اقليم كردستان العراق
16/02/2016
1ـ يمر اقليم كردستان العراق بأزمة مالية خانقة. وهي ليست وليدة اليوم، بل نتيجة تراكم سياسات اقتصادية خاطئة وتفشي الفساد الاداري وهدر المال العام في المفاصل الادارية والحزبية، وسوء الادارات السابقة منذ تبني النظام الفيدرالي عام 1992 في الحكم ولحد اليوم، والتي لم تكن قادرة علي اعادة بناء الوطنية السياسية التي تشكل روح الادارة القانونية والمؤسساتية، التي تساوي بين المواطنين وتجمع بينهم وتوحدهم في اطار واحد يتجاوز الولاءات الجزئية العقائدية والحزبية والعشائرية والمحسوبية، والتي انشغلت بالتنافس من أجل الهيمنة علي السلطة والمال والنفوذ.
2ـ تنوعت مصادر موارد الاقليم، منها: إقرار نسبة (17%) من الميزانية الاتحادية اعتبارا من عام 2004، بيع قسم من نفط الاقليم مباشرة في السنوات اللاحقة، مع تفشي الفساد فيه، الاستمرار في جباية الضرائب والرسوم الجمركية عند المعابر الحدودية للإقليم مع كل من تركيا وايران، استلام مساعدات نقدية وعينية من الجهات المانحة. ما يثير الانتباه ان الموارد المذكورة، تنقصها الشفافية وتحديد أوجه انفاقها وإفصاح البيانات المتعلقة بذلك، وصعوبة الحصول على هذه البيانات من مصادرها المختصة. لقد تعاظمت ايرادات الاقليم بمليارات من الدولارات، استثمر قسم منها في مجال اعمار الاقليم، وشملت معظمها جانب البناء في اقامة مجمعات سكنية وعمارات عالية للفئات الغنية، وفيلات للمسؤولين الحزبيين والاداريين، وفنادق (4 ـ 5) نجوم، وإنشاء الحدائق والأبنية الحكومية المختلفة مع جزء قليل لبناء المجمعات السكنية للمواطنين، في الوقت الذي يشهد الاقليم أزمة سكن حقيقية، وبخاصة بالنسبة للفئات محدودية الدخل والفقيرة.
3ـ ان شحة الموارد المالية اليوم في الاقليم وسوء ترشيد سياستها وعدم استخدام هذه الاموال الطائلة على مدى السنوات السابقة بشكل عقلاني وتوظيفها من اجل بناء بنى تحتية يرتكز عليها النشاط الاقتصادي الانتاجي وتقديم الخدمات الانتاجية والعامة، أدى هذا كله الى تبديد قسم كبير منها في مشاريع فاشلة، وابتلع الفساد والامتيازات الباذخة نسبة كبيرة منها. هذا بالإضافة الي انخفاض اسعار النفط وبالتالي تقلص العوائد الناجمة عن ذلك، اضافة الى عدم استلام الاقليم لحصته المحددة من الموازنة الاتحادية منذ بداية عام 2014. وبالمقابل هناك ركود اقتصادي ونقص في السيولة النقدية، وتفاقم مديونية حكومة اقليم كردستان لشركات النفط الاجنبية وللبنوك التجارية إلى اكثر من ( 20 ) مليار دولار. كما ادت المواجهات العسكرية مع قطعان الدولة الاسلامية (داعش)، وما نجم عنها من تفاقم مسألة اللاجئين والنازحين في الاقليم، وزيادة نفقات هذه الحرب على الإقليم، الامر الذي تسبب في ازمة مالية شديدة، ومنها دفع رواتب كثير من منتسبي المؤسسات الادارية مرة كل اربعة اشهر.
4ـ ولحل بعض معضلات هذه الازمة المالية ومنها بالتحديد مسالة رواتب ومخصصات ذوي الرواتب، اصدر مجلس وزراء إقليم كردستان بيانا، بتاريخ 03 شباط/فبراير 2015، يوضح فيه اسلوب دفع الرواتب شهريا. على ان يكون قرار مجلس الوزراء بهذا الخصوص ساري التنفيذ بأثر رجعي، أي اعتبارا من 01 كانون الثاني/ يناير 2016. وينص القرار على اتباع نظام ادخار نسبي “عادل” (لم يعلن عن النسبة) من المجموع الكلي للرواتب والمخصصات، باستثناء وزارة البيشمركة والقوات الامنية. اما رواتب الاشهر الباقية في العام الماضي، فتبقى كقروض لدى وزارة المالية وتقيد في حساب خاص، باسم ( مدخرات ذوي الرواتب في اقليم كوردستان) بشكل موقت والى اجل غير مسمى، حيث تعاد هذه الاموال إلى أصحابها. كما ستتأخر ايضا جميع مستقطعات القروض والمنح الحكومية من قبل ذوي الرواتب، اعتبارا من هذا التاريخ.
5ـ مما لاشك فيه ان هذا الاجراء سينعكس بشكل سلبي على الوضع الاقتصادي وحياة المواطنين في الاقليم، وخاصة من اصحاب الدخول المحدودة. ويشمل القرار ايضا شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة واصحاب الدخول المنخفضة، وسيؤثر على المستوى المعيشي للمواطنين. كما يؤدي هذا الاجراء الى اضعاف الاستهلاك ومن ثم سينعكس ذلك على الانتاج والتشغيل واستمرار الركود الاقتصادي، وتفاقم البطالة، وارتفاع التضخم. علما ان الادخار بشكل إجباري ينافي مبادئ الحقوق الشخصية، اي حق التصرف بالمال الخاص، ومن دون احتساب اية فائدة على هذا المال!. أما مستحقات الرواتب للأشهر السابقة فمعظمها رواتب الموظفين من اصحاب الدخول المحدودة والواطئة، وتمثل مصدر رزقهم الاساسي وتأمين حياتهم المعيشية من المأكل والمشرب وايجار السكن والادوية وغيرها من المتطلبات المعيشية والحياتية اليومية. هؤلاء ليس لهم دخل فائض حتى يستطيعون اقراض الحكومة، فأولى على الحكومة الالتجاء الى اصحاب رؤوس الاموال الطائلة من التجار والمقاولين واصحاب الشركات الكبار الذين يملكون مليارات الدولارات واعدادهم بعشرات وألاف من اصحاب الملاين ايضا في الاقليم وخارجه. وهناك شركات تمتلكها بعض الاحزاب المتنفذة في الاقليم. وهذه الشركات، حسب بعض المصادر الإعلامية، تبلغ ثرواتها أكثر من (80) مليار دولار، واعدادها في تزايد مستمر بسبب الفساد وانعدام الرقابة والمحاسبة والمسائلة والاستجواب. لذا كان الاجدر بحكومة الاقليم مطالبة هؤلاء بإقراضها، وهم قادرون على ذلك. وتوجب على حكومة الاقليم تسوية هذه المستحقات بأسرع وقت ممكن، ودفعها الى المستحقين قبل تنفيذ القرار المذكور انفا.
يبدو ان حكومة الاقليم بهذا الاجراء تحاول ابعاد نفسها من تحمل المسؤولية المباشرة على ما آل اليه الوضع الاقتصادي والمالي، وتحميل المواطنين (وهم في اغلبيتهم من الفئات محدودة الدخل والفقيرة) الجزء الاكبر من اعباء الازمة.
6ـ ان ما وصل اليه الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الاقليم، هو نتاج سياسات فاشلة وادارات غير كفؤة ينخرها الفساد، وتوجهات اقتصادية ريعية استهلاكية على حساب النشاط الانتاجي الزراعي والصناعي والخدمات ـ الانتاجية. هذا اضافة الى اعتماد مفرط على استيراد السلع الاجنبية واغراق الاسواق المحلية بها على حساب تطوير وتنمية الانتاج الوطني. والاهم من ذلك كله هو انعدام وجود رؤية شفافة واستراتيجية واضحة في عملية التنمية الوطنية الشاملة ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
ان مواجهة هذه التحديات تتطلب من الادارة الحالية الانطلاق من تشخيص الوضع الراهن؛ وخاصة في المسار الاقتصادي والمالي القائم كما هو، وتحديد الاهداف التي ينبغي تحقيقها، ومن ثم اقتراح السياسات والآليات التي من شأنها تحقيق الاهداف المرسومة. ويمكن اجمال ذلك على سبيل المثال لا الحصر، (من دون تفاصيل)، وكالاتي:
• حل ازمة الرئاسة والبرلمان.
• ايجاد مناخ ملائم لتحسين العلاقات بين الاحزاب السياسية ومشاركتها في ادارة الحكم.
• حل جميع الاشكاليات مع الحكومة الاتحادية، على اسس الحوار الديمقراطي والشفافية.
• الشفافية التامة في ملف النفط والغاز والإنفاق الحكومي.
• تخفيف التضخم الكبير في عدد الموظفين الذي بلغ قوامهم اكثر من مليون شخص، ولا حاجة الى عدد كبير منهم، ويعتبر ذلك ضمن بطالة مقنعة ايضا. والتأكيد على معايير الكفاءة والنزاهة والإخلاص في تعين موظفي الحكومة.
• القيام بجملة من الاصلاحات السياسية والتغيرات البنيوية في اقتصاد الاقليم.
• ترسيخ مفهوم الحكومة الرشيدة.
• تفعيل دور الحكومة في توفير الخدمات الاساسية للمواطنين، الصحة والتعليم والكهرباء…الخ.
• اتخاذ اجراءات حاسمة وفعلية لمعالجة ظاهرة الفساد الاداري والمالي المتفاقم في الاقليم.
• التصرف بالموارد المالية بشكل عقلاني وبشفافية عالية تصب في خدمة التنمية الحقيقية.
• تحفيز القطاع الخاص للمشاركة الفعلية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
• معالجة ظاهرة البطالة المتفاقمة التي تصل بحدود (25 ـ 30) % من قوة العمل، وتقليل الفوارق الطبقية، من خلال توسيع حجم الطبقة الوسطى، وتقليل حجم الفئات الفقيرة، وممن هم تحت خط الفقر، ونسبتهم (13%) من عدد السكان، والبالغ بحدود (5) مليون نسمة.
• اصلاح النظام المالي والتشريعات المالية، وخاصة اعادة تنظيم نظام الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وتشريع قوانين خاصة لها بما يحقق العدالة الاجتماعية، ويحد من الفساد المالي والاداري في هذه المجالات.
• تفعيل دور هيئتي الرقابة المالية والنزاهة واحترام استقلالهما في اداء مهامهما، ودراسة تقاريرهما بجدية في برلمان الاقليم واقرارها.
• ضرورة تنويع مصادر الدخل، وعدم الاعتماد فقط على النفط والغاز في المدى المنظور.
7- ختاما، يتطلع المواطن الكردستاني بفارغ الصبر إلى الاحزاب الكردستانية المنخرطة في العملية السياسة والحكم في الإقليم، الى اتخاذ مبادرة عاجلة لتبني رؤية استراتيجية واضحة وشفافة، لإجراء الاصلاحات والتغيرات المهمة والجذرية في نهجها السياسي والاقتصادي وهيكلتها الإدارية، تستند على مفاهيم العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وممارسة الديمقراطية الحقيقية، وعدم اختزالها فقط بالانتخابات، واحترام كرامة وحقوق المواطن. ومن الضروري التركيز على تطوير الفيدرالية وترسيخ أسس مستقبلها ومؤسساتها وقوانينها، بعيدا عن التدخلات الحزبية الضيقة في شؤونها، والتسلط على مراكز القرارات في أداءها، وتفعيل دور الجماهير للمشاركة في عملية صنع القرارات المصيرية، وانتهاج سياسة بناءة تخدم عملية التنمية الوطنية المستدامة. وبعكس ذلك فان المواطن متواصل وعازم على مطالبة وتحقيق حقوقه العادلة حتى النهاية.
* أستاذ جامعي وباحث اقتصادي ـ المحاسبة
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 16 شباط/فبراير 2016
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية