مقدمة
وصلني مؤخرًا من أحد الأصدقاء رابط كتاب أنستاس ماري الكرملي، خلاصة تاريخ العراق منذ نشوئه إلى يومنا هذا (وندسور، إنجلترا: مؤسسة هنداوي، 2020، صدرت الطبعة الأولى سنة 1919)، عدد الصفحات 174.[1] وهو كتاب ممتع وسهل القراءة، كتبه الكرملي (1866-1947) لتدريس مادة التاريخ في المدارس العراقية. وما استهواني فيه، بحكم الاهتمام بموضوع التأمين، كتابته عن هيئة اللويدز ضمن فقرات برقم (10-2) تحت عنوان ” سلطة البحر” (ص 143-147). بعد هذه المقدمة سأقتبس كامل الفقرات الخاصة بلويدز (ص 146-147).
لا يرد في الكتاب ذكر المصدر الذي استقى منه المعلومات عن لويدز[2] لكنه يذكر في مقدمة الكتاب أنه استخلص مادته من “نحو ستين مُصَنَّفًا بين عربي وفرنسي وإنكليزي وتركي ولاتيني.”[3] وأيًا كان المصدر فإن ذكره للويدز يدلّ على سعة اطلاعه في وقت لم يشهد العراق وجود شركات تأمين أجنبية أو عراقية، ذلك لأن أول فرعين لشركتين بريطانيتين دخلتا إلى العراق هما: بروفينشيال إنشورنس كومباني Provincial Insurance Company و ﮔارديان أشورنس كومباني Guardian Assurance Company وكان ذلك سنة 1920.[4] ربما كانت هناك، قبل هذا التاريخ، وكالات تأمين أو وكالات تجارية عامة تمارس أعمال التأمين بتفويض من شركات تأمين في المتروبولات الغربية. وقد وردت إشارات لمثل هذه الوكالات، فيما بعد، في دليل العراق التجاري لسنة 1936.[5] ربما كان للويدز وكيل في العراق، لكن هذا قول تحزّري بحاجة إلى تحري. ونعرف، اعتمادًا على البيانات الحالية للويدز أن لها وكيل في بغداد ووكيل فرعي في البصرة.[6] ويذكر الكرملي في حديثه “ولهذه الشركة البسيطة في أصل وضعها ونشوئها فروع وشُعب في جميع الديار.” (ص147). ومن الطريف أن الكرملي يذكر بأن “البصرة تكون عن قريب مدينة أكبر من بغداد، وسوف يزيد سكانها على سكان دار السلام، وسوف تكون تجارتها من أكبر ما يمكن أن تكون لهذه البلاد، وسوف يكثر فيها الغرباء والمحلات الأجنبية، حتى تكون من المدن التي تضاهي الحواضر الكبرى في ديار الإفرنج. (ص153)
لعل الكرملي هو أول كاتب عراقي عمل على تقديم نبذة عن لويدز للقراء في العراق، وهذا هو سبب اهتمامنا بعرض ما كتبه. ونأمل من الباحثين الكشف عن كتابات أخرى لتأكيد سَبَقه من عدمه في مجال التأمين.
هو يصف لويدز بأنها شركة وهي لم تكن كذلك؛ هي كما يكتب جمال الحكيم “جماعة التأمين بالاكتتاب” إذ ينقل تعريف القانون المصري رقم 156 لسنة 1950 (قانون الإشراف والرقابة عل هيئات التأمين) لمثل هذه الجماعات:
في تطبيق هذا القانون، يقصد بجماعات التأمين بالاكتتاب كل جماعة تؤسس على النظام المعروف باسم “لويدز” الذي يقضي بأن كل عضو مشترك في جماعة يصبح مسئولا عن نصيب معلوم من مجموع مبلغ وثيقة التأمين سواء أكان هذا النصيب مهينا أو نسبيا.[7]
لويدز Lloyd’s of Londonليست شركة تأمين بل هيئة اعتبارية تحكمها قانون لويدز لعام 1871 و 1911 والقوانين اللاحقة، تعمل إلى حد ما كسوق تبادلي، كانت تتكون تاريخيًا من عدد من الممولين يعرفون بالأسماء Names، مجمعين في نقابات اكتتابية syndicates، تكتتب بالأخطار، كل منها بنسبة تمثل حصتها من قسط التأمين ومن الخسارة. الأخطار يكتتب بها الأعضاء من الأسماء الأفراد (تقلص عددهم إلى حد كبير منذ تسعينيات القرن العشرين) ومن الشركات التي باتت الممول الرئيس لرأس المال. وتعمل الهيئة كمنظم رقابي لعمل الأعضاء ومقدم خدمات للجميع. ويضم سوق لويدز وسطاء التأمين وإعادة التأمين brokers الذين يجمعون بين المشتري، المؤمن له، مع البائع، المكتتب، للوصول إلى أفضل الحلول لتغطية الأخطار. ويضم أيضًا وكلاء إدارة النقابات managing agents
يقول الكرملي أن لويدز نشأت في القرن الثامن عشر، وهو تاريخ ليس دقيق إذ أن المتفق عليه بين المؤرخين أنها تأسست سنة 1686 في مدينة لندن في المقهى الذي حمل اسم إدوارد لويدز. جاء تأسيس لويدز بعد حريق لندن الكبير Great Fire of London سنة 1666
قدّم وصفًا دقيقًا لموقع لويدز في لندن والنشاط الذي يجري في بنايته إذ يذكر “كتاب الخسائر” الشهير Loss Book، وجريدة لويدز لست Lloyd’s List المستمرة في الصدور (ولكن بوسائل مختلفة في زماننا)، وآلات قياس الريح والجو وغيرها.
عرضه للويدز ومكانتها لا علاقة مباشرة له بتاريخ العراق، لكنه أراد من خلال هذا العرض الإشارة إلى تقدم الأمم البحرية. وقد خصَّ لبريطانيا مكانًا متميزًا. أن يفرد عدة فقرات للتعريف بلويدز دليل على شمولية المعرفة. أعتقد بأن الكرملي ما كان سيفوته ذكر التأمين في العراق لو كان موجودًا في الوقت الذي كتب فيه خلاصة تاريخ العراق منذ نشوئه إلى يومنا هذا.
مقتطفات من (10-2) لويدز
في بدء القرن الثامن عشر كان في لندن في الشارع المعروف باسم “لمبرد ستريت” بالقرب من البورصة نوع من القهوة، صاحبها رجل اسمه لويد وكانت هذه القهوة مجمع تُجار المدينة (أي السِّتِي) من أصحاب المراكب ومُستأجري السفن والسماسرة وضامني المراكب. وفي سنة ١٧٢٧ اجتمع هؤلاء الرجال (رجال الأشغال) بصورة شركة، انتقل مقرها بعد ذلك بكثير إلى بناية البورصة، وهو هناك إلى اليوم، وسمَّوا شركتهم “لويد” وهو الاسم الذي اتخذته سائر الشركات البحرية غير الإنكليزية التي أنُشئت على طَرْز هذه الشركة، فترى اليوم يجتمع هناك أصحاب السفن والضامنين وأهالي رءوس الأموال، حيث يجدون جميع الإفادات اللازمة لسير الحركة التجارية والبحرية، مع ذكر البلايا والنكبات التي تحل برُكَّاب البحار. يجدون هناك قوائم وإعلانات يُذكر فيها يوم إقلاع السفن ويوم وصولها إلى الموانئ من إنكليزية وغيرها، كما يُصَرَّح فيها أيضًا غرقها واصطدامها وجنوحها وعُطلها وضررها وإنقاذ مَن غرق من رُكابها وهلاك مَن لم يُنقذ، إلى غيرها من الفوائد التي يجب أن يقف عليها كل مَن يعنيه البحر وما يقع فيه. وهناك كتاب يسمونه «كتاب الخسائر» أو «الكتاب الأسود» فيستشيره أو يتصفحه كل من يُحب أن يقف على الحقائق، وأخباره هي آخر الأخبار الواردة إلى لندن؛ لأنها تجيء ليلًا على لسان البرق اللاسلكي، (وسابقًا على لسان البرق السلكي البحري)، فتُلتَقَط وتُدَوَّن حالًا، وما يكاد ينشق إهاب الفجر عن جبينه إلا وقد طُبعت تلك الأنباء البرقية “قائمة لويدز” (لويدس لست)، وهي بمثابة جريدة بحرية من أقدم جرائد هذا النوع؛ لأن عهدها يرتقي إلى سنة ١٧٤٥ في أقل ما يُظن.
وفي ذلك المحل الكبير تجد آلات تتحرك من نفسها، كمقياس الجو، ومقياس الأرياح وغيرهما، فترسم على الحيطان بقلم من رصاص تقلُّبات الجو وسير العواصف؛ فبهذه الإفادات المختلفة التي تُؤخذ يوميٍّا، وبالإفادات التي تأتي من كل موقع وموضع من أنحاء العالم « تبعث وقائع البحر ظلها على تلك الحيطان فترتسم » بموجب تعبير الإنكليز، وحينئذٍ لا يقف رجال الأشغال على المعاملات البحرية والتجارية فقط، بل يقفون — وهذا أهم من ذلك — على ما يحلُّ من تلك الغمرات من الويلات ليتخذوا وسائل يمنعون بها وقوعها، ويدفعون عن ركاب البحر المصائب التي تتهددهم وتتهدد مراكبهم وبضائعهم وأموالهم.
ولهذه الشركة البسيطة في أصل وضعها ونشوئها فروع وشُعب في جميع الديار التجارية، وقد انضمت إليها شركات أخرى قوية. والخِدَم التي خدمت بها التجارة والمنافع البريطانية التي أدَّتها هي فوق كل تصوير، يكفيك أن تعلم أنها تخسر أسبوعيٍّا نحو ستين سفينة؛ أي نحو ٣٠٠٠ سفينة في السنة من باب الحساب المُعَدَّل.
رأيت قوة بريطانية العظمى التجارية، أمَّا قوتها البحرية فهي فوق هذه. وكيف لا تكون فوقها وحياتها متوقفة عليها؟ إلا أن دولة ألمانية لما رأت أن لا مندوحة لها عن النجاح إذا لم تُرَقِّ حالة أسطولها، أخذت تفرغ وسعها لتُجاريها أو لتغلبها، حتى خيف على إنكلترة من الوقوف في تقدُّمها، ولا سيما لأن رجالها البحريين دون رجال الألمان عددًا. غير أن شبوب الحرب بين القومين جاء فاصلًا لهذا النزاع؛ ولهذا يُنتظر أن ترجع ألمانية القهقرى وتسير بريطانية في وجهها بدون أن يُثَبِّط عزمها مُثَبِّط.
هذه هي نتيجة القوة البحرية. إنها ترفع الدولة إلى حيث لا تنال، وتحميها من هجوم الأعادي، وتُذلل أمامها العقبات، وترفع مقامها بين الدول. وإذا ضعفت فيها هذه القوة سطا عليها كل قوي وعركها عرك الرحى بثفالها، وربما لاشاها وأزالها من عالم الوجود، وأصبحت أثرًا بعد عَين.
(*) باحث وكاتب في قضايا التأمين
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة إلى المصدر. 27 تموز 2020
http://iraqieconomists.net/ar/
[1] يمكن تحميل الكتاب باستخدام هذا الرابط: https://www.hindawi.org/books/46069628.pdf
[2] يقول في مقدمة الكتاب، ص 7، ” ولولا أن هذا التأليف موضوع للمدارس لذكرتُ أسماء المناهل التي وردتُها بلوغًا لهذه الأمنية.”
[3] ربما يكون قد قرأ كتاب
Frederick Martin, History of Lloyd’s and of Marine Insurance in Great Britain (London: Macmillan and Co., 1876)واستقى معلوماته منها أو من غيرها من المصادر.
[4] اعتمادًا على معلومات منقولة من مطبوعة لشركة سويس ري:
Abdul Zahra Abdullah Ali, Insurance Development in the Arab World (London: Graham and Trotman, 1985), p 2.
[5] مصباح كمال، “وكالات التأمين في العراق عام 1936: محاولة في التوثيق،” مجلة التأمين العراقي الإلكترونية:
http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2012/05/1936-19-2012-1936-1936-883.html
[6] الموقع الرسمي للويدز http://agency.lloyds.com/map/#iraq,0
ويرجع البعض بدايات ظهور وكيل لويدز إلى أوائل أربعينيات القرن الثامن عشر: Martin, op cit, p 115.
ويعتبر وكلاء لويدز مصدرًا مهمًا لجمع المعلومات الخاصة بحركة السفن والملاحة والخسائر، وتوفير الخدمات محليًا في مجال الفحص وتسوية المطالبات نيابة عن المكتبين في لندن.
[7] جمال الحكيم، التأمين البحري (القاهرة: مطبعة القاهرة الجديدة، الطبعة الثانية 1979. صدرت الطبعة الأولى سنة 1955)، ص 18.
لتحميل المقال كملف بي دي أف انقر على الرابط التالي
أنستاس ماري الكرملي-لويدز- مصباح كمال-IEN
باحث وكاتب عراقي متخصص في قطاع التامين مقيم في المهجر
عزيزي فاروق
لم يكن الكرملي مؤرخًا اقتصاديًا لكنه كان يتابع ما كان يجري في العراق من تطورات بعد الاحتلال البريطاني للعراق (1917). لعله بنى توقعاته لمستقبل البصرة (وهو يؤلف كتابه سنة 1919) اعتمادًا على مشاهداته وما اطلع عليه من كتابات مختلفة. السؤال المطروح على المؤرخين هو: لماذا لم تتحقق توقعات الكرملي؟ إن المقارنة التي عقدتها بين التوقعات التي رسمها الكرملي والواقع الحالي المتردي لمدينة البصرة، كما عرضتَه باختصار، تصبّ في صلب هذا السؤال.
إن الفساد وسوء الإدارة، رغم جذورهما التاريخية القريبة، إلا أنهما صارا الصفة المميزة لنظام ما بعد 2003، فقد تحول كل شيء إلى غنيمة تعويضًا عن مظلومية مفترضة لفئات معينة وكأن فئات الشعب الأخرى لم تكن مظلومة. وهكذا سرقت أحلام التطور ومضاهاة “الحواضر الكبرى في بلاد الإفرنج” من البصرة وغيرها من مدن العراق.
مع خالص التقدير.
بعيدا عن لويدز والتامين ورد في المقال ( ومن الطريف ان الكرملي يذكر بان البصرة تكون عن قريب مدينة اكبر من بغداد وسوف يزيد سكانها على سكان دار السلام وسوف تكون تجارتها من اكبر ما يمكن ان تكون لهذه البلاد و سوف يكثر فيها الغرباء والمحلات الاجنبية حتى تكون من المدن التي تضاهي الحواضر الكبرى في ديار الافرنج ) انتهى الاقتباس
للاسف لم يتحقق كل ما تمناه او توقعه الاب انستانس الكرملي
نعم زاد عدد سكان البصرة وكثر عدد الغرباء فيها لكن البصرة اليوم ليست ( من المدن التي تضاهي الحواضر الكبرى في بلاد الافرج )
اما تجارتها كما توقع الكرملي ( من اكبر ما يمكن ان تكون لهذه البلاد ) لكنها تجارة من طرف واحد تتمثل في تصدير النفط الخام مع تدهور صادراتها من التمور
عانى ابناء البصرة من الحروب والفقر والبطالة ولم يكن امام ابناها الغيارى سوى التظاهر وهم يرددون ( نريد وطن )
البصرة اليوم ليس كما توقع الاب انستاس الكرملي ( رحمه الله) تفتقر الى الماء ( الصافي النقي ) للشرب والى ( الماء الخابط) الصالح لسقي مزارهم التي تتحول من الزراعة الى المباني السكنية
رءيس مجلس الوزاء الحالي السيد مصطفى الكاظمي لخص ( المشكلة ) وما يعانيه بلدنا العراق الصابر بعبارة واحدة وهي ( الفساد وسوء الادارة)
والحل؟
ليس هناك من طريق ينقذ العراق من محنته سوى طريق الاصلاح