الرئيسيةدراسات اجتماعية وثقافية

الدكتور كاظم حبيب *: كتاب “لمحات من عراق القرن العشرين” الاجزاء 5 – 11

المقدمة

لا يسعى الباحث عبر هذا الكتاب إلى تقديم دراسة تاريخية مفصلة ودقيقة عن مراحل تطور العراق منذ العصر الأموي فالعصر العباسي ومرورا بالدويلات التي أعقبت سقوط الدولة العباسية بعد الغزو المغولي للعراق في عام 1258 ميلادية . كما أنه لا يطمح إلى تغطية أحداث ومراحل تطور العراق في العهد العثماني منذ احتلال العراق في عام 1534م ، ثم مرورا بعهد المماليك ، وسقوطه في عام 1832 وبدء الاحتلال الثاني للعراق من جانب الدولة العثمانية ، الذي دام حتى الحرب العالمية الأولى ، وانتهى باندحار القوات العثمانية أمام القوات البريطانية في العراق واحتلال بغداد في عام 1917 وخسارتها لبقية مستعمراتها في الحرب عموما في عام 1918 . كما لا يسعى الباحث إلى الدخول في تفاصيل الاحتلال العسكري والهيمنة الاقتصادية والسياسية لبريطانيا العظمى على العراق مرورا ببدء نضال الشعب العراقي ضد هذه الهيمنة ومن أجل تحقيق الاستقلال والسيادة وإقامة دولته الوطنية الحديثة ، بعد أن تبرأت بريطانيا من وعودها وتراجعت عن التزاماتها والاتفاقات التي عقدتها حينذاك ، في حين التزمت باتفاقيات دولية سرية استعمارية كانت قد وقعت عليها مع حلفائها وكانت في غير صالح شعوب المنطقة على المدى القصير والبعيد ، ومنها الشعب العراقي بمكوناته القومية . وليس من أهداف الكتاب الخوض في تفاصيل هذا النضال الذي انتهى بإقامة النظام الملكي وتنصيب فيصل الأول بن الحسين ، شريف مكة ، ملكا على العراق بحدوده التقريبية الراهنة التي ثبتت على وفق قرارات مجلس عصبة الأمم في العام 1926 ، أو البحث في تفاصيل العهد الجمهوري الراهن بفتراته ومراحله المختلفة ، إذ توجد هناك دراسات تاريخية كثيرة تبحث بتفصيل في هذه الفترات من تاريخ العراق ودراسات أخرى ستكتب لاحقاً . كما يصعب على باحث واحد أو مجموعة صغيرة من الباحثين النهوض والإيفاء بمتطلبات البحث العلمي والكتابة المدققة عن فترة مديدة ومليئة بالأحداث التاريخية والحضارية أو حتى الانقطاعات الحضارية التي عرفها العراق . فالبحث في مثل هذه المهمة الطموحة والمعقدة يستوجب تضافر جهود فريق عمل كبير متخصص في شؤون العراق وفي مختلف مجالات العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية والثقافية والنفسية والبيئية . . .الخ على المستويين المحلي والإقليمي ، وكذلك على مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية الدولية . ولكن الباحث ، كما هو حال الغالبية العظمى من العراقيات والعراقيين ، أو غيرهم من المتتبعين لشؤون العراق الجارية والمشاركين بالحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والمتتبعين للحياة الاقتصادية في داخل البلاد وفي المنفى القسري ، قد لاحظ من خلال قراءاته لتاريخ العراق القديم والوسيط والحديث ، وبشكل خاص في العهود الأموية والعباسية والعثمانية ، ومعايشته للعقدين الأخيرين من الحكم الملكي ثم العهد الجمهوري القائم حتى الوقت الحاضر ومساهمته المتواضعة في الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية لأكثر من نصف قرن ، وجود ظواهر عديدة مشتركة ، رغم وجود بعض أوجه الاختلاف والتمايز أيضا . أي أن أحداث عراق القرن العشرين ومسيرته الصعبة والمتعرجة يمكن أن يجد الإنسان لها تفسيرا نسبيا مقبولا في تاريخ وتراث هذا البلد والشعوب التي عاشت فيه ، وكذلك في تاريخ حكامه والقوى التي فرضت نفسها عليه ، إضافة إلى العوامل الجديدة التي ساهمت وتساهم بدورها في صنع الأحداث ورسم اتجاه تطورها وتكوين الإنسان العراقي . ويفترض أن لا يُفهم التحري عن العوامل التاريخية والتقاليد والعادات والخصائص التي تكرست وترسخت عبر العهود المختلفة وفي ضمير الناس وذاكرة الفرد المجتمعية والجمعية على إنها السبب في كل ما جرى ويجري في العراق المعاصر ، أو أن ما حصل ويحصل كان وما يزال قدرا لا بد ولا مناص منه ، وبالتالي يتم تعليق كل ذلك على شماعة الماضي والأجيال السالفة وعلى الأقدار التي “لا مرد لها! .“ فما يجري اليوم في العراق هو نتاج عملية معقدة ومتشابكة بين الماضي والحاضر ، وبين الداخل والخارج ، وبين السياسة والاقتصاد ، وفي ما بين المقولتين ، ومع المجتمع . ومن هنا تأتي أيضا أهمية التوجه إلى دراسة بعض جوانب تطور العراق في الماضي وامتداداته في الحاضر واحتمالات استمرارها في المستقبل أو اتجاهات تطور العراق في المستقبل ، إذ أن مثل هذه الدراسة وغيرها ربما يمكنها أن تساهم وتساعد في فهم وتحليل وتفسير بعض العوامل الكامنة وراء مثل تلك الوجهة في تطور الأحداث الماضية والوجهة الراهنة ، ومعرفة القوى المحركة والفاعلة فيها ، إضافة إلى أن في مقدور مثل هذه الدراسات مدَّنا ، بهذا القدر أو ذاك ، ببعض أدوات وسبل مواجهتها والعمل من أجل تغيير الواقع القائم الذي يعاني منه الإنسان العراقي ، سواء أكان امرأة أم رجلا ، طفلا أم صبيا أم كان بالغا سن الرشد أم شيخا مسنا ، وبالتالي التطلع إلى المستقبل بأمل وثقة وعمل دؤوب لتغيير الواقع المعاش . 

عند دراسة كتب التاريخ التي تبحث في تفاصيل تطور العراق خلال المراحل الزمنية الطويلة ، التي تمتد إلى ما قبل دخول الإسلام للعراق أو إلى فترات المجتمعات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والكلدية أو تلك السلالات الفارسية التي حكمت العراق القديم ، أو التي أعقبت تلك الفترة ، أو منذ الفتح الإسلامي للعراق ، تواجه الباحث مجموعة من الظواهر التي يمكن اعتبارها ، بهذا القدر أو ذاك ، مشتركة ، رغم التباين في الزمان الذي يضفي عليها رداءه الخاص وملامحه المميزة ، ورغم الاختلاف في التفاصيل والأساليب والأدوات المستخدمة ، وكأن خيطاً غليظاً يمسك بها ويمتد معها عبر تاريخ العراق الطويل ، خيطاً يشتد ويقوى أو يخف ويضعف ولكنه مستمر ، غير منقطع ، وغير غائب عن أحداث العراق . وهي بهذا المعنى من الظواهر المستمرة نسبيا التي برهنت على ديمومة معينة حتى الآن ، وهي في كل الأحوال ليست دون أسباب أو عوامل أوجدتها أو ساهمت في تواصلها . كما أن العودة إلى تاريخ العراق القديم أو المنطقة التي يتشكل منها العراق بحدوده الراهنة ، أي في عهود السومريين والأكديين والبابليين ، أو في عهود الآشوريين والكلدانيين ، وتلك التي ترافقت مع عهود الميديين والگوتيين الكرد ، تؤكد وجود هذه العوامل والظواهر وفعلها في تلك المجتمعات أيضا ، إذ أن تاريخ العراق لم يبدأ بهم ، بل كانوا جزءاً من تاريخ متواصل للإنسان في هذه البقعة من العالم ، في بلاد ما بين النهرين ، بغض النظر عن قلة ما وصل إلينا أو ما اكتشف من هذا التراث الخصب حتى الآن .

ليست الظواهر التي نريد البحث في بعضها أو الكتابة عنها ذات وجهة واحدة . فأن كان البعض منها سلبياً ، فأن بعضها الآخر يعتبر من الظواهر الإيجابية التي لا تنفصل عن بنية الإنسان العراقي الفكرية والسياسية ، وعن تقاليده الاجتماعية وحياته الاقتصادية والثقافية ، ومنها الدينية ، وعن مراحل تطوره . كما إنها ليست فريدة وخاصة بالشعب العراقي ، بل يمكن التعرف على ما يماثلها أو ما يقاربها ، من الناحيتين الإيجابية والسلبية ، في مسيرات الشعوب والأقوام الأخرى في سائر أرجاء المعمورة . وليس في مقدور هذا البحث أن يتناول جميع تلك الظواهر الإيجابية والسلبية ، بل سيسعى الباحث إلى تناول البعض منها ، أي تناول تلك الظواهر التي كانت وما تزال تؤثر بقوة واستمرارية على اتجاهات تطور المجتمع العراقي وعلى المحن والمصائب التي مّر بها حتى سقوط النظام الاستبدادي في ربيع عام 2003 . عاش الشعب العراقي عقوداً طويلة في ظل نظم الاستبداد والتسلط والإرهاب ، حيث سلبته حريته وكرامته وحقوقه الأساسية .

لقد عاشت في العرق شعوب كثيرة ، سواء أكانت من أهل أصل البلاد ، أم كانت قد نزحت إليه من بلدان أو مناطق أخرى من هذا الكوكب الرحب الذي نعيش عليه . تتوفر عن البعض من تلك الشعوب معلومات كافية تشير إلى المواقع التي جاء منها والطرق التي سلكها ، في حين لا تتوفر المعلومات الكافية والدقيقة بهذا الخصوص عن البعض الآخر . ولكن الثابت حقا هو أن جميع الشعوب التي عاشت في العراق القديم والحديث ساهمت في تكوينه الراهن ، بغض النظر عن حجم ونوعية المشاركة ، ولعبت دورها في التأثير على تقاليده وعاداته وجملة مما تسمى أحيانا ومجازا خصائصه المميزة التي تتجلى في ثقافته وفي وعيه المجتمعي والجمعي وفي صورة “الأنا” التي كونها عن نفسه في مواجهة “الآخر” ، والتي تبرز في سلوكه بشكل عام وتتجلى في المنعطفات الحادة ، سلبية كانت أم إيجابية ، وبالتالي ، في مواقفه وأحكامه المسبقة إزاء “الآخر .“ وكما يبدو فأن هناك من وضع أحكاماً مسبقة وغير قليلة عن الشعب العراقي ، سواء أكانت إيجابية أم سلبية ، واقعية أم بعيدة عن الواقع ، إذ ينظر إليها على أنها من “أنا الآخر” صوب “الآخر أنا .“     

ومن ابرز تلك الظواهر المشتركة التي ساهم فيها الجميع وبجرعات مختلفة نشير إلى ما يلي:

  • لا يختلف المؤرخون والباحثون في شؤون الحضارة العراقية والبشرية في تأكيد حقيقة أن شعوب بلاد ما بين النهرين وأعالي دجلة وكردستان قد ساهمت وفي فترات مختلفة في بناء صرح الحضارة البشرية التي نعرفها اليوم وفي رفد العالم بالكثير من منجزات ومنتجات العقل البشري والعاطفة الإنسانية . ولكنه عرف أيضا انقطاعا وعدم تواصل مع حضارته . وكانت عوامل أو أسباب ذلك كثيرة ، سواء أكانت ناجمة عن كوارث طبيعية حدثت في العراق مثل الزلازل والفيضانات أو الأوبئة الفتاكة التي كانت تأتي على حضارات بأكملها وجماعات بشرية واسعة ، أم كانت بسبب حروب وقعت أو عواقب احتلال مديد أو تدمير واسع النطاق للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعمرانية… الخ . ولا تختلف الشعوب التي عاشت في العراق عن بقية شعوب العالم في هذا المضمار .
  • ولعبت حضارة العراق القديم دورا ملموسا في تطوير حضارة دولة المدينة (القبلية) والدولة المركزية (أكثر من قبيلة) وما اقترن بها من تطور في وسائل الإنتاج وزيادة حجم الإنتاج وبروز فائض فيه ، ثم نشوء الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي والمصالح المتعارضة من جهة ، وتطور موقف الإنسان من الطوطم والسحر والدين والآلهة من جهة أخرى ، وتفاعلهما معا وتأثيرهما على حياة الإنسان وعلى علاقاته المتبادلة وعلى نشوء حاجات موضوعية جديدة فرضت نفسها بحكم ذلك التطور ، ومنها: إقامة أجهزة الدولة ووضع التشريعات وتأسيس القضاء والمحاكم وفرض العقوبات وبناء السجون وما إلى ذلك . لقد كان العراق واحدا من تلك المناطق القديمة التي ساهمت شعوبها في بلورة المصالح المتباينة للمجتمع في تشريعات ما تزال تجسد طبيعة بنية تلك المجتمعات العراقية القديمة والتناقضات والصراعات التي كانت تفعل فيها واتجاهات معالجتها والنزاعات التي نشبت بسببها . وقد تجلت الكثير من تلك الأوضاع والأفكار والأوهام والصراعات على الأرض في الملاحم التي سجلها الإنسان في هذه المنطقة من العالم القديم ، ومنها ملحمة گلگامش وتلك الصراعات بين الآلهة التي كانت تجسد في حقيقة الأمر صراعات البشر على الأرض ، كما تجلت في القوانين التي صدرت عن حكام تلك العهود من تاريخ العراق ، ومنها قانون حمورابي .
  • وأذ نشأت في العراق فئات حاكمة كانت تمارس السلطة باسم الآلهة المتعددة أو باسم إله واحد ، أو باسم الله ، وكانت تمثّل بشكل ملموس الفئات المالكة لوسائل الإنتاج وتجسد مصالحها وتنفذ التشريعات والقوانين التي وضعتها لتحقيق تلك الغايات ، وكانت تمارس الظلم والاضطهاد والاستغلال ، فأن المجتمع البابلي القديم قد عرف النقيض لها أيضاً ، أي عرف بروز قوى كانت تعارض الهيمنة والتحكم والظلم والاستغلال ، سواء تم ذلك باسم آلهة متعددة أو باسم إله واحد أو باسم الله أو حتى باسم مُطالِبٍ بالحكمِ وساعٍ إليه . فمن يقرأ الشرائع التي وضعت حينذاك باسم الآلهة ، سيجد تجلي هذه الحقيقة واضحة في مقدمة بعض تلك الشرائع أو كتبت على ألواح بعد أي انقلاب أو تغيير كان يحصل في الحكم والحاكم . فالحاكم الجديد كان يسجل أنه جاء لينقذ الناس من ظلم وجبروت … إلخ الحاكم الذي سبقه ، وأنه سينشر العدل والسلام بين الناس .
  • وأعطى وجود المعارضة الفكرية والسياسية والاجتماعية إمكانيات غير قليلة لنشوء وتطور الأفكار والحوارات في المجتمع ، رغم ممارسة السلطة أساليب العنف والقسوة في مواجهة الأفكار الجديدة والمعارضة . إذ وجدت في العراق حيوية فكرية ملموسة فعلاً في أوساط المعارضة وانتعاش دائم للصراع الفكري بين اتجاهات مختلفة ناشئة عن ، ومرتبطة بالعيش في ظل ، حضارات وثقافات وأفكار متنوعة ، أو التعرف عليها من خلال الاحتكاك بها أو النقل المباشر أو غير المباشر عنها وإليها ، مصحوبة بروح من التفاعل والتسامح والتفاهم بين الناس ، في ما عدا الفترات التي كان الحكام يدفعون شعوب بلدانهم ، بأساليب وأدوات مختلفة ، إلى الصراع والتناحر لتحقيق أغراضهم الخاصة ، أو الغزو والنهب والسلب لجماعات وشعوب مجاورة وجلب الأسرى بأعداد كبيرة إلى بابل بعد كل غزو لبلاد أخرى وتعذيب ملوك تلك البلاد ، كما حصل مع يهود أورشليم والسامرة وغيرهما من المدن الفلسطينية حينذاك . وبخلاف التوجه الشعبي التسامي العام ، كان سلوك الغالبية العظمى من الحكام القدامى والخلفاء والولاة وجمهرة غير قليلة من كهنة المعابد القديمة ورجال الدين ورجال السياسة والقضاء ، إضافة إلى جمهرة من المثقفين الذين لعبوا دورا بارزا في حياة وثقافة وحضارة المجتمع ، يمارسون سياسات مناهضة لهذه التوجهات الشعبية السليمة . وعند متابعة تاريخ العراق في الفترة التي أعقبت دخول الإسلام إليه سيجد الإنسان حقيقة الصراعات التي كانت تدور في ما بين الاتجاهات الفكرية والسياسية والتيارات الدينية والمذهبية المختلفة ، ولكن بشكل خاص بين الاتجاهات السياسية في الحكم وتلك التي في المعارضة ، مع وجود اضطهاد وتعسف دائمين من جانب السلطة موجه ضد قوى المعارضة الفكرية والسياسية والدينية والمذهبية والقومية على نحو خاص . وانطلاقاً من أرضية الواقع السياسي على امتداد الفترات المنصرمة عرف الناس في بلاد الرافدين في فترة مبكرة اتجاهين فكريين بخلفية سياسية هما: فكر يمثل السلطة ويعبر عنها ويمثل مصالحها ويدافع عن استمرار وجودها في السلطة من جهة ، وفكر يمثل المعارضة بكل أطيافها من جهة أخرى ، وكان الصراع بينهما غير متوقف ، وهو ما يزال كذلك . وقد تجلى مثل هذا الصراع بين الاتجاهين الرئيسيين في الفكر الإسلامي ، بين أصحاب النقل وأصحاب العقل ، أيا كانت التسميات التي اتخذت أو أطلقت على هذين الاتجاهين في مختلف مراحل تطور الحياة الفكرية والسياسية للعراق ، حيث اصطف الفكر الأول بشكل عام مع الحكم وتصدى الفكر الثاني له . علماً بأن كلاً من هذين الاتجاهين خاضا الحوارات والصراعات والنزاعات الداخلية إلى حد الاقتتال الفعلي فيما بينهما .
  • الاستبداد العام الذي ميّز الحياة العامة للمجتمع والمصحوب بحكم فردي شمولي أو مطلق مارس فيه الحكام وبعض القوى الدينية شتى أساليب العنف والتعذيب والقتل ضد المعارضة الفكرية الدينية والاجتماعية والسياسية . وكانت المعارضة إزاء مثل هذه الأوضاع مجبرة على الدفاع عن نفسها وعلى مواجهة العنف الحكومي بالعنف أحيانا وبالسكوت والصبر وتحمل العذابات أحاناً أخرى ، بسبب مفهوم ومضمون “التقية” ، في فترات سيادة الدولة “الإسلامية” ، إذ لم تكن منفصلة عن موازين القوى القائمة . واقترنت أحيانا كثيرة بسكوت واسع من جانب جمهرة غير قليلة من القوى الدينية ، إن لم تكن قد ساهمت فيه أصلا ، إذ أن العنف الذي عرفه العراق على امتداد تاريخه الطويل ، حتى ذلك العنف الذي برز في عهود ما قبل الإسلام في العراق ، لم ينطلق من مواقع الشعب ذاته ، رغم محاولات البعض تأكيد ذلك ، بل انطلق من مواقع وصفوف الحكام والفئات المالكة لوسائل الإنتاج ، سواء أكانوا غزاة وغرباء عن بلاد ما بين النهرين أو وادي الرافدين ، أم كانوا من أبناء البلاد ذاتها ، رغم أن ظاهرة بروز الحكام الطغاة والجبابرة التي تعبر في واقع الأمر عن المحيط السياسي والاجتماعي والنفسي الذي يمكن أو يسمح بنشوء وبروز وهيمنة مثل العناصر المستبدة . إن الاستعداد للمجابهة وممارسة العنف والقسوة التي كان الشعب يلجأ إليها أحيانا غير قليلة ، كانت في الغالب الأعم ردود أفعال للسياسات التي كانت تمارسها الفئات الحاكمة ، وكانت تتجلى في انتفاضات أو هبّات شعبية أو ثورات ضد الحكام وضد الظلم والطغيان ، أو كانت بسبب تنظيم الحكام والقادة العسكريين عمليات غزو لمناطق أخرى يدعون الناس فيها إلى ممارسة أساليب السلب والنهب والاغتصاب والقتل ، أي السماح باستباحة المدن المفتوحة بقرار من الحكام الغزاة ، باعتبارها عقوبة موجهة ضد السكان بسبب مقاومتهم الشديدة للاحتلال أو لأي سبب آخر . وإذا كان حكام العراق القديم قد وضعوا تشريعات كثيرة لتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، تضمنت أحكاماً مثل الإعدام أو ممارسة التعذيب بحق الإنسان المرتكب لمخالفة معينة ضد تشريعات وقوانين البلاد ، بغض النظر عن الظلم أو القسوة التي كانت تتميز بها تلك التشريعات والقوانين ، فأن الخلفاء في العهود “الإسلامية” اللاحقة اعتمدوا بشكل خاص على إرادتهم الذاتية ورغباتهم الخاصة وأمزجتهم المتقلبة في إنزال العقوبات القاسية ، بما فيها السجن والتعذيب والقتل بحق الناس ، دون أن يشعروا بالحاجة إلى وضع التشريعات والقوانين المناسبة لفرض مثل تلك العقوبات . وغالباً ما كانت الشريعة التي وضعها العلماء المجتهدون قد وضعت من قبل هؤلاء الخلفاء على الرف وبعيداً عن التطبيق الفعلي لها . ومثل هذه الظاهرة جديرة بالانتباه ، إذ إنها كانت تعني حصول تدهور في هذا المجال ووقوع انقطاع حضاري بالقياس إلى الفترة السابقة ، أو بالقياس إلى الحضارة التي كان عليها العراق القديم . والمقارنة هنا لا تعني بأن تلك الفترات كانت ممتازة أو أفضل بكثير من حيث العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، إذ أن الحكام كانوا في تلك العهود القديمة يجدون أنفسهم أنصاف آلهة وأنصاف بشر ، وبالتالي يحق لهم التحكم في حياة البشر والتعامل معهم من علٍ . وهذا ما كانت تجسده في حقيقة الأمر ملحمة گلگامش المشهورة مثلاً ، وهي قطعة أدبية رائعة ، ولكنها تحوي فكرا يجسد مضمون تلك الرؤية المتعالية والمستبدة للحاكم ، إذ كان گلگامش يرى نفسه على نحو يختلف عن البشر الاعتيادي ، فنصفه الأول والأفضل ينحدر من الآلهة ونصفه الثاني ينحدر من طينة البشر ذاتها . وهكذا الحال مع شريعة حمورابي التي تجسد الطبيعة الطبقية الاستغلالية ذات العلاقات القائمة على العبودية في المجتمع العراقي القديم والأحكام التي قررها “إله الشمس -حمورابي” عملياً للمجتمع حينذاك . أما في عهد الخلفاء فكان هؤلاء البشر (الخلفاء والولاة أو القضاة) يجدون أنفسهم وكلاء الله على الأرض ويحكمون باسمه مباشرة وعلى البشر السمع والطاعة لا غير حتى لو نطق الحاكم بحقهم حكم الموت .

ولكن تلك الفترات شهدت أيضا مقاومة غير قليلة من بعض القوى الدينية ومحاولات جادة للخلاص من تلك الأوضاع ، سواء أكان ذلك عبر القيام بعملية تعبئة وتنظيم وتشجيع الهبَّات والانتفاضات والثورات ، أم من خلال القيام بالمناورات وتنشيط المؤامرات والانقلابات ذات المآرب المختلفة . فالصراع على السلطة لم يكن في الغالب الأعم سلميا ، بل تميز بالعنف وممارسة القوة . ومن هنا برزت ظاهرة عامة وثابتة تقريبا تجسدت في قيام الحكام بتنظيم ونشر أجهزة خاصة تقوم بالتربص ورصد أفكار وأعمال ونشاط الناس ورفع التقارير عنهم إلى المسؤولين ، والإعداد لقتلهم بطرق شتى ، وخاصة ضد أولئك الذين كان يشك في احتمال مطالبتهم بالحكم ، أو ضد العناصر والقوى المعارضة والمختلفة مع الحكام . وقد استخدمت لهذا الغرض أساليب وأدوات مختلفة بعيدة كل البعد عن الوعي بالمسؤولية إزاء الإنسان وإزاء حقه في الوجود وحريته في التعبير والنشاط ، كالقتل تحت التعذيب أو الاغتيال أو دس السم للضحية أو سمل العينين وجدع الأنف وقطع الأطراف أو الشنق حتى بعد الوفاة إمعانا في الإرهاب والتمثيل بالضحية في سبيل نشر الرعب بين الناس . وقد نظمت مجازر جماعية ضد المعارضين أو حتى ضد من يشك في ولائهم للحكام ، حتى لو كانوا من أقرب أقرباء الحكام . إذ كان أي شك بسيط كاف لنحر الضحية من أجل ، أو بحجة ، قطع دابر المنافسة أو التآمر أو التخلص من القلق الذي كان يؤرق هؤلاء الحكام . كما أن بعض الحكام ، وهم في خضم هذه الصراعات ، قد أصبحوا ضحية ذات الأساليب التي مارسوها ضد معارضيهم ولقوا حتفهم بأساليب لا إنسانية على أيدي أتباعهم أيضا . لقد أنشأ هؤلاء الحكام ومن بعدهم الخلفاء والسلاطين والولاة دولة “سرية” داخل الدولة القائمة ، دولة تابعة ومستقلة في آن واحد ، ولكنها خاضعة في كل الأحوال للفئات الحاكمة ، أو لأجزاء منها ، ولكنها مُضطهِدة في كل الأحوال وباستمرار للشعب وقوى المعارضة للحكم القائم وللبعض من أتباعها أيضاً . وإلقاء نظرة على قائمة أسماء الحكام الذين تولوا الحكم في العراق على امتداد تاريخه الطويل ، سيظهر بأن عدداً كبيراً جداً من حكام العراق ماتوا ميتة غير طبيعية بأساليب وطرق مختلفة (أنظر: ياسين ، باقر ، تاريخ العنف الدموي في العراق ، الوقائع – الدوافع والحلول ، دار الكنوز الأدبية ، بيروت ، ط 1 ، 1999 ، ص 376-387) .

  • بروز عدد كبير من الحكام والقادة العسكريين الفرديين المتطرفين في استبدادهم الشمولي وطغيانهم وفي ابتعادهم الكامل والتام عن القيم الإنسانية التي دعا لها الإسلام ، بحجة حماية الإسلام والدولة الإسلامية والقيم الإسلامية وحياة الخليفة أو “خليفة الله على الأرض .“ وإذا كان الفكر الإسلامي قد ترك حيزاً إلى التعاون والرحمة بالآخر والتسامح إزاء الفكر الآخر والدين الآخر ، على سبيل المثال لا الحصر ما جاء في سورة “الكافرون”: ” يأيها الكفرون [1] لا أعبدُ ما تَعبُدُونَ [2] ولا أنتُم عبِدونَ ما أعبُدُ [3] ولا أنا عِابدً ما عبدتُم [4] ولا أنتم عَبدُون ما أعبُدُ [5] لكُم دينُكُم ولِىَ دِينِِ [6] ” (أنظر: القرآن الكريم ، سورة الكافرون ، سورة رقم 109 ، ص 603 ، طبعة دار الجيل ، بيروت).
  • ، فأن سياسة الغالبية العظمى من الحكام ، قد اتسمت في الممارسة العملية بالقسوة وغياب الرحمة والتعصب ضد الفكر أو الدين الآخر ، وأحيانا غير قليلة إزاء الرأي الآخر ، أو بين المذاهب والطوائف المختلفة في الفكر الإسلامي ذاته ، بل يمكن القول الموثق بأن الحكام والخلفاء والسلاطين والولاة والقادة العسكريين ، مع استثناءات نادرة ، كانوا في غالب الأحيان أشد قسوة وشراسة وعدم تسامح في التعامل مع أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة ، وفق مذهب الحاكم ، بالمقارنة مع أتباع الأديان الأخرى . ويقدم القائد العسكري خالد بن الوليد منذ صدر الإسلام صورة للتعامل غير الإنساني مع سكان البلاد المفتوحة أو المحتلة . إذ تشير الكثير من الدراسات التاريخية الخاصة بتلك الفترة إلى أن خالد بن الوليد عند فتحه بلاد فارس والعراق مارس سياسة تميزت بالعنف والقسوة الدموية ، إزاء الشعوب الأخرى في معارك “الفتح” بخلاف الكثير من المبادئ التي جاء بها الإسلام ، ومنها ذبح الناس بعد الانتصار عليهم وهم أسرى وعزل ، بسبب كونهم أبدوا مقاومة شديدة ضد الفاتحين دفاعا عن أرضهم وعائلاتهم أو عن معتقداتهم الدينية .
  • وكان المجتمع في جميع تلك العهود منقسما إلى طبقات اجتماعية متباينة في ملكيتها لوسائل الإنتاج وفي حجم ثروتها ومستوى معيشتها وفي الامتيازات التي كانت تتمتع بها ، فهناك فئات اجتماعية صغيرة جدا ولكنها كانت مالكة لوسائل الإنتاج ، وخاصة الأرض ، أو مستحوذة عليها ، ومهيمنة على الريع ، فهي غنية ومتخمة تعيش على حساب كدح وبؤس وفاقة الآخرين . وهناك الفئات الاجتماعية المنتجة للثروة المادية والدخل القومي ، ولكنها منهكة وفقيرة ، إضافة إلى وجود فئات واسعة بجوارها كانت تعيش على هامش الحياة والمجتمع وفي حالة مزرية من الفاقة والبؤس والحرمان . وتشكل الفئات الفقيرة مجتمعة الغالبية العظمى من السكان . وكانت هذه الظاهرة غير منفصلة عن طبيعة علاقات الإنتاج السائدة ومستوى تطور القوى المنتجة وواقع الوعي الاجتماعي والسياسي للسكان في فترات الحكم الأموي والعباسي أو في العهد العثماني في العراق أو في الفترات التي تلت ذلك ، والتي لم تكن معزولة عن الطبيعة السياسية للحكم وادعائه الحكم باسم الدين في غالب الأحيان .
  • ومع أن الحكم الأموي الذي ساد في العراق ، ابتداءً من انفراد معاوية بالسلطة السياسية والسيطرة على القرار السياسي والتحكم غير المباشر بالقرار أو الفتوى الدينية والهيمنة على المسلمين ، قد تميز بالفصل الفعلي والعملي بين الدولة والدين ، أي بين الحاكم المطلق وبين الفقهاء من رجال الدين الذين اختصوا بشؤون الدين وتركوا شؤون الدنيا للحاكم الدنيوي ، فأن الحكم الأموي ومن بعده الحكم العباسي قد أبقيا الإسلام عنوانا كبيرا وعاما لدولتيهما ، ولكنهما في واقع الحال فصلا بين الدين والدولة إلى حدود بعيدة ، ولكنهما كانا يلعبان باستمرار دورا حاسما في رسم وتوجيه وصياغة قرارات الفقهاء لصالح الحكام ، ولم تكن تسمية الحاكم بالخليفة أو بأمير المؤمنين سوى غطاء للتأثير الواسع في الناس ومساعدا لممارسة الاستبداد والإرهاب بحرية أكبر ، إذ أن الحكم كان “ملكياً وراثياً” (خلافة وراثية) من الناحية العملية . وهكذا كان الأمر مع الحكم العثماني ، رغم أن الحكام العثمانيين تجنبوا بشكل عام إطلاق اسم خليفة على أنفسهم واكتفوا بلقب السلطان ، كما مارسه قبلهم السلاجقة في العراق ، إلا في حالة استثنائية واحدة ، باعتبارهم ليسوا من قبيلة قريش المكية ولا من العرب ، وفق المعايير التي وضعت لمن يحتل مركز الخليفة في الإسلام في العهد العباسي .
  • وسادت في هذه العهود ظاهرة التمييز إزاء الشعوب والأقوام الأخرى غير العربية ، والأديان الأخرى غير الدين الإسلامي ، سواء أكان ذلك إزاء الفرس ، أم الكرد ، أم التركمان ، أم غيرهم من الشعوب ، وسواء أكان ذلك إزاء المسيحيين ، أم اليهود ، أم الصابئة المندائيين ، أم المجوس ، أم الأيزيديين ، أم المانويين أم غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ، باعتبارهم أدنى مستوى من العرب أو من المسلمين العرب! واتخذت هذه الظاهرة صيغاً متطرفة وشرسة وأساليب زجرية عنفية في التعامل مع الآخرين ، وفيها الكثير من الغطرسة ، عندما كان الآخرون يطالبون بحقوقهم المشروعة والعادلة . لقد نشأت مشكلة حقيقية تتمثل في صورة “الأنا” عند طبقة الخاصة مقابل صورة “الآخر” من طبقة العامة ، وصورة “الأنا” العربي مقابل صورة “الآخر” غير العربي ، وصورة “الأنا” المسلم مقابل صورة “الآخر” غير المسلم . وكانت تتداخل صورة “الأنا” في مقابل تداخل صورة “الأخر” في الحالات الثلاث لتتحول إلى تمييز طبقي وأثني وديني في آن واحد ، وأصبحت المصيبة عندها كبيرة والعواقب كارثية .
  • لا شك في أن بعض فترات الحكم العباسي وفترة من فترات الحكم العثماني كانت أقل شدة في هذا الشأن وكانت العلاقات في ما بين الناس من مختلف الشعوب والأديان أكثر تسامحاً وتعاوناً ، إذ لا بد من الإشارة إلى أن بعض الحكام لم يمارس سياسات التمييز المقترنة بالشدة في الفترة الأولى من الحكم العباسي أو في سنوات حكم المأمون ، في حين أن بعضهم الآخر مارسها بقسوة بالغة ، وكذا الحال في فترات من الحكم العثماني ، كما في زمن السلطان سليمان القانوني مثلاً . ولكن سياسة التمييز بمختلف صورها كانت حاضرة دوما على امتداد فترة الحكم الأموي والحكم العباسي ، كما اتخذت أبعادا جديدة في فترة الحكم العثماني . ومع أن هذه الظاهرة السلبية التي مارسها الحكام قد وجدت تعبيرها في سلوك أفراد المجتمع ، وبهذا القدر أو ذاك ، إلا أنها مع ذلك كانت الشعوب أقل تأثراً بممارسات الحكام في قضايا التمييز الأثني والديني والمذهبي أو غير ذلك ، في ما عدا تلك الفترات التي كان الحكام أو بعض رجال الدين يؤلبون الناس ويدفعون بهم لإيذاء الآخرين وممارسة التمييز ضدهم واعدين إياهم بولوج الجنة والعيش معاً وجنباً إلى جنب مع ولدان وحور .
  • كانت ظاهرة التمييز إزاء المرأة وسلب حريتها واعتبارها أدنى مستوى من الرجل في العقل والكفاءة والحقوق والواجبات عامة وسائدة في المجتمع العراقي على امتداد قرون طويلة ، إذ كان وما يزال المجتمع في العراق يعتبر مجتمعا ذكوريا لا غير . فالمجتمع الذكوري لم يكتف باضطهاد المرأة وسلب حريتها وحقوقها وفرض السجن البيتي عليها وتوجيه الإساءات المتنوعة لها فحسب ، بل اعتبرها ماكنة لإنتاج الأطفال والمتعة الشخصية أو موضوعاً للجنس وأداة لتنظيم البيت والمطبخ ، رغم ما كان يقال “بأن المرأة كانت سيدة البيت ، وكانت أو ما تزال تمتطي زوجها كما يمتطي الفارس حصانه” ، ورغم التغيرات الكبيرة التي صاحبت المجتمع العراقي والديانات فيه عبر القرون المنصرمة . وكانت النظرة إلى المرأة سلبية باعتبار أنها أقل عقلاً من الرجل أو ناقصة العقل ، وفق ما ورد في تفسير بعض المجتهدين لما ورد في القرآن أو في موقف المسلمين منها . وكانت سياسات الخلفاء والولاة في الدول الإسلامية المتعاقبة تعبيرا صارخاً عن هذه النظرة الدونية إزاء المرأة والتي تجلت في التمييز المتعدد الجوانب ضدها وفي الاستبداد الذي أصبح قاعدة عامة في سلوك الرجل إزاء المرأة . وأصبح الحكام حينذاك “يمتلكون” عددا كبيرا جدا من الجواري والأمات والخصيان ، إلى جانب أربع زوجات سمحت بها الشريعة الإسلامية . وهذه الظاهرة ما تزال قائمة في العديد من الدول العربية ، وخاصة في تلك التي تعيش الماضي السحيق في الحاضر .

وفي ضوء هذه الملاحظات يطمح الباحث إلى إلقاء الضوء بشكل مكثف على البعض من هذه الظواهر التي يمكن أن تساهم في تحليل وتفسير نسبي لواقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية التي عاشها العراق على امتداد القرن العشرين . إنها محاولة لمعرفة الأسباب والعوامل التي كانت وما تزال تكمن وراء بروز ظواهر سلبية غير اعتيادية في حياة الشعب العراقي في المرحلة الراهنة ، أسباب بروز مستبدين وطغاة متطرفين جدا وقساة ساديين لا تعرف الرحمة أو الشفقة طريقها إلى قلوبهم وعقولهم ، ونرجسيين غلاة تتجسد فيهم الخطيئة بأقصى معانيها من أمثال الطاغية السادي والنرجسي المصاب بجنون العظمة صدام حسين الذي حكم العراق بالحديد والنار حتى يوم سقوطه ، رغم معارضة الغالبية العظمى من بنات وأبناء الشعب العراقي لمثل هذا الحكم المطلق ولمثل هذا الحاكم المستبد والبغيض . ولكنها تميزت في الوقت نفسه ، سواء أكانت بالنسبة للعراقيات والعراقيين في الداخل ، أم الذين أجبروا على الاغتراب والعيش في الشتات ، بالخصب الفكري والنشاط السياسي والمقاومة المستمرة من جانب المعارضة العراقية وجزء كبير من بنات وأبناء هذا الشعب ، لما كان يجري في الوطن ومكافحة إرهاب السلطة الفكري والسياسي والجسدي والنفسي ، ومكافحة الاضطهاد والاستغلال والحرمان والقهر الاجتماعي ، رغم الجدب الفكري والسياسي العامين والثقافة الصفراء التي قام النظام بنشرها لأكثر من ثلاثة عقود عجاف في العراق وفي العديد من البلدان العربية وبين قوى غير قليلة ، وخاصة بين الشباب . إنها محاولة لا تريد الكشف عن طبيعة النظم التي حكمت العراق خلال سنوات القرن العشرين فحسب ، بل تسعى إلى معرفة وتشخيص بعض الخصائص التي تلتقي عندها مجموعات غير قليلة من قوى المعارضة العراقية التي لا تختلف كثيرا عن الخصائص التي تميز بها النظام المقبور في العراق ، وأنها ، إن أخذت السلطة بيديها ، سوف لن تختلف كثيراً عن القوى الحاكمة أو الحاكم بأمره ، بغض النظر عن العباءة التي تحاول التبرقع بها أو الواجهة التي تتستر بها . أي أنها يمكن أن تمارس ذات السياسة التي مارسها الطاغية صدام حسين وتستخدم ذات الأساليب التي استخدمها في البقاء في الحكم والهيمنة على الشعب . إن محاولة تحصين النفس وتحصين العراقيات والعراقيين عموما وقوى المعارضة العراقية خصوصا بلقاح الحرية والديمقراطية والاعتراف بالآخر واحترامه وممارسة حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية ، بالكره الشديد والرفض الكامل للاستبداد ، والظلم ، للاستغلال والاضطهاد والإرهاب والتعسف والقتل ، وكذلك الرفض الكامل للطغاة والمستبدين وللسياسات الدكتاتورية التي يمارسونها ، والرفض الكامل للعنصرية والتمييز العنصري أو الإثني والديني والمذهبي أو القبلي أو العداء “للآخر” وإصدار الأحكام المسبقة ضده ، تعتبر أبرز مهمة من مهمات هذا البحث المتواضع الذي يسعى الباحث إلى وضعه بين أيدي القارئة العراقية والقارئ العراقي في الداخل والخارج ، وكذلك بين أيدي كل الذين اكتووا بجحيم الطاغية صدام حسين ونظام حكمه الشمولي أو جحيم الطغاة في كل مكان ، وبين أيد كل قراء العربية .

لا نأتي بجديد إن قلنا بأن ليس من وراء هؤلاء الحكام أو المعارضة المشابهة للحكام الحاليين سوى فقدان الحرية الشخصية وانتهاك الكرامة الإنسانية ، سوى الجوع والحرمان والبؤس ، سوى السجن والتعذيب والقتل ، سوى الحرب والموت . والظلم إن دام دمَّر ، كما قيل في الحكم القديمة التي ما تزال وستبقى تحتفظ بصحتها وحيويتها دوما . وفي هذا الدمار والبؤس والتعسف عاش الشعب العراقي منذ ما يزيد عن أربعة عقود ، الذي تفاقم سنة بعد أخرى ، مما أكد صحة ومصداقية هذه الحكمة القديمة . فنزيف الدم لم ينقطع والسجون لم تفرغ ، وماكنة التعذيب لم تتوقف ، والضحايا استمرت بالتساقط واتسعت دائرتها حتى يوم سقوط النظام . والمقابر الجماعية التي تكتشف في الوقت الحاضر تأكيد صارخ على ذلك . إننا سنعاني من هذه الأوضاع حتى بعد سقوط صدام حسين ونظامه الدموي ما لم نسع جميعا ، نساء ورجالا . شيبا وشبابا ، إلى مقاومة هذه الظاهرة والتصدي لها والسعي الدؤوب لاجتثاثها من المجتمع ومن عقلية السياسيين المحترفين وغيرهم ومن عقليتنا أيضاً ، ومن أجل أن نجعل من مبادئ الحرية والديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان والتعددية الفكرية والسياسية والثقافية والتداول السلمي والديمقراطي البرلماني للسلطة جزءاً من وعينا السياسي والاجتماعي الفردي والمشترك ، وجزءا من وعينا بوجودنا على هذه الأرض ، وجزءاً من حياتنا اليومية وتطورنا ومستقبل الأجيال القادمة ، وجزءاً أصيلا من أساليب وقيم تربيتنا لبنات وأبناء الأجيال الجديدة التي تولد في العراق أو في الغربة .

إن الإرهاب الذي تفجر في العراق في أعقاب سقوط النظام كان متوقعاً ، فهي جزء من تداعيات الحروب . وهي نشأت لأسباب عدة ، منها بشكل خاص:

  • الطريقة غير الطبيعة التي تم بها إسقاط النظام الدكتاتوري ، أي عبر الحرب والتدخل الخارجي وإعلان احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وموافقة مجلس الأمن الدولي على ذلك رسمياً ورفض الشعب العراقي للاحتلال ، بعد أن عجزت قوى المعارضة السياسية تغيير الدكتاتورية وتأمين المجتمع الديمقراطي للشعب بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية . ولا شك في أن قرار رفع الاحتلال عن العراق رسمياً من جانب مجلس الأمن الدولي قد اقر بضرورة تحقيق ذلك عملياً خلال الفترة القادمة ، ليتمكن العراق من أن يلعب دوره الفعال والمستقل في سياسة المنطقة بأسرها .
  • التركة الثقيلة التي خلفها النظام بعد سقوطه وأجواء القسوة التي أشاعها في المجتمع والعجز عن فهم مضامين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحدودها الفعلية .
  • الاستعدادات التي اتخذها النظام المخلوع قبل سقوطه لمواجهة القوات الأجنبية ومحاولة العودة إلى السلطة ثانية ، رغم معرفته بكره الشعب له والذي لم يدافع عنه عند الحرب ، بل كان يتمنى سقوطه والخلاص منه .
  • الإرهاب المتطرف الذي تمارسه الأحزاب السياسية الإسلامية المتطرفة التي لا تمت إلى واقعنا الرهن بصلة ، بل تعود إلى عهود غابرة لا مكان لها في القرن الحادي والعشرين ، وهي التي تقيم تحالفاً سياسياً إرهابياً مع قوى النظام الدكتاتوري وأجهزته القمعية السابقة .
  • شعور بعض القوى السياسية والدينية والمذهبية بأنها الخاسرة من سقوط النظام ، وأخرى بأنها الرابحة من ذلك السقوط ، في حين أن ليس هناك من خاسر غير قوى الإرهاب والظلام والدكتاتورية ، وأن ليس هناك من رابح غير الشعب بكل مكوناته .
  • تفاقم تدريجي للنزعة الطائفية السياسية المتطرفة لدى الأحزاب الإسلاموية السياسية المذهبية وتجليات ذلك على أعضاء ومؤيدي تلك الأحزاب وانعكاساتها السلبية على العلاقات الإنسانية في المجتمع ، والتي يمكن أن تهدد وحدة المجتمع العراقي وتطوره وتقدمه المنشود .
  • الأساليب غير العقلانية والسيئة التي مارستها قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية مع السكان وتشجيعها مسألتين سلبيتين هما الطائفية والعشائرية ، في محاولة منها للتقرب إلى الناس وتجاوز الأحزاب الوطنية التي كافحت ضد النظام المخلوع ، وسببت هذه السياسة الخرقاء في نشوء إشكاليات جديدة سيبقى يعاني منها المجتمع فترة غير قصيرة . كما أن قوات الاحتلال لم تتعامل مع الواقع العراقي سياسياً واقتصادياً ، بل عسكرياً بشكل خاص . كما ارتكبت أخطاء فادحة في التعامل مع السجناء في سجن أبو غريب أم في حالات أخرى أيضاً .
  • ولم تكن قوى المعارضة العراقية في مستوى المسؤولية والأحداث من جهة ، واندفاع بعضها ليحيي الطائفية باعتبارها ردة فعل لسياسات النظام المقبور الطائفية من جهة ثانية . وهي خطيئة كبرى بحق العراق ومستقبله المنشود .

إن سقوط النظام وفَّر أرضية صالحة فقط ، وعلينا حرث وزراعة هذه الأرض الطيبة والمعطاءة ببذور المحبة والحرية والديمقراطية والاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الكردي وبالفيدرالية والعدالة الاجتماعية ، الاعتراف بحقوق الإنسان وحقوق القوميات الأخرى وتوطيد الأمن والسلام والصداقة مع شعوب العالم ، لنحقق عبرها ما كان وما يزال يصبوا إليه هذا الشعب بمكوناته القومية وأتباع دياناته ومذاهبه الأخرى .

الكتاب الذي أضعه بين أيدي القارئات والقراء يتكون من أحد عشرة مجلداً . المجلد الأول والثاني يشكلان المدخل لدراسة أحداث القرن العشرين في العراق، في حين كرست المجلدات التسعة الباقية لتبحث في أحداث القرن العشرين .

لتحميل المجلد الخامس انقر على الرابط التالي لتحميل نسخة بي دي أف

part5

لتحميل المجلد السادس انقر على الرابط التالي لتحميل نسخة بي دي أف

part6

لتحميل المجلد السابع انقر على الرابط التالي لتحميل نسخة بي دي أف

part7

لتحميل المجلد الثامن انقر على الرابط التالي لتحميل نسخة بي دي أف

part8

لتحميل المجلد التاسع انقر على الرابط التالي لتحميل نسخة بي دي أف

part9

لتحميل المجلد العاشر انقر على الرابط التالي لتحميل نسخة بي دي أف

part10

لتحميل المجلد الحادي عشر انقر على الرابط التالي لتحميل نسخة بي دي أف

part11

 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: