دخل الخادم كارلوس ذي السحنة السمراء والقامة الطويلة على الرئيس المخلوع خوان بيرون وهو يستقبل صباحه الأول بعد هروبه ليلة الإطاحة به في 16 ايلول 1955 إلى البارغواي، قائلا له بهدوء: اعددت مائدة إفطارك سيدي وهو الفطور الاول في منفاك. أجابه الرئيس كلا يا كارلوس، أحضِر لي فنجان قهوة أرابيكا التي سأرتشفها للمرة الاولى منذ رحيل زوجتي إيفيتا بعد ان غيبتني الشمس في ظلام المنفى لأتذوق مرارة القهوة الداكنة.
تنهد خوان بيرون حزناً صامتاً ثم واصل قائلاً: علمتني الحياة انها صراعٌ دائم لا راحة فيها ومن يتهاون في إعداد قوته يقدم نفسه فريسة لوحوش لا تعرف الرحمة، فأنا لا ذنب لي سوى ان الأعداء تبرأوا من ثورة الشعب وحكمه العظيم ليسدلوا ستار الظلمات الذي ألحق بي هذه الهزيمة. لقد صنعت يا كارلوس رسالتي في حكم البلاد بسذاجتي. والآن افتقد لثلاثة هم: شعب الارجنتين والحركة العمالية البيرونية وقبر زوجتي الراحلة إيفيتا. أجابه خادمه كارلوس بالقول: لا تحزن يا سيدي فليس للأشرار إلا العصا والسيف. ولكن كان مبدئي هو الحب والسلام ونبذ الايذاء والقهر. اجابه كارلوس ان معاملة الناس فنٌ عسير ومن لا يحسنه فقد تخذله نواياه الطيبة، فيقتل من يحب وهو يسعى إلى انقاذه.
توقف خوان بيرون ورفع رأسه ثم التفت إلى خادمه قائلاً: كنت أدعو أن يحل الحب محل السيف بين الناس. أجابه خادمه من فوره انه لمن الطبيعي أن يضيع حكم الارجنتين من يدك يا سيدي نتيجة لهذا الاسلوب من التفكير. هنا علا صوت خوان بيرون قائلاً كلا يا كارلوس، لقد كان برنامجي الاقتصادي المليء بالأخطاء هو الذي جعل الخير يخفض جناحيه من على شعب الارجنتين ويزيل عني مظلة الحكم ويفقدني ظلها تاركاً البلاد وهاربا إلى المنفى في ليلة عسيرة بعد ان انعقدت سحب المكائد من كل فج عميق. أجابه خادمه مستدركاً، لقد مددت يدك إلى فقراء الامة الارجنتينية وعظمت من دور المدينة وعمالها على حساب الريف، فوقعت في تناقض مؤسف بين عمل إصلاحي يعد في روحه وجوهره امتداداً لمطالب الحركة العمالية البيرونية حتى قضى برنامجك الاقتصادي على جميع النوايا الطيبة. أجابه خوان بيرون: نعم. لقد اخفقت في إدارة برنامجي الاقتصادي ودعني أوضح لك ما حدث بالضبط: اعتمدتُ استراتيجية اقتصادية ذات نزعة صناعية حمائية مقابل خفض مداخيل المزارعين المصدرين للحبوب ولحم البقر من خلال إنشاء مجلس حكومي للتسويق يتولى التصدير ويتقاسم الارباح الزراعية لمصلحة دعم الاجور في القطاع الصناعي. أدت هذه السياسة بمرور الوقت إلى عجز في ميزان المدفوعات جراء هبوط الصادرات الزراعية وتعاظم الاستيرادات الاستهلاكية لعمال المدن ومن ثم اللجوء إلى سياسة التوقف/السير في البرنامج الاقتصادي، أي خفض الانفاق الحكومي لتدارك عجز ميزان المدفوعات وخفض قيمة العملة مقابل المطالبة بزيادة الأجور في حركة حلزونية لم تنتهِ إلا بمؤازرة عمال المدن للانقلابين.
ختاماً، أجاب الخادم سيده: لقد عملت الخير لعمال المدن فوثب الانتهازيون من وراء ظهرك ليتحول العمال حاضنة آمنة للأغنياء واللصوص.
(*) المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي
د. مظهر محمد صالح: حوار المنفى: الخادم والسيد
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية
كلمات بليغة صاغتها انامل د. مظهر تنم عن عبقرية وملكة ادبية رائعة .. معجونة بفكر وتجارب سياسية واقتصادية عالمية….سابفة…. وبانتظار سياسة واعمال ….الاصهب ..ترامب…ثم ظهورالفرج الالهي القريب باذن الله تعالى
بغض النظر عن المضمون..اسلوب ادبي مشوق متميز…تحياتي ……محسن الحيدري
الا ترى عزيزى الدكتور مظهر محمد صالح ان فى كلمات كارلوس شيىْ من المداهنة والنفاق والمدارة لسيده المخلوع خون بيرون ؟ الا ترى ان الخادم يظهر خلاف ما يضمر فهو يعترض على قول سيده الذى زعم بانه اراد ( ان يحل الحب محل السيف ) ويقول ( من فوره انه لمن الطبيعى ان يضيع حكم الارجنتين من يدك ياسيدى نتيجة هذا الاسلوب من الفكير )
لماذا لم يحدث الخادم كارلوس سيده بصراحة عن حالة البذخ التى كان يعيشها وما كان يملكه من سيارات وثروات هائلة كما هو معروف وما تم تهريبه من نقود ومجوهرات ثمينة الى الخارج بحسابات سرية فى البنوك الاجنبية
على كل حال لقد فاز خوان بيرون فى الانتخابات الرئاسية فى عام 1973 بدعم من زوجته الثالثة راقصة الكباريه السابقة
ودوام الحال فى الدنيا محال
مع خالص تقديرى وشكرى لروايتكم الطريفة