أبحاث نظرية في الفكر والتاريخ الإقتصاديالرئيسية

د. أحمد إبريهي علي : عدالة التوزيع والرفاه الاجتماعي – مراجعة مختصرة

العدالة هي الحياة المثلى التي توختها الأديان والأخلاق وشغلت الفلسفة والسياسة وتاريخ كفاح البشر من أجلها، وكانت دائما ما وراء اختلاف مناهج التفكير الاقتصادي. هذه مراجعة مختصرة لأطروحات اساسية لازمت مسار التفكير الاقتصادي وإن كانت فلسفية في اصلها أو سياسية واجتماعية في مراميها. تناولت أيضا الإطار العام للتطور المؤسسي الذي عبر عن مجاراة الحكومات لمطالب العدالة الاجتماعية وممارسات دولة الرفاه. جاءت هذه المقالة لإثارة اهتمام اكاديمي عسى أن نقترب بعد جهود تتضافر من أهمية العدالة التوزيعية والتكافؤ بصفة عامة  في المجتمع وحوار الأفكار والحراك السياسي.

 

بين الوضعي والمعياري في العدالة الاجتماعية

المعرفة الاقتصادية التي اتخذت من الوقائع موضوعا لها تسمى وضعية، وهي نتاج محاولات التنظير للعمليات الاقتصادية ومنتظماتها وعلاقاتها. وقد طوّرَت قواعد محاسبة وأنظمة بيانات وادوات تحليل لاكتشاف انماط مستقرة تعبر عن حركة المتغيرات لاختبار فرضيات ونماذج مجردة لتفسير ظواهر الاقتصاد؛ وتعميق وتوسيع الوعي بمختلف ألوان النشاط البشري التي اصطلح على تسميتها اقتصادية؛ والمساعدة في ترصين الأسس الفنية لتنظيم الاقتصاد وإدارته وسياساته. والوضعية Positive  ، بهذا المضمون، قد انصرفت  لفهم الاقتصاد كما هو في واقعه العياني والتزمت، مبدئيا، مناهج محايدة في البحث مستقلة عن الانتماء الثقافي، بالمعنى الأنثروبولوجي، للباحث وتفضيلاته وتحيزاته الأيديولوجية. والوضعية في المعرفة تقابل المعيارية Normative؛ الأولى ، كما تقدم،  وصفية Descriptive تحاكي تقاليد ترسخت في ميادين العلوم الطبيعية، تسأل عن الكيف والكم في موضوعات بحثها كما هي عليه فعلا، بينما تهتم الثانية بما ينبغي أن يكون عليه العالم  What Ought to Be . غاية الوضعية التعرف على حقيقة النظام الذي تولدت عنه الوقائع المشاهدة، أو بلغة أخرى البحث عن النظام خلف الفوضى الظاهرة. وغاية المعيارية انسجام واقع الحياة مع منظومة قيم ترسم نظاما يناسبها، أو تقييم الواقع لتثبيته أو تعديله أو تغييره.

ويختلف الناس في تقييم واقع حياتهم المشتركة ومجرياتها وكذلك في مقترحاتهم لتعديلها أو تصوراتهم عن النظام البديل، لذلك لا توجد معيارية واحدة بل معياريات مختلفة، لكن التقاليد وضعتها جميعا في صنفين عريضين هما دينية ، سماوية ، Celestial ودنيوية، أو علمانية، ٍSecular . وليس ثمة تدافع او تعارض بين كل من الوضعية والمعيارية في صورتهما النقية بل هو تعاضد وتكامل: فالمعيارية لا تباشر التقييم والحكم على انطباعات وتصورات تلقائية، ولذا توظّف نتاجات المنهج الوضعي للتعرف على العالم الذي يخضع لتقييمها واختياراتها؛ كما ان المعيارية قد أثّرت في السلوك وبناء المؤسسات والبنى التي تشملها الوضعية بدراساتها. إنما التعارض والتدافع قد يحصل فيما بين المنظومات المعيارية،  ولا يقتصر على النزاع المحتمل بين الديني والدنيوي، العلماني،  بل قد تناقضت المعياريات الدنيوية إلى حد الحروب والإسراف في سفك الدماء؛ كما تنازعت معياريات دينية على مر التاريخ. نعم لا تعارض بين الوضعي والمعياري،  فالدراسة المنهجية للسلوك الإجرامي وضعية بينما منطلقات تبرير العقوبات وأحكامها معيارية من منشأ سماوي أو دنيوي، أي علماني. وعلى سبيل المثال، تحليل استجابة الطلب على النقود، أو الاستثمار، لتغيرات سعر الفائدة من مسائل الاقتصاد الوضعي ولا يعني مجرد التحليل إضفاء الشرعية على النظام المالي الربوي؛ بينما مشروعية سعر الفائدة من عدمها في نطاق الاقتصاد المعياري.

ومادام مفهوم العدالة الاجتماعية يدور حول تمكين الناس من العيش الكريم، فلا خلاف بين القيم العلمانية ، او ما اصبحت عليه دولة الرفاه المعاصرة، والدين الذي اوجب على المؤمنين الإنفاق من أموالهم لإعالة الفقراء والمحرومين، وحبّب إليهم إعانة الضعيف ونصرة المظلوم وكفالة اليتيم، والإيثار على النفس  والعطاء والتضحية في سبيل الخير، وإشاعة التراحم والمودة بين البشر؛ إلى جانب المضامين العميقة للزهد والتقشف ومنها الحد من هدر الموارد حتى يكفي القليل منها إشباع الاحتياجات الضرورية لجميع الناس، ووعَدهم الباري عز وجل عن كل ذلك بالرضا وجزيل الثواب.

لمواصلة القراءة انقر على الرباط التالي لتحميل الدراسة كملف بي دي أف

Ahmed Ibraihi Ali-Social Justice-final IEN edited

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (2)

  1. farouk younis
    farouk younis:

    في هذا المقال افكار مهمة اقتصادية و اجتماعية و مالية وثقافية عامة —
    ظن البعض بان اقتصاد السوق يعني ( عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية—)
    يهمني هنا ذكر بعض ما ورد في المقال من إشارات مهمة جدا بالنسبة للمهتمين بالشان الاقتصادي والمالية العامة بخاصة منها:
    – بدء الاهتمام بالعدالة الاجتماعية التوزيعية مع النهضة والحداثة و تعاظم نفوذها الفكري والسياسي مع الثورة الصناعية والازدهار الاقتصادي
    – الدولة المعاصرة خاصة تقوم على اعادة توزيع الموارد والدخل لان البنى التحتية والخدمات العامة تقدم للجميع دون استبعاد وهي الخاصية المتعارف عليها للسلع والخدمات العامة بينما تمول استنادا إلى اساس القدرة على الدفع سواء بتناسب الضريبة مع الدخل او تصاعدها
    – الدولة و عملياتها حلقات رءيسية في النظام الاقتصادي وهي مشاركة موءثرة في الاستثمار والإنتاج والتشغيل والتوزيع الاولي للدخل فضلا عن اعادة التوزيع الواسعة والعميقة
    – تجري اعادة التوزيع افقيا بين فءات اجتماعية بأنواعها الأسرية والسكنية واعمارها وغير ذلك وعموديا باعادة توزيع الدخل او الثروة بين اغنياء و فقراء وما بينهما
    – مع التقدم الذي احرزه اقتصاد المالية العامة لا زال التنظير لدور الدولة وعملياتها حلقات رءيسية في اعادة التوزيع الواسعة والعميقة في مزاولتها لوظاءفها التقليدية والجديدة
    وبحلول السنة الميلادية الجديدة اتمنى لاستاذي الجليل الدكتور احمد ابريهي علي العمر المديد مع التقدير

  2. Avatar
    مقدام الشيباني:

    الافكار وليس المصالح الخاصة – اجلا او عاجلا – هي التي تشكل خطورة كبيرة سواء للخير او الشر (جون مينارد كينز )
    منذ انقلاب 1958 الانقلاب الاشتراكي الذي بدأ بمذبحة قصر الرحاب والمدارس والجامعات والكليات والمعاهد تغذي عقول الناس بالكراهية والعنف تحت عنوان محاربة الاستعمار والامبريالية والمؤامرات الخارجية منذ 64 عاما والاشتراكييون يصدرون للناس انقلابات وحروب وقمع وعنف ومصادرة حرية الانسان وحقوقه الفكرية والسياسية والدينية 64 عاما شعارات فارغة اشتراكية تتحدث عن انجازات النظام الاقتصادي الاشتراكي في العراق كانت نتيجتها الدكتاتورية والمركزية والتي راح ضحيتها ملايين العراقيين 64 عاما والاشتراكيون دائما مايصنعون اعداء وهميين لمحاربتهم لينفردو في الحكم ويقدمو ابناء شعبهم قرابين لصناعة مجدهم وثروتهم 64 عاما صنعت اجيالا تؤمن بالعقلية الشمولية والادارة المركزية ولا تؤمن بالديموقراطية واللامركزية وقادة يقودون الشعب بالنار والحديد 64 عاما طغت عبارات التخوين والمؤامرة على معظم الفعاليات السياسية والاقتصادية التي تحاول تغيير حال العراق وانقاذ مايمكن انقاذة مايحصل اليوم من بؤس ومعاناة في العراق هو نتيجة طبيعية لهذه الافكار . ان الحديث عن عدالة التوزيع والرفاه الاجتماعي يبدأ من التخلص من هذه الافكار العدوانية فالاشتراكية تدعو الى ان (الدولة تضع يدها على معظم الحياة الاقتصادية للمجتمع ) اي خلق مجمع يعتمد على الدولة في حل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية دون ان يتحمل هو المسؤولية ويدوم حكم الطغاة والفاسدين بحكمهم .
    بالرجوع الى هايك وكتابه ” الطريق إلى القنانة” عام 1944 للتحذير من الاشتراكية القومية والفاشية والستالينية والاشتراكية الماركسية الواقعية معا، والتي يراها جميعها من مصدر واحد هو السيطرة الحكومية المركزية على الاقتصاد ، والتي ترفع الدولة فوق صانعي القرارات الفردية في السوق، والنتيجة الحتمية خضوع المجتمعات إلى الحكم المطلق. وهذا ماحصل فعلا في العراق بعد انقلاب 1958 وخصوصا مع بدأ عمليات التأميم ومصادرة الاراضي والمصانع وثروات التجار بحجة اعادة توزيع الثروة القرار كان في وقتها جيد للفقراء من الشعب ولكن على المستوى البعيد النتيجة ان الزراعة والصناعة متخلفة في العراق ولاتغطي حاجة الناس ومصادرة القرار السياسي والاقتصادي بيد الحكومات المركزية وانعدام الديموقراطية ومشاركة الناس بالحكم من خلال الانتخابات وصولا للحكم المطلق وجعل الناس مجرد الات تشارك في عملية الانتاج وتحقق رغبات الحكام في الولاء لهم والمشاركة في الحروب عند الحاجة ولايسمح للناس من ابداء رأيهم في اي قضية سياسية او اقتصادية لأن النتيجة معروفة انذاك وهي الموت تحت عنوان الخيانة والمؤامرة والتبعية للاجنبي .
    ان النظام الاقتصادي الاشتراكي لم يأتي الى العراق عن طريق السلم او الانتخابات او الثورة الشعبية بل اتى عن طريق انقلاب عسكري عام 1958 ولفرض الحكم المطلق للانقلابين استخدمو النظام الاقتصادي الاشتراكي مع منح المزيد من الحرية الشخصية للافراد وللتمرد على العادات والتقاليد التي كانت سائدة .
    وفي حديث ماركس (عن انهيار النظام الاقتصادي يأتي نتيجة لأنخاض معدل الربح ) انا ارى هذا طبيعي لأن كلما تدخلت الدولة في الانتاج (السلع +الخدمات) تكون كلفة الانتاج مرتفعة وبالتالي ينخفض الربح ومايدعم هذه الفكرة حديث ميلتون فريدمان الفائز بجائزة نوبل عام 1976 عن النظم الصحية التي تمولها الدولة ( النظم الصحية تعاني من نقص التمويل بمجرد تولي الحكومات التمويل ؛ وأن النظم الصحية الحكومية غير فعالة وبيروقراطية وتوفر رعاية ذات نوعية رديئة. كما أنه يشعر بالقلق من أن هذه الأنظمة تقلل من حرية الاختيار لكل من المرضى والمهنيين الصحيين من خلال إملاء كيفية تقديم الرعاية ومن يقوم به(. وذكر ايضا العديد من الخدمات التي تؤديها الحكومة يمكن أن يؤديها القطاع الخاص بشكل أفضل وفي الستينيات أصبح المدافع الرئيسي الذي يعارض سياسات الرعاية الاجتماعية الحكومية التي كانت قائمة منذ الثلاثينيات. لقد أشادت فلسفته السياسية بفضائل نظام اقتصاد السوق الحر بأقل تدخل حكومي ( خطاب ميلتون فريدمان في Mayo Clinic ، مينيسوتا ، 1978 (YouTube وهذا الحديث ايضا يشمل جميع قطاعات الانتاج في العراق وخصوصا بعد عام 2003 والموازنات الاتحادية والنفقات الكارثية التي تنفق لتقديم الخدمات للمواطنين خير دليل .
    وبالعودة الى جون مينارد كينز الذي يرى ان المسلمات التي قامت عليها النظرية الكلاسيكية لا تنطبق الا على حالة خاصة وليس على الحالة العامة . فالوضع الذي تفترضه عبارة عن نقطة معينة تستبعد الاوضاع الاخرى الممكنة للتوازن علاوة على ذلك لا تنطبق صفات الحالة الخاصة التي تفترضها النظرية الكلاسيكية على المجتمع الاقتصادي الذي نعيش فيه بالفعل وهو مايجعل لتدريسها عواقب وخيمة ومضللة لو حاولنا تطبيقها على الخبرة الواقعية ( كتابه النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود ص 61 ) ووفق تجارب الحكم الاشتراكية منذ 64 سنه الى الان ارى ان النظرية الاشتراكية لا يمكن ان تطبق في العراق الان وخصوصا بوجود العملية الديموقراطية رغم اخطائها . وان استمرار تدريس النظرية الاشتراكية في الجامعات العراقية يؤدي الى نتائج كارثية
    دستور العراق الصادر عام 2005
    لقد تضمن دستور العراق على الحقوق والحريات ومنها الحقوق المدنية والسياسية وكذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحريات وضع مواد عظيمة كفيلة لجعل الانسان قيمة عليا وكذلك حدد اختصاصات السلطات الاتحادية وسلطات الاقاليم والمحافظات التي لم تنظم لأقليم ان مواد الدستور عظيمة وخصوصا في ما يخص الحقوق الاقتصادية وتشجيع القطاع الخاص وعملية الانتقال من الاقتصاد الموجه الى الاقتصاد الحر وكذلك المواد التي تحدد اختصاص السلطات الاتحادية والاقاليم والمحافظات والادارات المحلية وشجع اللامركزية واعظم شي في هذا الدستور هو الانتخابات والديموقراطية ومشاركة الناس بالعملية السياسية من خلال الانتخابات وتشكيل الاحزاب وحكم مدنهم ومحافظاتهم من خلال مجالس المحافظات المنتخبة ومغادرة صفحة المركزية وجعل الانسان العراقي عضو في هذا المجتمع وانه يمثل قيمة عليا الا ان العقلية الشمولية التي ترسخت فيها قيم ومبادئ الاشتراكية والمركزية اجهضت مشروع اللامركزية واجهضت اي عملية انتقال الى اقتصاد السوق وبقت الحياة الاقتصادية بيد الدولة وبقيت السلطات بيد الحكومة المركزية وازدات نسبة الحرمان بين افراد المجتمع ناهيك عن الارهاب والفساد الذي اصبح ثقافة في مؤسسات الدولة وكل هذا نتيجة لعدم ايمان النخب السياسية الحاكمة بالدستور العراقي فأصبح الدستور حبر على ورق انا لا انكر الاخطاء والفساد في مجالس المحافظات لكن علينا ان لا نقلل من الاخطاء والفساد في المجالس النيابية الاتحادية والحكومات الاتحادية الذي يفوق اخطاء وفساد مجالس المحافظات بأضعاف لكن الفكرة ان السلطات الاتحادية بقيت متمسكة بمعظم الصلاحيات الادارية والمالية والقانونية وهو مااضعف الحكومات المحلية من اداء دورها بصورة صحيحة .. ان الديموقراطية والانتخابات النيابية والمحلية ليس فقط حقوق مدنية وسياسية للمجتمع بل ايضا تعني ان على المجتمع تحمل مسؤوليته في اختيار الانسب والاصلح للمجالس النيابية والمحافظات .
    الخلاصة
    مثلما الشمس والقمر ذرتان لا يجتمعان كما ان الاشتراكية ودولة الرفاه ( التوزيع العادل للثروات والحرية وكرامة الانسان والعدالة الاجتماعية ) ذرتان لا يجتمعان ابدا .
    (*) مقدام الشيباني / باحث اقتصادي / عضو جمعية الاقتصاديين العراقيين

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: