الازمات المالية والاقتصادية الدوليةالرئيسية

هانز كونداني * وسيمون تيلفورد**: يجب التخلي عن الهيمنة النقدية ***

تقديم وترجمة حامد فضل الله / برلين

هل يلمع الدولار حقًا مثل الذهب؟

اشتكى  وزير المالية الفرنسي آنذاك فاليري جيسكار ديستان في الستينيات من القرن الماضي، من أن هيمنة الدولار الأمريكي أعطت الولايات المتحدة “الامتياز الباهظ” المتمثل في قدرتها على اقتراض أموال رخيصة من بقية العالم والعيش بما يتجاوز إمكانياتها. تم التعبير، منذ ذلك الحين مراراً وتكراراً، عن هذا النقد من قبل حلفاء ومعارضي الولايات المتحدة. لكن “الامتياز الباهظ” يرتبط أيضًا بالأعباء الباهظة على المنافسة الدولية والتوظيف في الولايات المتحدة، التي تزداد قوة وتزعزع الاستقرار الآن، مع تقلص حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي. تعود مزايا أولوية الدولار في المقام الأول على المؤسسات المالية والشركات الكبرى،  بينما يتحمل العاملون الأضرار إلى حد كبير. تهدد هيمنة الدولار بزيادة عدم المساواة وتفاقم الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة.

ولكن هيمنة الدولار ليست مضمونة بالمطلق. لقد حذر محللون منذ سنوات، من أن الصين وقوى عظمى أخرى قد تقرر التخلي عن الدولار لأسباب اقتصادية أو استراتيجية وتنويع احتياطياتها من العملات. لكن ليس هناك ما يشير في الوقت الحالي، إلى أن الطلب العالمي على الدولار سوف يمكن أن ينضب. ومع ذلك، يمكن أن تفشل الولايات المتحدة كمصدر للعملة الاحتياطية المهيمنة في العالم: نظرًا لأن هيمنة الدولار الأمريكي تكلف البلاد ثمناً باهظاً: اقتصاديًا وسياسيًا، فيمكنها بذلك التخلي عنها طواعية.

بعد أن ألغت الولايات المتحدة بالفعل العديد من الالتزامات المتعددة الأطراف والسياسة الأمنية في عهد الرئيس دونالد ترامب، يناقش الخبراء في العلاقات الدولية، ما إذا كانت البلاد على وشك التخلي عن تفوقها الاستراتيجي. وهذا سوف يشمل هيمنة الدولار. لا تريد أجزاء كبيرة من العالم استمرار الضمانات الأمنية للولايات المتحدة فحسب،  بل تريد الدولار كعملة احتياطية أيضاً. ومع ذلك، قد تصل واشنطن إلى النتيجة، بأنها لم تعد قادرة على تحمل التكاليف. أن مثل هذا القرار، الذي تمت ببساطة مذهلة، مناقشته في الأوساط السياسية،  يمكن أن يفيد الولايات المتحدة وبقية العالم في نهاية المطاف.

نظرًا لأن هيمنة الدولار الأمريكي مكلفة اقتصاديًا وسياسيًا للولايات المتحدة، يمكنها الاستغناء عنها طواعية.

تعتمد قوة الدولار على الطلب العالمي. يتدفق رأس المال الأجنبي إلى الولايات المتحدة لأن المال آمن هناك، كما ليس هناك بدائل أخرى. تدفقات رأس المال هذه تتجاوز بكثير الموارد اللازمة لتمويل التجارة وتخلق عجزاً كبيراً في الحساب الجاري للولايات المتحدة. الولايات المتحدة لا تعيش بما يتجاوز إمكانياتها فحسب، بل هي موطن لرأس المال الفائض في العالم.

تؤثر هيمنة الدولار على توزيع الدخل محلياً، مما يخلق رابحين وخاسرين داخل الولايات المتحدة. الرابحون الرئيسيون هي البنوك، التي تتوسط برؤوس الأموال المتدفقة، وتمارس تأثيرًا قويًا على السياسة الاقتصادية الأمريكية. الخاسرون هي الشركات الصناعية والعاملين فيها: يؤدي الطلب الكبير على العملة إلى ارتفاع سعر الدولار،  وتصبح الصادرات الأمريكية أكثر تكلفة ويقل الطلب عليها في الخارج، مما يعني فقدان الإيرادات وفقدان أماكن العمل في قطاع التصنيع.

هذه العواقب السلبية واضحة بشكل خاص في الولايات المتأرجحة، حيث ينتخب الناخبون أحيانًا الجمهوريين وأحيانًا الديمقراطيين، خاصة في المناطق الصناعية القديمة مثل حزام الصدأ (1) هناك يقومون بتكثيف الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية والاستقطاب السياسي. حيث يتم نقل اماكن العمل الصناعية، التي كانت تدعم اقتصادات هذه المناطق، تاركة وراءها الفقر والغضب. لذلك لا عجب، بأن العديد من الولايات الأكثر تضررا صوتت لصالح ترامب في عام 2016 .

من المرجح أن تتكثف في المستقبل العواقب السلبية لتدفقات رأس المال الكبيرة إلى الولايات المتحدة وتؤدي إلى زعزعة استقرار البلاد بشكل متزايد. مع استمرار الصين والاقتصادات الناشئة الأخرى في النمو، واستمرار تقلص حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، ستزداد تدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة بما لا يتناسب مع الناتج الاقتصادي. ويؤدي هذا إلى تكثيف صراعات التوزيع الناجمة عن هيمنة الدولار، وسيستفيد الوسطاء الماليون على حساب القاعدة الصناعية. من المرجح أن تزداد التوترات في السياسة الأمريكية.

إن الضغط الاقتصادي والسياسي المتزايد نتيجة المبالغة في تقدير قيمة العملة وما يرتبط بها من تراجع التصنيع سيجعل من الصعب على الولايات المتحدة أن تحقق نمو أكثر توازناً وإنصافاً، ومع الحفاظ في الوقت نفسه على مكانتها باعتبارها العنوان الأول لفائض رأس المال في العالم. كما يمكن أن تأتي نقطة، حيث لا خيار أمام الأمريكيين سوى خفض واردات رأس المال لصالح الاقتصاد ككل، حتى لو كان ذلك يعني، بأن الدولار يفقد مكانته كعملة احتياطية مهيمنة في العالم.

من المرجح أن تتكثف العواقب السلبية لتدفقات رأس المال الكبيرة إلى الولايات المتحدة في المستقبل وتؤدي إلى زعزعة استقرار البلاد بشكل متزايد.

لن تكون الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تتخلى عن هيمنتها النقدية. كانت بريطانيا العظمى من منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، الدائن الأكثر أهمية في العالم، وكانت التجارة الدولية تتم في الغالب بالجنيه الإسترليني. كانت قيمة النقود تعتمد، في ذلك الوقت، على ما يسمى بمعيار الذهب: كانت بريطانيا العظمى تمتلك أكبر احتياطي من الذهب في العالم، بينما احتفظت الدول الأخرى باحتياطياتها من الذهب أو الجنيه الاسترليني.

ضعف الاقتصاد البريطاني، في النصف الأول من القرن العشرين، وأصبحت الصادرات أقل تنافسية. وبسبب تمسك البريطانيين بمعيار الذهب كان هناك عجز تجاري، وتم تحويل الذهب إلى الخارج، وبالتالي انخفضت كمية الأموال المتداولة وانخفضت كذلك الأسعار المحلية. علقت بريطانيا العظمى، مثل العديد من البلدان الأخرى، المعيار الذهبي خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن عندما انتهت الحرب، تحولت البلاد إلى أمة مدينة، وحلت مكانها الولايات المتحدة، التي جمعت احتياطيات هائلة من الذهب، كدائن رئيسي في العالم.

عادت بريطانيا العظمى إلى معيار الذهب في عام 1925، وإن كان ذلك مع انخفاض كبير في الاحتياطيات وسعر الصرف في فترة ما قبل الحرب، بحيث تم المبالغة في تقدير قيمة الجنيه الإسترليني بشكل كبير. استمرت الصادرات البريطانية في الأداء الضعيف، وتقلصت مخزونات الذهب المتبقية، واضطرت البلاد إلى خفض الأجور والأسعار. انخفضت القدرة التنافسية الصناعية، وارتفعت البطالة، مما أدى إلى الاضطرابات الاجتماعية. تخلت المملكة المتحدة في عام 1931، أخيرًا عن معيار الذهب ومعه انتهت هيمنة الإسترليني.

وصف  وزير المستعمرات آنذاك، جوزيف تشامبرلين، في عام 1902  المملكة المتحدة بأنها “عملاق منهك”. يناسب هذا المصطلح اليوم، بشكل جيد الولايات المتحدة، التي تتقلص قوتها الاقتصادية مقارنة بالدول الأخرى، وخاصة الصين. يناقش الخبراء في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية حاليًا، درجة ومدى تراجع الولايات المتحدة، وعن إمكانية وجود عالم “ما بعد أمريكا”. يقول البعض، بان الولايات المتحدة في عهد ترامب تخلت عن عمد عن مشروع “الهيمنة الليبرالية”، على سبيل المثال من خلال التشكيك في التزاماتها الأمنية. ويرى آخرون، بأن انسحاب الولايات المتحدة من الهيمنة على أنه جزء من انكماش هيكلي طويل الأمد. يفتح كلا السيناريوهين إمكانية أن تتبع الولايات المتحدة المسيرة ذاتها التي مرَّت بها بريطانية، أي امكانية التخلي طواعية عن هيمنتها النقدية. ومن المستغرب لم تتم حتى الآن مناقشة، ما إذا كان هذا ممكناً، وكيف يمكن أن يحدث.

يعتبر الدولار حاليا أكثر هيمنة من أي وقت مضى. على الرغم من انزلاق الاقتصاد الأمريكي إلى حالة ركود وفقدان ملايين الوظائف، كما ازداد الطلب على الدولار، تماماً كما حدث بعد الأزمة المالية لعام 2008. وقد باع المستثمرون الأجانب سندات الخزانة الأمريكية على نطاق واسع في مارس واستبدلوها بالدولار الأمريكي. وقام البنك الاحتياطي الفيدرالي بضخ تريليونات الدولارات في الاقتصاد العالمي لمنع انهيار الأسواق المالية الدولية، وقام بتوسيع اتفاقيات المبادلة مع البنوك المركزية الأخرى التي استخدمها في عام 2008. على الرغم من أن الإدارة السيئة لحكومة ترامب لوباء الكورونا، التي عززت الانطباع بأن الولايات المتحدة كانت في حالة تدهور، فإن تصرفات الاحتياطي الفيدرالي وسلوك المستثمرين في جميع أنحاء العالم، تؤكد استمرار أهمية الدولار في اقتصاد العالم.

لا يبدو هذا الأمر واضحاً تماماً، بالنسبة للولايات المتحدة. سيستمر تدفق رأس المال في إلحاق الضرر بالصناعة الأمريكية، وسيؤدي الركود الناجم عن الوباء إلى تفاقم المشاكل التي تواجه العاملين. لإزالة الضغوط الاقتصادية والسياسية المتزايدة من مناطق مثل حزام الصدأ، يجب على الولايات المتحدة النظر في اتخاذ تدابير للحد من واردات رأس المال. قد يكون أحد الاحتمالات هو إعطاء الاقتصاد العالمي دولارات أقل لرفع العملة إلى مستوى عالٍ لدرجة أن المستثمرين الأجانب يخشون من شرائها. ونتيجة لذلك، ستفقد التجارة الأمريكية المزيد من القدرة التنافسية وزيادة انخفاض التضخم، والذي هو بالفعل منخفض للغاية.

لا يوجد بديل واضح لضمان عملة احتياطية مهيمنة عالميًا.

كما يمكن للولايات المتحدة أن تطالب قوى عظمى مثل الصين والاتحاد الأوروبي، التي تدعو إلى إضعاف الدولار كعملة احتياطية، بتقديم البديل. ومع ذلك، لا يوجد بديل واضح لضمان عملة احتياطية مهيمنة عالميًا. لكي يتحرك رأس المال بحرية في الصين، على سبيل المثال، يجب أولاً إعادة هيكلة اقتصاد البلاد بشكل أساسي في عملية معقدة سياسيًا. وكذلك لا يمكن أن تتدخل منطقة اليورو أيضا، طالما أنها تعتمد على النمو الموجه للتصدير وما يقابله من تصدير لرأس المال. ومع ذلك، فإن عدم وجود خلف واضح لا يجب بالضرورة أن يمنع الولايات المتحدة من التخلي عن هيمنة الدولار.

يمكن للولايات المتحدة أن تعاقب استثمارات المضاربة قصيرة الأجل من الخارج برسوم أو ضريبة، كما يمكنها أعفاء الاستثمارات طويلة الأجل من الضرائب. مثل هذه الاستراتيجية تعالج الاختلال التجاري من الأساس، عن طريق تقليل تدفقات رأس المال (بينما تعالج الحواجز التجارية الأعراض وليس الأسباب). وبهذه الطريقة يمكن أيضًا الحد من الاستياء ضد التجارة الحرة والأرباح غير المنتجة اقتصاديًا للمؤسسات المالية.

أما السيناريو المتفائل، يتوجه إلى المراكز الاقتصادية الثلاثة في العالم – الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – بأن توافق على إنشاء سلة من العملات على غرار حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي، وإما تكليف صندوق النقد الدولي بالتنظيم أو بأنشاء مؤسسة دولية جديدة. ولكن من جانب المنظور المتوقع، فأن السيناريو المتشائم، هو أن التوترات – خاصة بين الصين والولايات المتحدة – تجعل التعاون مستحيلاً والصراع حول القضايا الاقتصادية أكثر احتمالاً.

حتى لو لم يتم العثور على حل مرضي، فقد يمكن أن يكون من المنطقي بالنسبة للولايات المتحدة أن تتخلى من جانب واحد عن هيمنة الدولار. ستضطر الصين ومنطقة اليورو إلى استخدام مدخراتهما الفائضة في الداخل، وتحقيقاً لهذه الغاية، هو إصلاح نماذجهما الاقتصادية لتحقيق نمو أكثر توازناً وإنصافاً. وهذا من شأنه أن يحد من الأرباح المفرطة للوسطاء الماليين الأمريكيين أيضاً،  بينما سيستفيد العمال الأمريكيون، إذا انخفض الدولار وأصبحت الصادرات الأمريكية أكثر تنافسية. إن التخلي عن هيمنة الدولار يمكن أن يمهد الطريق لاقتصاد أكثر استقراراً وعدالةً في الولايات المتحدة وفي العالم.

  • حزام الصدأ، المعروف سابقًا باسم حزام التصنيع، يشير إلى أقدم وأكبر منطقة صناعية سابقة في الولايات المتحدة.

(*) هانز كوندني Hans Kundnani زميل أبحاث أول في تشاتام هاوس بلندن و زميل أول سابق عبر الأطلسي في البرنامج الأوروبي لصندوق مارشال الألماني في برلين. كما عمل سابقا  كمدير أبحاث في المجلس الأوروبي  للعلاقات الخارجية.

(**) سيمون تيلفورد Simon Tilford خبير اقتصادي في منتدى مبادرة برلين من أجل اقتصاد جديد. ويرأس هناك قسم البحوث والإدارة

(***) المقال صدر باللغة الانجليزية وقامت أنا إميرت  بترجمته إلى الألمانية، تمت المراجعة من النص المتُرجم.

Aus dem Englischen von Anne Emmert , published in Foreign Affairs

 

Hans Kundani, Simon Tilford, monetäre Hegemonie verzichten sollten, internationale

Politik und Gesellschaft, 07. 08. 2020

حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 15 آب / اغسطس 2020

لتحميل ملف بي دي أف انقر على الرابط التالي

يجب التخلي عن الهيمنة النقدية – هانز كونداني و سيمون تيلفورد

 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: