التلقين آفة غزت مناهج التدريس، فلم يعد للاستاذ دور إلا النقل الآلي للمعلومات سواء عن طريق الالقاء او الكتابة على السبورة، وهو مصيدة للطالب من ناحية جعله سلبيا اثناء الدرس، وحضوره الدرس لا يزيد ولا ينقص ولا يضيف جديدا على ما يوفره الكتاب المدرسي لغرض الحصول على اعلى الدرجات في الامتحانات (1). لقد لعب التلقين والحفظ دورا أساسيا في بناء المناهج منذ تأسيس المدرسة الحديثة والتي تمثلت تاريخيا بالمقرر الدراسي الذي يجب على الطالب تعلمه مما ادى الى التركيز على كمية المعلومات التي يتضمنها الكتاب التدريسي من دون مراعاة الاهداف ومخارج التعلم للمادة التعليمية ، وبعدم مراعاة عمر الطالب، وباعتبار المدرس هو الحجر الاساسي والتلميذ المتلقي السلبي في العملية التعليمية فأصبحت العملية التعليمية، سواء في المدرسة او الجامعة عبارة عن تلقين المعلومات تلقينا اعمى غير واع، وقيام الامتحانات على تذكر المعلومات واجترارها.
وفي مقابل التلقين يعتبر التفكير النقدي بديلا للكسل العقلي الذي يسببه التلقين، ويُعرّف بكونه القدرة على تحليل الطريقة التي نفكر بها، وتقديم الأدلة على الأفكار، بدلا من مجرد قبول المنطق الشخصي كدليل كاف (2). ويمكن الحصول على العديد من الفوائد كنتيجة لاتقان مهارات التفكير النقدي، مثل التحكم بشكل أفضل بوسائل التعلم والاتصال الخاصة بنا لأجل التعرف على وجهات النظر الأخرى.
التفكير النقدي هو، باختصار، توجيه ذاتي، وانضباط ذاتي، ومراقبة ذاتية، وتفكير تصحيحي ذاتي (3). وهو يفترض مسبقا موافقة على معايير صارمة للتمييز، وإرادة واعية لاستخدامها. وهو ينطوي على التواصل الفعال وقدرات حل المشاكل والالتزام للتغلب على النزعات الذاتية والتسلطية.
السؤال الذي احب طرحه هنا هو: ما هو الوضع الحالي للتفكير النقدي في التعليم العالي العراقي؟
للأسف، تظهر المشاهدات ثلاث حقائق مزعجة، لكنها بالكاد تكون جديدة:
- يفتقر معظم أعضاء هيئة التدريس بالجامعات وعلى جميع المستويات إلى مفهوم جوهري للتفكير النقدي.
- لا يدرك معظم أعضاء هيئة التدريس أنهم يفتقرون إلى مفهوم جوهري للتفكير النقدي، ويعتقدون أنه ليس مهما طالما “يفهم” الطلاب الدرس.
- المحاضرة، والحفظ عن ظهر قلب، وعادات التذكر قصيرة المدى لا تزال هي القاعدة في التدريس الجامعي والتعلم اليوم.
تمثل هذه الحقائق الثلاثة مجتمعةً عقبات خطيرة أمام الإصلاح المؤسساتي الأساسي وطويل المدى، فلا يمكن تبديل طرق التدريس الا عندما تستند اهداف ومخارج التعلم والاختبارات على تحقيق مضامين التفكير النقدي وسيتم تحقيق ذلك فقط عندما يدرك المسؤولون وأعضاء هيئة التدريس طبيعة ومضمون وقوة مفهوم التفكير النقدي، وكذلك عند اكتساب نظرة ثاقبة إلى السلبيات والآثار المترتبة على فقدانه، ويبقى السؤال المهم بدون إجابة وهو هل هم قادرون على تحقيق اصلاح اكاديمي فعال. فعندما يكون لدى أعضاء هيئة التدريس فكرة غامضة عن التفكير النقدي، أو اختزاله إلى نموذج تخصص واحد (كما هو الحال في تدريس التفكير النقدي من خلال نموذج “المنطق” أو “مهارات الدراسة”)، فإنه يعوق قدرتهم على تبديل طرق تدريسهم، أو الى زيادة ممارسات التدريس والتعلم الفعالة.
تؤكد الجامعات العالمية على أهمية التفكير النقدي خصوصا الجامعات الامريكية باعتباره محور التعلم، والواقع ان التفكير النقدي اصبح في نواح عديدة مرادفا للتعليم العالي ونجد هذا التأكيد في اعلانات الجامعات وفي صفحاتها الالكترونية. وادناه عينة صغيرة من الأهداف والرسائل توضح هذا التأكيد على أهمية التفكير النقدي كما هو معلن عليها من قبل الجامعات:
“تسعى الجامعة إلى تعزيز في طلابها المراقبة الدقيقة والتفكير النقدي والإبداع والتأمل الأخلاقي والتعبير الحر”. (Fordham University)
“تعزز الجامعة الاستفسار الفكري والتفكير النقدي، وإعداد الخريجين الذين سيكونون قادة فعالين ..”.
(Towson University)
“توفر الكلية للطلاب المعرفة ومهارات التفكير النقدي والخبرة الإبداعية التي يحتاجونها للتنقل في بيئة عالمية معقدة”. (College of Liberal Arts, University of Nevada)
في عام 2006، صُنف تقرير رئيسي صادر عن اتحاد يضم أكثر من 400 صاحب عمل في الولايات المتحدة “التفكير النقدي” باعتباره أكثر المهارات المرغوبة لدى أصحاب العمل الجدد. وقد احتل مرتبة أعلى من مهارات “الابتكار” و “تطبيق تكنولوجيا المعلومات”. ومن المثير للدهشة أن 92.1٪ اعتبروا التفكير النقدي مهماً، لكن 69.6٪ من أصحاب العمل اعتبروا طلبة المدارس العليا “ضعيفاً” في هذه المهارة الأساسية. واليوم يدرك أصحاب العمل بشكل متزايد أن ما هو مطلوب في الخريجين ليس الكثير من المعرفة التقنية والمهنية، ولكن المهارات التطبيقية، وخاصة مهارات التفكير النقدي. ويقال أن هذه المهارات مهمة أيضاً داخل الشركات نفسها باعتبارها محركات لفهم الموظفين وصنع القرار.
يطرح كل من كرستين فيردي وجون فيردي (4) خطوات عملية يمكن اعتمادها لمساعدة الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي، والتي يمكن تطبيقها في الجامعات العراقية، تستند كل من المهام على الرغبة في تعزيز بعدين من السلوك العلمي الذي يعتقدان أنه أمر حاسم في التفكير النقدي: استعداد للتساؤل والتحقيق والتشكيك، بدلا من قبول الأفكار والأساليب والبيانات من الآخرين. في المقررات التي تؤكد على التفكير النقدي، يجب أن يكون الطلاب على بيّنة من أن المواقف والمهارات يمكن تطويرها على حد سواء من خلال التفكير الذاتي والتفاعل مع غيرهم من الطلاب.
هناك العديد من الطرق التي يمكن بها تكييف المناهج والمقررات مع متطلبات مختلف الظروف التعليمية. على سبيل المثال يقدم للطالب مقالة او كتابا او فصلا في كتاب او فيديو ويطلب منه ان يحللها نقديا. كما يمكن للطالب تعلم الوصول إلى استنتاج خاص من خلال إعداد موقفه الشخصي على قضية مثيرة للجدل في احدى مواضيع المقرر. وينبغي أن تكون ورقة تحليل الطالب جزءا رئيسيا من العمل في المقرر. والطريقة الاخرى لتشجيع التفكير النقدي هي السيمنارات النقدية. هذه السيمنارات قد تكون حول أفكار او نتائج من مقالة مختارة من مجلة علمية (والتي يجب على الطالب الدفاع عنها أو مهاجمتها). ويشدد المؤلفون على أنه عند تصميم مواضيع التعلم لتعزيز التفكير النقدي، ينبغي للمرء أن يسعى إلى الطرق التي تمكّن الطلاب من ممارسة التفكير النقدي بدلا من مجرد مراقبة ذلك.
مصادر:
1- الربيعي، محمد (2015) مأساة التلقين والحفظ في نظام التعليم العراقي. جريدة المدى، عدد 3516
2- Critical Thinking – Training Materials – corporatetrainingmaterials.com
https://corporatetrainingmaterials.com/course/Critical_Thinking
3- Doane University. Benefits of critical thinking. Website: http://www.doane.edu/facstaff/resources/cetl-home/31812
4- Furedy C. and Furedy J. J. (1983) Ways to promote critical thinking in higher education. The Higher Education Research and Development Society of Australasia NEWS, Vol. 5, no. 1
(*) برفسور في جامعة دبلن وخبير في قضايا العلوم والتكنلوجيا والتعليم العالي
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 28 تموز 2020
http://iraqieconomists.net/ar/
شكرا لك استاذ فاروق لاشارتك الى اراء غستاف لوبون حول التربية واستذكار المعلومات. لقد اشرت الى هذه الاراء في مقالة سابقة حول موضوع التلقين والاجترار. يؤكد لوبون على ان المعارف التي يحفظها الطلاب ويرددوها كثيرا ليسجلوها على ورقة الامتحان سرعان ما ينسوها وتتبخر من عقولهم فور الانتهاء من الامتحان. هذا كان رأي لوبون حول نظام التربية الفرنسي قبل حوالي قرن من الزمان والذي يوضح بجلاء المشاكل التي يعانيها نظامنا التربوي في الوقت الحاضر والذي يختزل الذكاء الى مجرد مقياس لدرجة حفظ وترديد المعارف وتسميتها وتعديدها. مع التقدير والاحترام.
الاستاذ الفاضل الدكتور محمد الربيعي
اود ان اقتبس هنا مقطع من مقال السيد يوسف بن عبد العزيز ابا الخيل الموسوم ب( الية التلقين والحفظ وتاثيرها السلبي على مخرجات التعليم حيث يشير الى ان ( موءسس علم نفسية الجماهير غوستاف لوبون – توفي عام ١٩٣١ خصص فصلا خاصا في كتابه الراءع سيكولوجية الجماهير للحديث عن دور التربية والتعليم في تشكيل عقاءد الجماهير واراءها وقال في نهايته ( فالتعليم الذي يقدم لشبيبة بلد ما يتيح لنا ان نستشرف مصير هذا البلد و مستقبله )
ويقول لوبون ( ان الخطر الاول لهذه التربية ارتكازها على خطاء نفسي اساسا مفاده ان استذكار الكتب المدرسية تطور الذكاء او تجعله يتفتح و بناء على ذلك يجهد الطلاب في حفظ اكبر قدر من المواد والمعلومات واختزانها و هكذا نجد الشباب ما نفك منذ الابتداءية و حتى الدكتوراه يبتلع الكتب بدون ان يشغل عقله او رايه الشخصي فالتعليم بالنسبة له يتمثل في الحفظ والطاعة )
تعليقكم ان رايتم ذلك مناسبا
مع التقدير