ترجمة: مصباح كمال
أصدر الصحافي اليساري والمذيع، بول ماسون، كتاباً جديداً في نهاية هذا الشهر [تموز 2015] يحمل عنوان ما بعد الرأسمالية. لا أمتلك نسخة من الكتاب إلا أن ماسون كتب مقالة طويلة في صحيفة الغارديان البريطانية، يعرض فيها حججه الرئيسية،http://gu.com/p/4ay9c
كان ماسون في كتاباته الصحفية شجاعاً في عرض النضالات العمالية، وعرض أيضاً أحياناً تحليلاً نظرياً واستراتيجياً بشأن مسار الرأسمالية والعمال. وأعتقدُ بأن هذا الكتاب هو محاولة لتلخيص وجهات نظره. وبما أن ماسون يتمتع ببعض النفوذ بين النشطاء العماليين في بريطانيا ودولياً، فإنه يستحق منا النظر إلى ما يقوله.
يقول ماسون إن من المتوقع استبدال الرأسمالية ليحل محلها نظام “ما بعد الرأسمالية” (وليس “الاشتراكية”، على ما يبدو). وهذا لثلاثة أسباب. أولاً، هناك ثورة في المعلومات تعمل على خلق مجتمع الوفرة في المعلومات، مما يؤدي إلى اقتصاد بدون تكلفة تقريباً واقتصاداً يوفر في استخدام العمالة. ثانياً، إن ثورة المعلومات هذه لا يمكن الاستيلاء عليها بواسطة السوق الرأسمالي والاحتكارات الكبرى. وثالثاً، إن أسلوب إعادة الإنتاج “ما بعد الرأسمالي”، القائم على أساس التملك الحر والتعاون في مجال المعلومات، أخذ ينشأ من داخل الرأسمالية، تماماً كما ظهرت الرأسمالية من رحم الإقطاع. هل أن ما يقوله ماسون صحيحاً؟ وهل يُعقل ما يقوله؟
حسناً، لدي الكثير من القضايا مما اختلف فيه مع ما يقوله ماسون ويستنتجه. يبدأ مقالته بشرح متشائم عن طريق الإيحاء بأن الليبرالية الجديدة قد انتصرت إلى هذا الحد أو ذاك في أهدافها من أجل الرأسمالية تاركة أساليب “العمال القديمة” والأفكار في حالة من الفوضى: “على مدى السنوات الـ 25 الماضية فإن الذي انهار هو مشروع اليسار. فقد دمرت السوق الخطة؛ وحلت الفردية محل الجماعية والتضامن؛ والقوى العاملة التي توسعت بشكل كبير في العالم صارت تشبه “البروليتاريا”، ولكنها لم تعد تفكر أو تتصرف كما فعلت مرة ما.”
السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل أن ماسون يعتقد أنه لا يزال هناك “بروليتاريا” أم لا؟ لأنه على حق: فالطبقة العاملة، وحتى الطبقة العاملة الصناعية، أبعد ما تكون سائرة نحو التقلص أو الاختفاء، فهي في حالة نمو على الصعيد العالمي. انظر مقالتي في المدونة،
De-industrialisation and socialism
ربما تتوسع البروليتاريا على الصعيد العالمي، ولكن وفقا لماسون، فإنها “لم تعد تفكر أو تتصرف كما فعلت مرةً ما.” ماذا يعني ماسون؟ هل أن الطبقة العاملة لم تعد قوة للتغيير كما رأى ماركس وإنجلز في الماضي عام 1848، وكما نظر إليها أجيال من الاشتراكيين منذ ذلك الوقت؟ صحيح أن الإضرابات والنزاعات قد تراجعت في دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ولكن دعونا موازنة ذلك مع الارتفاع الكبير في عدد الإضرابات والأفعال الأخرى في الاقتصادات الناشئة مثل الصين وآسيا وأمريكا اللاتينية، التي تضم البروليتاريا الصناعية بشكل متزايد الآن. هل أن الطبقة العاملة عاجزة كقوة من أجل التغيير الثوري؟
دعونا نترك هذه المناقشة للحظة، لأن ماسون يقدم ما يعتبره بديلاً متفائلاً للصراع الطبقي. ربما هُزمت القوى العمالية ولكن هناك ضمن الرأسمالية اتجاهات تقدمية جديدة، لا تستطيع الرأسمالية قمعها أو السيطرة عليها، والتي يمكن أن تحقق مجتمعاً أفضل وأكثر حرية، ومجتمعاً أكثر مساواة دون الحاجة إلى الصراع الطبقي، على الأقل كما عرفناه [الصراع الطبقي] حتى الآن. “إن الرأسمالية، كما يتبين، لن يتم إلغاؤها بواسطة تقنيات المسيرات القسرية. سيتم إلغاؤها عن طريق خلق شيء أكثر ديناميكية موجود داخل النظام القديم، في البداية، يكون غير مرئياً تقريباً، ولكنه سوف يخرج منه، ويعيد تشكيل الاقتصاد حول قيم وسلوكيات جديدة. وأنا أسميه نظام ما بعد الرأسمالية.”
هذه ليست على ما يبدو الاشتراكية أو الشيوعية التي كانت الأساليب القديمة للصراع الطبقي والثورة التي تهدف لتحقيقها، لأن ماسون يريد استخدام كلمة “ما بعد الرأسمالية” تمييزاً واضحاً لها من تلك المصطلحات القديمة في تسمية مجتمع جديد.
فما هو نظام ما بعد الرأسمالية هذا “غير المرئي” الذي يراه ماسون (فقط)؛ ما هي سماته المميزة؟ “أولاً، لقد خفَّض الحاجة إلى العمل، وجعل حدود الفصل بين العمل ووقت الفراغ باهتاً وخفَّف العلاقة بين العمل والأجور. إن الموجة المقبلة من الأتمتة، والمتوقفة حالياً لأن البنية التحتية الاجتماعية لدينا لا يمكن أن تتحمل العواقب [التشديد من عندي]، سوف يقلل بشكل كبير من كمية العمل المطلوب – وليس فقط للعيش ولكن لتوفير حياة كريمة للجميع.”
آه! وبالتالي فإن ثورة المعلومات تعني أن عملاً أقل سيكون ضرورياً من أجل توفير “حياة كريمة”، عالمٌ بلا كد. ولكن هل ان هذا صحيح نظراً إلى أن العالم لا يزال في قبضة أسلوب إنتاج رأسمالي، وليس ما بعد رأسمالي؟ ويبدو لي أن الناس ينفقون المزيد من الوقت في المنزل أو السفر للعمل لصالح رأس المال على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. إن حدود الفصل بين العمل ووقت الفراغ صار “غير واضح” خاصة في قطاعات إنتاج المعرفة. فالناس مجبرون على العمل (حل المشاكل) في أوقات فراغهم أكثر من أي وقت مضى. انظر ورقة ج. كارچيدي G Carchedi الرائدة حول كيفية تمظهر الموضوع [وقت العمل ووقت الفراغ] – نبيذ قديم، زجاجات جديدة والإنترنت، **
http://www.jstor.org/stable/10.13169/workorgalaboglob.8.1.0069?seq=1#page_scan_tab_contents
هل أن ثورة المعلومات ستقلل وقت العمل في ظل الرأسمالية، وبالتالي تؤدي تدريجياً إلى ما بعد الرأسمالية؟ حسناً، لكن التغيرات التكنولوجية السابقة لم تفعل ذلك. وكان لجون مينارد كينز فكرة مشابهة لفكرة ماسون في الثلاثينيات (انظر مقالتي المنشورة في مدونتي،
Keynes: being gay and caring for the future of our grandchildren
جادل كينز بالقول أنه “للمرة الأولى منذ أن خُلق يواجه الإنسان مشكلته الحقيقية، الدائمة – كيف يستخدم تحرره من الهموم الاقتصادية الضاغطة، وكيف يشغل أوقات الفراغ، وأي علم وفائدة مركبة سيكون قد حاز عليه، للعيش بحكمة وبشكل لطيف وحسن.” لقد توقع كينز الغزارة، ثلاث ساعات عمل في اليوم خلال 60 سنة – حلم ماسون لما بعد الرأسمالية.
في عام 1930 كان متوسط ساعات العمل الأسبوعية في الولايات المتحدة – هذا إن كان لديك عملاً – حوالي 50 ساعة. ولا يزال الآن أكثر من 40 ساعة (بما في ذلك العمل الإضافي) لمن يعمل بدوام كامل في وظيفة دائمة. في عام 1980، كان متوسط عدد ساعات العمل في السنة حوالي 1800 ساعة في الاقتصادات المتقدمة. حالياً، هي حوالي 1800 ساعة. لذلك، ومنذ أن بدأت ثورة المعلومات العظيمة في “الفترة الليبرالية الجديدة” للرأسمالية، لم يتغير المعدل السنوي للعمل في أمريكا.
حجة ماسون التالية للانتقال إلى ما بعد الرأسمالية هي أن “المعلومات تعمل على تآكل قدرة السوق على تشكيل الأسعار بشكل صحيح. وذلك لأن الأسواق تقوم على الندرة في حين أن المعلومات وفيرة.”
هل يُعقل ذلك حقاً؟ بادئ ذي بدء، لا يتم تحديد أسعار السوق من خلال درجة ندرة سلعة أو خدمة. وهذا هو جوهر عدم الواقعية في الفكر الاقتصاد النيوكلاسيكي الرسمي. لقد بيَّن الاقتصاديون الكلاسيكيون الكبار، سميث وريكاردو، وفي المقام الأول، ماركس، أن أسعار السلع والخدمات تتحدد أساساً بوقت العمل الضروري اجتماعياً لإنتاجها. إن التناقض الكبير للرأسمالية هو أنه، مع هبوط وقت العمل الضروري بسبب التقدم التقني، فإنه يقلل من قيمة السلع وبالتالي يضع ضغطاً على ربحية الإنتاج [تخفيض الربح]. المهم في الرأسمالية، هو الربح (فائض القيمة)، وليس المزيد من الانتاج (القيم الاستعمالية).
لا بأس ان يلاحظ ماسون أن التقدم التقني يزيد من إنتاجية العمل (على الرغم من أننا لا نرى الكثير من ذلك في هذه اللحظة – ولكن تلك حكاية أخرى). ولكن هذا هو جانب واحد فقط من المعادلة. فالجانب الآخر هو الضغط على الربحية، واشتداد الصراع الطبقي وحسم هذا التناقض (مؤقتا وبشكل دوري) من خلال فترات الركود والانكماش slumps and contraction.
يتجاهل ماسون جانبي التقدم التقني في ظل الرأسمالية. نعم، إن جانباً منه يتضمن احتمال تحقيق عالم من الوفرة العظيمة، وتخفيض وقت العمل. ولكن الجانب الآخر يتضمن عدم المساواة، والصراع الطبقي والأزمات المنتظمة والمتكررة. ويعتقد ماسون أن الأتمتة وغيرها “المتوقفة حالياً بسبب البنية التحتية الاجتماعية لدينا التي لا تتحمل العواقب.” نعم، هذه هي المسألة، إن [نظام] ما بعد الرأسمالية لا يمكن أن ينشأ من دون حل تناقضات الرأسمالية.
لكن ماسون يبقى طوباوياً في آماله إذ أن عناصر ما بعد الرأسمالية تتكاثر بسرعة “دون أن يلاحظها أحدٌ تقريباً، في محاريب وتجاويف نظام السوق niches and hollows، حيث بدأت مساحات كاملة من الحياة الاقتصادية تتحرك على إيقاع مختلف. فقد تكاثرت العملات الموازية parallel currencies، ومصارف الوقت ***time banks والتعاونيات والأنشطة المُدارة ذاتياً، وبالكاد لاحظها العاملون في مهنة الاقتصاد، وغالبا ما يكون ذلك نتيجة مباشرة لتحطيم الهياكل القديمة في أزمة ما بعد عام 2008.”
يستشهد ماسون باليونان كمثال على ذلك. “في اليونان، عندما قامت منظمة شعبية غير حكومية بمسح للجمعيات التعاونية للمواد الغذائية، والمنتجون [خارج نظام السوق]، والعملات الموازية وأنظمة الصرف المحلية، وجدت أكثر من 70 مشروعاً حقيقياً ومئات من المبادرات الصغيرة تتوزع بين ساكني المنازل غير المأهولة squats مروراً بترتيبات المشاركة بسيارة واحدة بين مجموعة من الأشخاص لأغراض التنقل carpools وانتهاءاً برياض الأطفال المجانية.” المشكلة مع هذه الأمثلة للعالم الجديد [الذي يتصوره ماسون] هي أنها أشبه ما تكون بردة فعل يائسة لأزمة الإنتاج الرأسمالي، كما هو الحال في اليونان. وسوف تظل هامشية، أو تتحول إلى عمليات تهدف إلى تحقيق ربح والمنافسة في السوق، كما حدث للعديد من الجمعيات التعاونية والجهود ذات الطابع المحلي على مدى السنوات الـ 150 الماضية.
يعترف ماسون بأن هذه “المشاريع الصغيرة” يمكن أن تنجح في تغيير عالمنا فقط إذا حظيت “بالرعاية والترويج لها وحمايتها من خلال تغيير جوهري في ما تفعله الحكومات.” وبالنظر إلى أن معظم الحكومات في العالم هي موالية للرأسمالية ومدفوعة من قبل الشركات الكبرى ورأس المال الكبير، فإن النتيجة المرجوة غير مرجحة جداً. ألا نتذكر بأن الدولة الحديثة في الحقيقة هي أداة لرعاية وتعزيز وحماية رأس المال والطبقة الحاكمة؟ “الدولة الحديثة، بغض النظر عن شكلها، هي في جوهرها آلة رأسمالية – دولة الرأسماليين، والتجسيد المثالي لرأس المال الوطني الإجمالي. وكلما سارت نحو الاستيلاء على القوى المنتجة كلما صارت، في الواقع، الرأسمالي الوطني، وكلما زاد عدد المواطنين الذين تستغلهم.” إنجلز، الاشتراكية: الطوباوية والعلمية.
بعد ذلك يثير ماسون ما دعا إليه الكثير من الطوباويين قبله: إذا تمكنّا فقط تغيير الطريقة التي نفكر بها، عندها يمكننا تغيير هيكل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. “وهذا يجب أن يكون مدفوعاً بتغيير في تفكيرنا [التشديد من عندي] – حول التكنولوجيا والملكية والعمل. وذلك لأنه عندما نخلق عناصر النظام الجديد، يمكننا أن نقول لأنفسنا، وللآخرين: “هذا لم يعد مجرد آلية بقائي على قيد الحياة، المكان الذي يمكن أن أختبئ فيه من العالم النيوليبرالي؛ هذا هو وسيلة جديدة للعيش في طور التشكيل.”
لذلك يجب علينا أولاً تغيير عقليتنا ومن ثم يمكن للدولة أن تُغذي هذه المشاريع الصغيرة. وضع العربة أمام الحصان؟ وبما أننا محتجزين داخل حدود علاقات الإنتاج الرأسمالية (الخاصة وتلك التي تعود للدولة)، فإن هذه العلاقات هي التي يجب أن تتغير بحيث يمكن لطرق جديدة للتفكير أن تزدهر.
يدرك ماسون بأن “نموذجه البديل” لم يجد له مكاناً بيننا بعد. وبدلاً من ذلك فإنه يتوقع أزمة رأسمالية جديدة قادمة – على الرغم من أن هذا التوقع يستند ببساطة على تحليل كينزي للأجور الحقيقية المنخفضة التي تُبقي الطلب منخفضاً وفقاعة ائتمان جديدة تهدد بانهيار مالي آخر.
يعتقد ماسون أن الليبرالية الجديدة “قد تحولت إلى نظام مبرمج لإنزال حالات الفشل الكارثي المتكررة.” عجباً، كنتُ أعتقد أن الرأسمالية هي التي تخضع “لحالات الفشل الكارثي المتكررة.” ولكن، على ما يبدو، مثل التنقيحات الحديثة الأخرى للاقتصاد الماركسي، فإن المسالة تتعلق بالليبرالية الجديدة فقط، شكل خاص من أشكال الرأسمالية. من وجهة نظري، فإن الليبرالية الجديدة، سياسة واستراتيجية للطبقة الحاكمة لتعظيم الربحية عن طريق رفع معدل الاستغلال، هي في الواقع الوضع النموذجي للرأسمالية. إن الرأسمالية تتوجه نحو الاستثمار في التكنولوجيا الجديدة لزيادة الربحية، في فترات نادرة وقصيرة، كما هو الحال في فترة ما بعد الحرب مباشرة.
يولي ماسون الكثير من الاهتمام بما كتبه ماركس عن دور التكنولوجيا في نبذة حول الآلات في الغروندريسة Grundrisse المكتوبة في عام 1857 http://thenewobjectivity.com/pdf/marx.pdf. ويقول ماسون إن ماركس يُثبت نفس الفكرة التي اعتمدها: إن الرأسمالية توسع التكنولوجيا والمعرفة العلمية لدرجة أن عالماً من الوفرة والوقت الحر للجميع يصبح حقيقة واقعة.
وكما يعبر عنه ماسون: “في اقتصاد حيث تقوم الآلات بمعظم العمل، فإن طبيعة المعرفة المحتجزة داخل الآلات يجب أن تكون، كما يكتب [ماركس]، “اجتماعياً”. … “ويوحي هذا أنه بمجرد أن تصبح المعرفة قوة منتجة بحد ذاتها، متفوقة على العمل الفعلي المبذول في خلق الآلة، فإن السؤال الكبير لا ينحصر في “الأجور مقابل الأرباح” بل من الذي يسيطر على ما يسميه ماركس “قوة المعرفة.”
ولكن مرة أخرى، فإن هذا الرأي أحادي الجانب وطوباوي بشأن التقدم التكنولوجي. إذا قرأتَ النبذة [حول الآلات لماركس] بعناية، يمكنك أن ترى بأن ماركس لا يطرح تطوراً مطرداً ومتناغماً لعالمٍ من الوفرة من خلال المعرفة العلمية المتجسدة في “آلة مثالية.” نعم، صحيح أن القيم الاستعمالية ستتكاثر من خلال التقدم التكنولوجي، لكن هذا الوضع يخلق تناقضاً داخل الرأسمالية لن يختفي تدريجياً. في ظل الرأسمالية، يجري إدخال زيادة المعرفة من العلم والعمل الإنساني في الآلات. ولكن الآلات مملوكة من قبل رأس المال وليس المجتمع بشكل مشترك. ولا يختفي الصراع الطبقي في ظل “قوة المعرفة.” على العكس من ذلك، فإنه يمكن أن يزداد حدة. لمعرفة المزيد عن هذا، انظر ج. كارچيدي G Carchedi Behind the Crisis، ص 225-232 (http://digamo.free.fr/carched11.pdf).
لذلك ليس صحيحاً ما يقوله ماسون أن هناك “خلل ما في المنطق الذي نستخدمه لتقييم الشيء الأكثر أهمية في العالم الحديث.” وأن “المحتوى المعرفي للمنتجات أصبح ذا قيمة أكبر من الأشياء المادية التي تستخدم لإنتاجها. ولكنها قيمة مقاسة كفائدة، وليس قيمة تبادلية أو قيمة أصول.” إن القيم التبادلية تتوسع بشكل كبير في ثورة المعلومات، لكن قانون القيمة ما يزال نافذاً. إن المعلومات ليست مجانية في ظل الرأسمالية. في الواقع، وفي كل يوم، تحاول الرأسمالية وتنجح في قياس المعلومات، والاستيلاء عليها وامتلاكها من أجل الربح.
لكن ماسون يواصل متابعة نظرته الطوباوية لثورة المعرفة. ويناشد: “اذا كان بإمكاني أن استدعي شيئاً واحداً إلى حيز الوجود مجاناً فإنه سيكون مؤسسة عالمية تقوم بنمذجة [صياغة] الرأسمالية بشكل صحيح: نموذج مفتوح المصدر للاقتصاد كله؛ [الاقتصاد] الرسمي، وغير الرسمي والخفي. وكل تجربة تمر من خلاله تعمل على تخصيبه؛ سيكون مصدراً مفتوحاً ومع العديد من وحدات البيانات datapoints كما في النماذج المناخية الأكثر تعقيداً.” فقط لو أن الرأسمالية تعمل بطريقة بحيث تخلق عالم ما بعد الرأسمالية الزاخر بالوفرة! لكنها لن تفعل ذلك.
يعود ماسون إلى الواقع: “إن التناقض الرئيسي اليوم هو بين إمكانية [وجود] سلع ومعلومات وفيرة ومجانية؛ ونظام احتكارات وبنوك وحكومات تحاول إبقاء الامور خاصة [بيد القطاع الخاص]، نادرة وتجارية. كل شيء يُختزل إلى الصراع بين الشبكة والتسلسل الهرمي: بين الأشكال القديمة للمجتمع المقولبة حول الرأسمالية وأشكال جديدة من المجتمع الذي يسبق ما يأتي بعد ذلك.”
لكنه يرى التناقض، ليس بين رأس المال والعمل، ولكن بين الاحتكارات والتشبيكات الحرة free networking. وهذا يجزئ الصراع الطبقي (الذي يبدو أنه ينكره ولم يعد له وجود) إلى معركة العقول الحرة الفردية والقوى الهرمية المسيطرة على المعرفة. وبالنسبة لماسون، فإن المعركة هي بين الملايين من الناس المنكبين على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم على الشبكة العالمية (ربما في بيجاماتهم مثلي الآن) في محاولة لتغيير العالم من خلال تبادل المعلومات ضد قوى الشركات الكبرى وهياكلها التي تمارس السيطرة. وهذا يستبدل نضالات العمال القديمة ضد رأس المال.
هل أن هذا الأفق [الذي يرسمه ماسون] واقعي أو ممكن؟ إن البروليتاريا الصناعية من الطراز القديم لا تزال موجودة وآخذة بالتوسع حيث المزيد من الملايين يتمدينون ويعملون في المصانع التي تصنع الخوادم وكابلات الألياف، والروبوتات، والمُعالِجات، والبرمجيات وغيرها من السلع الضرورية لخلق “ثورة المعرفة” لنا نحن في بيجاماتنا.
إذا كان ماسون يقول لنا إن تطور القوى المنتجة قد خلق الآن الشروط المسبقة لمجتمع الوفرة ونهاية الاستغلال الطبقي، فإن هذا من ثم هو الصحيح، لكنَّ ذلك ليس شيئاً جديداً. ذلك ما قاله ماركس قبل 160 عاماً. وهو ما قاله إنجلز في عام 1880 عندما لخّص وضع الرأسمالية والماركسية كاشتراكية علمية بدلاً من الاشتراكية الطوباوية. “إن إمكانية تأمين حياة لكل فرد من أفراد المجتمع ليس فقط مادياً وكافياً تماماً، يصبح يوماً بعد يوم أكثر اكتمالاً، بل وجودٌ يضمن للجميع التطور الحر وممارسة قدراتهم البدنية والعقلية، من خلال وسائل الإنتاج المملوكة اجتماعياً – إن هذه الامكانية هي الآن، لأول مرة، صارت معنا، بل هي هنا.” (الاشتراكية: الطوباوية والعلمية).
لكن يبدو أن ماسون يقول أيضاً إن ثورة المعلوماتية/المعرفة الجديدة هذه تتجاوز تناقضات الرأسمالية، قانون القيمة واستغلال الأيدي العاملة من قبل رأس المال. إذا كان الأمر كذلك، فهو مخطئ. فالتناقض بين الإنتاج الاجتماعي والتملك appropriation الرأسمالي لا يزال قائماً. لا يوجد شيء جديد في ثورة المعرفة التي يمكن أن تغير ذلك. [فالتغيير] يتطلب العمل الواعي من العمال لإعادة تكوين “البنية التحتية الاجتماعية”، كما يسميها ماسون، من أجل “إحداث تغيير جوهري في ما تفعله الحكومات.” دون ذلك، فإن “ما بعد الرأسمالية” يبقى حلماً طوباوياً.
(*)
Paul Mason and postcapitalism: utopian or scientific?
Paul Mason and postcapitalism: utopian or scientific?
(**) ج. كارچيدي، أستاذ متمرس في جامعة أمستردام، هولندا، ومساعد أستاذ في جامعة يورك، تورنتو، كندا. (المترجم)
(***) مصارف الوقت تشبه مصارف الدم: ساعد الآخرين وعندما تحتاجهم سيساعدونك. للتعرف على هذا النمط من “الصيرفة” القائمة على علاقات تبادلية بين الناس وقيم الثقة والعناية ومساهمة الناس بوقتهم للقيام بأعمال مختلفة لخدمة أفراد مجتمعهم أنظر:
http://www.neweconomics.org/publications/entry/time-banks
(المترجم)
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 28 كانون الثاني 2016
باحث وكاتب عراقي متخصص في قطاع التامين مقيم في المهجر
الاخ العزيز مصباح كمال
موضوع مهم وترجمة رائعة
الى كل من له معرفة بالسيد بول ماسون ان يوجه اليه السوْال الاتى:
ما الذى يدفع دولة راسمالية للتخلى او لتقويض منظومتها الاقتصادية طواعية لتحقيق احلامه الطوباوية ؟
مع التقدير