بعيداً عن التطورات المفاهيمية لعلم الرفاهية الاقتصادية وجدلية السلعة العامة public good التي لا تستثني احداً من استخدامها بالغالب والتي عززت من دور الراكب المجانيfree rider في توفير اساسٍ لمنتفع من دون ان يقدم مساهمة مجتمعية او ضريبية او تحمل اعباء مالية وغيرها من المساهمات، فتداركت منظمة اوبك لدور العنصر الفاعل والمؤثر في استقرار استراتيجيات اسواق النفط وقواعد اللعبة او المباراة فيها من منتجي النفط من داخل وخارج المنظمة النفطية يأتي للإجابة على تساؤل جوهري مفاده: هل ان لعبة الكارتل النفطي للأوبك باتت اكثر تعاونية cooperative game بعد حرب الاسعار الاخيرة في سوق النفط؟ اذ مازالت البلدان من خارج منظمة اوبك تنتج ما يزيد على ثلثي الانتاج النفطي العالمي البالغ اجمالاً بنحو ١٠٤ ملايين برميل نفط يومياً، لتساير لعبة الكارتل النفطي اللاتعاونية non cooperative game لمجموعة الاوبك نفسها، وتحولها من {أوبك+١مع روسيا} الى {اوبك -١ دون السعودية.
اذ توجهت السعودية كأكبر منتج للنفط في اوبك الى ممارسة دور الراكب المجاني السالب negative free rider وأدت مع كثير من الراكبين المجانيين الى توفير عرض نفطي اضافي وتخمة glut غير مرغوبة (في اسواق النفط ذات الطبيعة السعرية غير المرنة في الطلب) وقدرت تلك التخمة بنحو ١٠ ملايين برميل وبحرب اسعار امست شديدة الانفلات.
فقد خلفت حرب اسعار النفط المذكورة واقعاً سعرياً داكناً، هبطت فيه اسعار نفوط الاشارة (برنت) من اعلى مستوى بلغته في اب ٢٠١٩ بمتوسط سعر ٧٤،٧١ دولار للبرميل نزولاً الى أدنى مستوى سعري في أواخر الفصل الاول من العام ٢٠٢٠، اذ أصبح برميل النفط المصدر من نفوط برنت هابطاً الى قرابة ٢٢،٧ ولاسيما في نهاية آذار ٢٠٢٠. وهكذا فقد الريع النفطي ما مقداره (سالب ٥٢) دولار من قيمة البرميل النفطي الواحد في غضون الاشهر الستة الاخيرة. وتعرضت اسواق النفط جميعها الى خسارات مشتركة بعد ان بات الجميع يمسك بالخسارة وفقدان العوائد، ضمن لعبة نفطية تتمتع بقدر عال من اللاتعاونية، بما فيهم المنتجين من خارج اوبك، وفقدانهم ريوعاً نفطية مهمة. اذ اعتمدت خسارة الريع النفطي على مستويات نقاط التعادل break even points في الانتاج (وهي النقطة الخالية من الريع وتطابق فيها الكلفة مع العائد). فالراكبون المجانييون في اللعبة اللاتعاونية التي قادت حرب الاسعار فيها المملكة السعودية كأكبر منتج داخل الاوبك، ادت بالراكبين المجانيين كافة بالتحول من آفاقهم الموجبة positive free riders في مرحلة الانتعاش النفطي الى راكبين مجانيين سالبين negative free riders في مرحلة تدهور عائد الانتاج عند نقطة التعادل او دونها.
وهكذا تسببت الظاهرة اللاتعاونية في السوق النفطية العالمية، وانفلاتها في غضون الاشهر الستة الاخيرة، بحدثين متناقضين مهمين من ظواهر الركوب المجاني نفسه. الاول، وهو على مستوى منتجي النفط الصخري shell oilers واستمرار بالإنتاج السالب الريع (اي دون نقطة التعادل) ولاسيما في شمال القارة الامريكية والذي جسد ظاهرة (الركوب المجاني السالب المفرط) ولأول مرة منذ عقود في الولايات المتحدة. فإزاء ذلك الانخفاض في أسعار النفط بشكل كبير وبكلف عالية جداً تفوق كلف الانتاج المنخفض في بلدان الخليج، بدأت المصارف الكبرى في الولايات المتحدة امثال مصارف جي بي مورغان، ويلز فارغو، مصرف أمريكا وسيتي غروب بممارسة التفكير في النمط الامبريالي المالي finance imperialism (وهو التفكير الذي لا يبدل جلده) بعملية استيلاء عدائية non white knights takeover ذلك بدمج الصناعة النفطية بقطاع المال الممول لها. وتستند الفكرة في اعلاه على قيام المصارف الممولة نفسها بالاستيلاء على الحقول النفطية المنتجة ومعدات الشركات النفطية التي اقترضت منها أموال (تقدر بـ ٢٠٠ مليار دولار) وامست عاجزة عن السداد. وربما ستوظف هذه المصارف مديرين تنفيذيين لهم الخبرة العالية في إدارة الطاقة والعمليات النفطية لمصلحتها كونهم مالكين جدد في الصناعة النفطية الامريكية.
اما الحدث الثاني، فيأتي على صعيد ديمومة الركوب المجاني الموجب positive free riders نفسه. فاعتماد اعضاء اوبك في اتفاق نيسان ٢٠٢٠ على التقيّد بكميات خفض انتاج تعادل ١٠ ملايين برميل يأتي لاستعادة التوازن في الاسواق النفطية كلها في نهاية الصيف كما نوهنا آنفاً والسير مجددا بتماسك قواعد اللعبة التعاونية للكارتل النفطي للأوبك. فالاتفاق بجوهره هو بمثابة عودة طبيعية في آليات الركوب المجاني الموجب للسوق النفطية (من خارج الاوبك) والتي ستنتفع من حصص الاوبك المقتطعة المُعدلة للسعر ليصبح جميع المنتجين عند نقطة توازن تعاونية موحدة في اللعبة السعرية دون ان يقُدم أحد على اغراق الاسواق بمفرده، وعد ذلك درساً بليغاً في تحول سلوك المتعاطين في السوق النفطية ازاء الاضطراب الكبير الذي شهدته اسواق الطاقة في ربيع ٢٠٢٠ وتدرج استقراره حتى الصيف الساخن.
وبهذا ستنقلب اسواق النفط من الركوب المجاني (السالب) الى الركوب المجاني (الموجب) من دون استغلال او طيش باتجاه ممارسة اغراق السوق بالنفط بكميات تنافسية غير مرغوبة. اذ سيخضع الجميع الى إطار لعبة تعاونية شاملة لأوبك وغيرها من المنتجين الاخرين، دون تربص ومنافسة قاتلة طالما سيبحر الجميع رابحاً بمركب الاسعار الجديد.
ختاماً، بمكن القول انه في إطار اللعبة التعاونية الجديدة لاتفاق اعضاء الاوبك فان الاسواق النفطية جميعها (سواء داخل دول منظمة اوبك او خارجها) ستتمتع بريوع نفطية مجزية تفوق نقطة التعادل لديها (مهما اختلفت كلف انتاج النفوط في مناطق العالم). وستبلغ جميعها نقطة التوازن الموحدة، وهي النقطة الاقرب الى (توازن ناش Nash equilibrium). فتوازن ناش سيمثل لحالة السوق النفطية الوضع الذي لا يمكن لاي طرف منتج من أطراف سوق النفط، بما فيهم الراكبون المجانييون، ان يحصلوا على مكاسب او ريوع نفطية اضافية لوحدهم، بمجرد تغيير استراتيجية السوق بمفردهم وبقاء استراتيجيات المنتجين الاخرين على حالها. وسيختفي هنا الركوب المجاني وسيختفي بعد ان يتحول بالغالب من مظاهره (السالبة او الموجبة) الى ظاهرة جديدة هي الركوب المجاني الصفري Zero free riding طالما ستتمسك الاسواق النفطية جميعها بمبادئ اللعبة التعاونية الجديدة للأوبك.
(*) باحث وكاتب اقتصادي ومستشار مالي للحكومة العراقية
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة إلى المصدر. 11 نيسان 2020
أنقر على الرابط التالي لتحميل ملف بي دي أف
أوبك والركوب المجاني الصفري-نهائي
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية