الرهن العقاري الثانوي كان قد بدأ لتوه، قال برنانكي “في هذه المرحلة يبدو من المرجح أن يتم احتواء تأثير مشاكل أسواق الرهون العقارية على الاقتصاد عموماً وعلى الأسواق المالية. والأهم من ذلك، هو أننا لا نرى انتشاراً أوسع وخطيراً على البنوك أو مؤسسات الادخار thrift institutions بسبب المشاكل في السوق الثانوي subprime market.” وذهب إلى تقدير أن الخسائر المحتملة للقطاع المالي من أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة سيكون “بين 50 مليار دولار و100 مليار دولار. وقد اتضح أن هذه الخسائر هي 1,5 ترليون دولار في الولايات المتحدة إضافة إلى 1,5 ترليون دولار عالمياً.
بعد ان انتهى الانهيار في أيلول/سبتمبر 2010، أبدى برنانكي رأيه في أسباب الانهيار المالي في عام 2008 والركود العظيم اللاحق في شهادته أمام هيئة التحقيق المالي في الولايات المتحدة. وخلص إلى أن [السبب] كان الاعتماد المفرط على التمويل قصير الأجل من المؤسسات الرئيسية مما تسبب في عدم الاستقرار في النظام. هذه النظرية، التي يعود تاريخها إلى والتر باجيت Walter Bagehot في القرن التاسع عشر، تقول إن البنوك لا ينبغي أن تقترض الأموال على المدى القصير، وبدلاً من ذلك عليها الحصول على رأس المال على المدى الطويل. ولكن إذا اعتمدت البنوك فقط على الودائع الادخارية للعملاء أو على السندات طويلة الأجل وعلى المستثمرين في الأسهم لتمويلها، فهل أن ذلك كان سيوقف الأزمة المالية؟ أنا لا أعتقد ذلك.
ذلك لأن سبب الأزمة المالية يكمن في زيادة الصعوبة بالنسبة للشركات الرأسمالية للحفاظ على ربحيتها في الاستثمار الإنتاجي في الفترة التي سبقت وقوع الانهيار in the lead-up to. ونتيجة لذلك، فقد تحول القطاع المالي أكثر وأكثر للاستثمارات القائمة على المضاربة في العقارات والأدوات النقدية (لـ “الدمار الشامل”). ولكن بغية تمويل الطلب المتزايد للمضاربة، كان عليها اقتراض المزيد من الأموال. وهكذا ارتفعت “الرافعة المالية” ‘Leverage’ أو الديون بشكل حاد. وعندما بدأت قيمة جميع هذه الأصول غير المنتجة (الرهون العقارية، والمشتقات الائتمانية وما إلى ذلك) في الانخفاض، نجمت بعدها الأزمة المالية. ولم يكن للأزمة علاقة أبداً بالـ “التمويل قصير الأجل.” وبان تأثير ذلك [التمويل قصير الأجل] فقط عندما هرعت البنوك للحصول على المزيد من الأموال لخدمة ديونها، واكتشفت بأنها لن تقرض بعضها البعض. وكما أوضح ماركس منذ زمن بعيد، عندما تكون هناك أزمة، فجأة تتحول تخمة الأموال إلى مجاعة وعندها ينشأ اندفاع يائس إلى التمسك بها.
يعود برنانكي مرة أخرى في كانون الثاني/ يناير عام 2014 إلى الموضوع، عندما أنهى فترة ولايته، ختمها بكلمة ألقاها في الاجتماع السنوي للجمعية الاقتصادية الأمريكية. وحسب رأيه فإن الانهيار المالي العالمي “يحمل شبهاً قرابياً قوياً لحالة الذعر المالي financial panic التقليدي، مع الفارق أنه وقع في البيئة المعقدة للنظام المالي العالمي في القرن الواحد والعشرين.” وهكذا فإن الأزمة، بالنسبة لبرنانكي، كانت أزمة مالية بحتة في الأصل. فلم يكن لها أية علاقة مع أي عيوب أو تناقضات في نمط الإنتاج الرأسمالي، ولكنها جاءت كنتيجة للاسترخاء في قروض الرهن العقاري التي أدت إلى فقاعة الإسكان التي انفجرت؛ والإكثار من معدل (الاقتراض) للمضاربة؛ واستخدام الأدوات المالية “الغريبة” ‘exotic’ التي لم تعمل على “تنويع” مخاطر الإقراض كثيراً، بدلاً من إعادة توزيعها على الصعيد العالمي. إن هذا الشرح للطبيعة الواسعة والعميقة لـ “الذعر المالي” من الواضح أنه صحيح في وصف محركات triggers الانهيار المالي العالمي ولكنه لا يفسر لماذا حدث ما حدث ولماذا حدث في ذلك الحين.
إن برنانكي، في وضعه الأكاديمي، قد أنشأ سمعته كمؤرخ اقتصادي رائد للكساد العظيم في الثلاثينيات. ومن رأيه، جرياً وراء مثله الأعلى، ميلتون فريدمان، أن الكساد العظيم كان نتيجة للسياسات الخاطئة التي اعتمدها البنك الاحتياطي الاتحادي. أولا، سمح الاحتياطي الفيدرالي في العشرينيات بالإقراض المفرط وإبقاء أسعار الفائدة منخفضة جداً. ثم في الثلاثينيات أخذ بتطبيق سياسة نقدية متشددة ورفع أسعار الفائدة. وكانت النتيجة فقاعة سوق الأسهم وبعد ذلك الكساد الواسع في النمو والعمالة.
هناك بعض الحقيقة في هذا التحليل. كما يشرح جي كارچيدي G Carchedi، في ورقة غير منشورة: “إن السلطات النقدية غالباً ما تتدخل عن طريق تقليص كمية النقود و/أو رفع سعر الفائدة الاتحادي. هذه السياسات التقييدية تُفاقم الوضع المالي للشركات الضعيفة اقتصادياً. إذ أنها لا تستطيع خدمة ديونها. والنتيجة هي إفلاسها، وبالتالي الأزمة التي تتبعه.”
في هذه الأزمة، فإن برنانكي، كما جاء في كلمته أمام الجمعية الاقتصادية الأمريكية، طبق “بشجاعة” سياسات نقدية لتجنب أخطاء مماثلة. خفّض البنك الاحتياطي الاتحادي سعر الاقراض إلى ما يقارب الصفر، قدم مساعدات مالية ضخمة للنظام المصرفي، وعلى وجه الخصوص لأكبر البنوك الاستثمارية التي كانت “أكبر من أن تفشل” ‘too big to fail’، ومن ثم طبق سياسات نقدية “غير تقليدية”، وهي توسيع كمية النقود (التيسير الكمي quantitative easing) عن طريق شراء سندات الحكومة، والشركات والرهن العقاري من البنوك لتحفيز الاقتصاد. لقد تضاعفت الميزانية العمومية للبنك الاحتياطي الفيدرالي ثلاث مرات من خلال الشراء لأغراض التيسير الكمي للنقود إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي.
برنانكي على قناعة بأن هذه السياسة كانت ناجحة في إنقاذ الاقتصاد الرأسمالي. ولكن هل كانت حقاً ذلك؟ أولا، انها في الواقع لم تَحُول دون تجنب انهيارٍ مالي. بالتأكيد، أن بنوكاً كگولدمان ساكس ومورگان ستانلي أو جي ݒي مورغان لم تتعرض للإفلاس. بيرس ستيرنز Bears Stearns، أي آي جي AIG، وليمان بروذرز Lehmans لم تفلت من الإفلاس (وميريل لينش كانت على وشك أن تفلس). مثلما لحق بهم معظم كبار المقرضين للرهن العقاري. وعلاوة على ذلك، فإن المئات من البنوك والمقرضين الصغار في جميع أنحاء الولايات المتحدة تعرضت للإفلاس.
ثانياً، إن السياسات النقدية الكبيرة لبرنانكي المضادة للكساد لم تنجح في استعادة النمو الاقتصادي والعمالة في الولايات المتحدة والعالم إلى مستويات ما قبل الأزمة. في خطابه أمام جمعية الاقتصاد الأمريكية، ادعى برنانكي ان “المشككين أشاروا إلى أن وتيرة الانتعاش لا تزال بطيئة بشكل مخيب للآمال، مع نمو الناتج المحلي الإجمالي المعدل لأغراض التضخم أن هذا النمو كان في المتوسط أعلى قليلاً فقط من المعدل السنوي 2 في المئة على مدى السنوات القليلة الماضية، والتضخم تحت نسبة 2 في المئة المستهدفة من قبل اللجنة على المدى الطويل. لكن، وكما سأناقش، فإن الانتعاش واجه رياحاً معاكسة قوية، مما يشير إلى أن النمو الاقتصادي ربما كان بالفعل أضعف بكثير، أو حتى سلبياً، من دون دعم كبير من السياسة النقدية.”
قد يكون هذا الدفاع المغاير صحيحاً، ولكننا نحن هنا بعد ما يقرب من عامين والاقتصاد الأمريكي ما زال ينمو أقل بكثير من مستويات ما قبل الأزمة والاقتصاد العالمي يظهر علامات متزايدة من الهبوط مرة أخرى إلى ركود جديد – أنظر أحدث تقديرات صندوق النقد الدولي
.
في الواقع، ان برنانكي يعتقد الآن أنه غير متأكد من ان اقتصاد الولايات المتحدة يمكن أن يتعامل مع ارتفاع السعر [سعر الفائدة] بربع نقطة مئوية four quarter-point على النحو الذي اقترحه بعض الاقتصاديين ومسؤولي الاحتياطي الاتحادي. ربما يظل سعر فائدة البنك الاحتياطي الفيدرالي قريباً من الصفر إلى الأبد.
طرح برنانكي المشكلة لمُنظري استراتيجيات رأس المال في مؤتمر صندوق النقد الدولي في عام 2013: “لدينا تحدياً مستمراً هو جعل وقوع الأزمات المالية أقل احتمالاً، وإذا وقعت، علينا أن نجعلها أقل تكلفة بكثير. إن ما يزيد من تعقيد المهمة هو واقع أن كل ذعر مالي له ميزات فريدة من نوعها تعتمد على سياق تاريخي معين، وعلى تفاصيل الإطار المؤسسي.” إن ما يتعين علينا القيام به هو “تجريد الأزمات الفردية من خصوصياتها بأمل الكشف عن العناصر المشتركة” لـ [حالات] “الذعر.” وعندها يمكننا “تحديد وعزل العوامل المشتركة للأزمات، مما يسمح لنا منع الأزمات عندما يكون ذلك ممكناً والاستجابة بفعالية عندما لا يكون ذلك ممكنا.”
حقاً! ولكن لا يبدو أن برنانكي نفسه قد واجه التحدي الذي وضعه بنفسه. ومع ذلك كانت هناك مثل هذه القرائن في خطاب برنانكي أمام الجمعية الاقتصادية الأمريكية. فقد قال: “مثل العديد من حالات الذعر الأخرى في القطاع المالي، بما في ذلك أحدثها، فإن الذعر عام 1907 حصل بينما كان الاقتصاد يميل نحو الضعف؛ ووفقا للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، فإن الركود قد بدأ في أيار/ مايو 1907.”
بالضبط. وكان بوسع برنانكي أن يضيف أن الركود عام 2008 سبقه أزمة الائتمان عام 2007 وقبل ذلك هبوط حاد في كتلة الأرباح المتحققة من أوائل عام 2006 وما بعده. وكانت الحكاية هي ذاتها قبل الذعر أو الانهيار لعام 1929 الذي أدى إلى الكساد العظيم. فالانخفاض في الأرباح والإنتاج بدأ قبل عام. لذلك كان هناك أزمة في الإنتاج وراء “الزناد” المالي للمضاربة المفرطة “في النحاس (1907)؛ والأسهم (1929)؛ والعقارات (2008). لقد كانت المضاربة “مفرطة” وفي نهاية المطاف “خطرة” لأن القيمة المتولدة لتحقيق مكاسب من مثل هذه الاستثمارات لم تتحقق.
هذا هو تفسير أكثر تماسكاً بكثير عن تكرر الأزمات، وهو أن ميل الربحية في الإنتاج الرأسمالي نحو الانخفاض يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط تام في الأرباح. ثم تتحول الطفرة القائمة على الائتمان إلى حالة من ذعر المضاربة أو الانهيار.
أن برنانكي يريد منا أن نعتقد أنه أنقذ العالم بشجاعة من خلال تبني سياسات نقدية غير تقليدية تعلمها من دروس الكساد العظيم ورغم أنف المعارضة التقليدية. لكنه لم ينقذ العالم، بل فقط البنوك (الكبيرة منها) وسياسته النقدية غير التقليدية لم ينعش الاقتصاد الأمريكي، ناهيك عن إنعاش الاقتصاد العالمي، ودعمَ فقط سوقاً جديداً للأسهم والسندات يقوده الائتمان وازدهارٌ للـ 1%. إن “الشجاعة” في أزمة لن ينقذ العالم في ظل الارتباك.
(*) المصدر:
Michael Roberts, “Ben Bernanke: courage and confusion,” in Michael Roberts Blog
Ben Bernanke: courage and confusion
(**) باحث وكاتب عراقي
حقوق النشر للترجمة العربية محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. شبكة الاقتصاديين العراقيين. 20/12/2015
Download PDF
باحث وكاتب عراقي متخصص في قطاع التامين مقيم في المهجر
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية