لاذ فرانسيسكو بصمت ثقيل بعد ان اخذ مقعده ليجاورني على متن الطائرة المتجهة إلى امريكا الشمالية، واصاب وجهه الوجوم بعد ان عرف اني رجل اقتصاد من شرق المتوسط، وتعاقبت التجاعيد على جبينه الاسمر. ولم اعلم ان جليسي هو ليس من الذين يفلحون في اخفاء ما يعمل في نفسه بل ظل يتمتم بصوت مرتفع: انها انغولا، انه النفط الملعون. وفجأة ظهر باطنه عاريا في وجهه، وشعرت من فوري ان في داخله خوف انقبض له قلبه. ثم سألته: لماذا عينيك مظلمتين محزونتين؟ ولماذا القنوط يطفئ سراج فرحتك ويخمد أنفاس آمالك؟ هنا رمقني بنظرة ناطقة كأنما كان يريد ان يقول لي: يا لك من رجل نافد الصبر. ألم تعلم بأني رجل قضيت اربعة عقود اعمل مهندساَ في حقل الاستكشافات النفطية في انغولا، ولكن بدلا من ان اكتشف النفط اكتشفت حقيقة اخرى وهي ان الدول النفطية في العالم النامي هي اكثر عرضة للحروب الاهلية بنسبة بلغت 200 بالمئة مقارنة بالبلدان النامية الاخرى غير النفطية، وان 25 بالمئة من البلدان النفطية تخوض اليوم حروباً اهلية مقارنة بدول نامية اخرى تخوض تلك الحروب الا أن نسبتها 11 بالمئة.
هنا صمت فرانسيسكو ثم واصل حديثه قائلاً: ان دولنا النفطية هي اليوم اقل ثراءً واقل حريةً وسلميةً مما كانت عليه في أواخر سبعينيات القرن الماضي. وللاسف ان اكثر من 50 بالمئة من تجارة النفط الخام قائمة على اساس نظم سياسية مستبدة مبدأها: القوة تصنع الحق! قلت لجليسي: ماذا تعني بأن القوة تصنع الحق؟ اجابني: انه بين العام 1980 والعام 2013 كانت الانظمة (الاستبدادية) المنتجة للنفط اقل اربع مرات عن الدول غير النفطية في الانتقال إلى الديمقراطية.
غادرت فرانسيسكو حال وصولنا نيويورك، وتركته جامداً صامتاً وانا اقول في سري ان قلبه لم يتنبأ بالفاجعة. فاليأس عند فرانسيسكو أروح من الشك والحيرة والعذاب. فالكثير من عائدات نفط انغولا ذهبت لتمويل حروب اهلية استغرقت 27 عاما في تلك البلاد من جنوب غرب افريقيا واستحالت بعد استقلالها في العام 1975 إلى شبه خراب. اذ تُعد انغولا من اكثر بلدان العالم ارتفاعا في حصة الفرد من الالغام الارضية. فهناك لغماً ارضياً لكل 133 نسمة وثلث اطفال انغولا يموتون قبل سن الخامسة. وان متوسط عمر الانسان في تلك البلاد لا يتعدى 42 عاماً. كما ان مناطق واسعة من العاصمة الانغولية لاواندا مازالت محرومة من الكهرباء والمجاري وخدمات رفع النفايات.
واخيراً، حزنت على الورقة التي قدُمت إلى المؤتمر في اليوم التالي لوصولي مدينة نيويورك والتي كانت تقول ان ثمة 79 دولة في العالم وعلى مدى عقدين من الزمن ظلت فيها المجموعة النامية التي لا تمتلك النفط هي اعلى في معدلات نموها الاقتصادي من البلدان النامية النفطية. وانتهى المؤتمر بدراسة اتضح من نتائج اختباراتها انه على مدى عقود ارتبطت ممارسة الديمقراطيات بمستوى مرتفع من النمو الاقتصادي. وتوقفت هنا مضطرباً وتذكرت فرانسيسكو وانغولا والاستبداد والنفط الملعون!
(*) المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعاده النشر بشرط الإشارة الى المصدر
د. مظهر محمد صالح: انغولا والنفط الملعون!
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية
الدول الغيرنفطية اكثر نموا من الدول النفطية مفارقة كبيرة وهي حقيقة فعلا – كثير من دول العالم لاتملك بترول ولاكنها تمتلك فكر اقتصادي وادارة جيدة تعرف كيف تتصرف بوارداتها بدون اي هدر وتضع كل دولار في مكانه الصحيح – ولاكن في الجانب الاخر هناك دول نفطية استطاعت ان تلحق بالدول المتقدمة وان وتوظف وارداتها النفطية في الاتجاه الصحيح مدركة ان هذه الثروة هي لن تدوم الى الابد وهي ناضبة لا محالة ولا بد من توظيف كل مليار دولار من عوائد النفط في بناء معامل او بناء ابراج او تنمية بشرية ورفع المستوى التعليمي والمعاشي داخل بلدانها
انغولا والنفط الملعون
ليس غريبا ان يحزن كاتب المقال ( على الورقة التى قدمت الى الموْتمر والتى كانت تقول ان ثمة 79 دولة فى العالم وعلى مدى عقدين من الزمن ظلت فيها المجموعة النامية التى لا تملك النفط هى الاعلى فى معدلات نموها الاقتصادى من البلدان النامية النفطية )
واذا كان النفط يجلب اللعنة فان هناك نوع من التوازن فى الحالة الانغولية التى هى واحدة من البلدان الافريقية الاساسية المولدة للماس — فاذا كان النفط ملعونا فى الدنيا فقد امن القدماء بان الالماس يجلب الحظ السعيد لمن يحمله
عزيزى استاذى الدكتور مظهر محمد صالح اينما وجدت الثروات نجد النزاعات التى تمولها الراسمالية العالمية بهدف الحصول على تلك الثروات بابخس الاسعار كما يحصل الان —
ومن الطريف ان اذكر فى هذا المقام انه تم العثور فى انغولا على اكبر قطعة من الماس يبلغ عرض قطعة الالماس النادرة 7 سانتيمترات وكان وزن القطعة يبلغ 404 قيراط وطولها يوازى طول بطاقة ائتمان – لقد جرى اختبار الالماس فى احد اشهر متاجر المجوهرات فى نيويورك وجاءت النتيجة بانها قطعة نادرة وتم تصنيف القطعة من فئة ( دى ) وهى فئة لون نادرة وقيمة جدا للالماس الابيض بحسب المعهد الامريكى للاحجار الكريمة
وطوبى لمن يوْمن بالحظ وهنيئا لشعب انغولا بهذه الماسة النادرة الخالية من العيوب بشكل شبه كامل من حيث اللون والنقاء عسى ان تجلب لهذا الشعب الفقير الحظ السعيد و( الا لعنة الله على الظالمين )
مع التقدير