عجلة الاقتصاد العراقي المتعثرة منذ ثلاثة عقود أصابها الركود منذ الانتخابات التشريعية في 7 آذار 2010 في انتظار النتائج وتشكيل الحكومة الجديدة. وفق آخر التقارير فإن قطاع المال والأعمال مصاب بالشلل لانه يعتمد بنسبة 80 % على الانفاق الحكومي المتوقف حاليا (انظر تقرير فراس الحمداني في جريدة العالم 6/7/2010 ). جاءت نتيجة الانتخابات على عكس ما كان الكثيرون يتمنون بأن تفرز عملية الاقتراع حكومة اغلبية سياسية ومعارضة قوية لكي تصلح ماتعطل خلال سنوات “حكومة الوحدة الوطنية” الاربع الماضية. إلاّ ان الناخب العراقي احجم عن حسم المنافسة باختيار فائز واحد، وانما اختار فائزين: الاول حصد اكثر عدداً من اصوات الناخبين وفق نظام القائمة المفتوحة، والثاني دفع قائمته نحو الفوز بأكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب الجديد. وفي الحقيقة هذه ليست حالة عراقية فريدة وانما تحدث في الكثير من الدول الديمقراطية المتقدمة ولكنها تُحَل بسلاسة هناك.
ومنذ اعلان النتائج الاولية للانتخابات والصراع يدور بين دولة القانون والقائمة العراقية حول احقية كل منهما في تشكيل الحكومة الجديدة، مما يذكرني بالاسطورة الشعبية القديمة التي رواها لي والدي في صغري ونسبها الى الخليفة الرابع، أي الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام وكرّم الله وجهه، بأنه جاءته إمرأتان بصحبة طفل، تدعي كل منهما بأنها الأم الحقيقية له، فاستل الامام سيفه متظاهراً بعزمه على تقسيم الطفل الى نصفين وتوزيعه بالتساوي بين المرأتين، فصرخت احداهما تطلب من الامام العدول عن ذلك وتعلن تنازلها عن حقها في الامومة. الاسطورة تقول ان الامام حكم لصالح هذه المرأة بأنها الام الحقيقية.علمتُ فيما بعد بأن هذه الاسطورة معروفة في تراث مجتمعات اخرى وإن بصيغ مختلفة. من منظور عصرنا الراهن يبدو لي ان الامام عليه السلام كان سيحكم للمرأتين برعاية مشتركة للطفل، اذا اعتبرنا ان هذا الطفل يرمز للاقتصاد العراقي الضعيف والذي يحتاج الى رعاية الطرفين، سواء كان ذلك من قبل المرأتين في هذه الاسطورة او الابوين في عصرنا الراهن. واذا كان يبدو للبعض هذا الخيار وكأنه من نسج خيال “الرومانسية الحالمة”، فان من حقنا ان نسأل عن البديل الافضل لتحريك العملية السياسية والتي ترتبط بها عجلة الاقتصاد العراقي المتوقفة.
ورغم ان النظريات والمدارس الاقتصادية تختلف في تحديد الشروط اللازمة لتحريك عجلة الاقتصاد وتحفيز النمو الاقتصادي من توفير البنية التحتية وانتهاج سياسات نقدية ومالية وتجارية وجمركية متوازنة ومحفزة على النمو الاقتصادي، ولكنها متفقة على شرط اساسي واحد وهو الاستقرار السياسي. والذي اسميه أنا (ابو الشروط). وهذا الشرط بالتحديد مايفتقده العراق منذ تأسيس دولته الحديثة في عام 1921، باستثناء فترات زمنية قصيرة تحقق خلالها بعض الانتعاش الاقتصادي النسبي. ومن خلال مقارنة التطور الاقتصادي في العراق مع دول الجوار غير النفطية التي سادها الاستقرار السياسي مثل تركيا والاردن نرى ان هاتين الدولتين حققتا انجازات اقتصادية كبيرة، حيث يتنعم المواطنون فيهما بمعدل دخل مرتفع وخدمات عامة في مقدمتها الكهرباء بالرغم من انهما لاتملكان موارد نفطية تذكر، ناهيك عن ان المقارنة مع ايران والدول النفطية الخليجية تظهر مدى التخلف الكبير الذي اصاب الاقتصاد العراقي خلال العقود الثلاثة الماضية.
بالرغم من إسقاط النظام الشمولي في 9 نيسان 2003 ، والذي كان المسؤول الاول عن تخريب الاقتصاد العراقي، فإن الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين لم تنجح بدورها في تحقيق الاستقرار السياسي. حكومة الوحدة الوطنية برئاسة السيد نوري المالكي ولدت في عام 2006 وهي تحمل بذور ضعفها، كما وصفها آنذاك استاذ العلوم السياسية والنائب في مجلس النواب السابق عن الائتلاف العراقي الموحد جابر حبيب جابر (الشرق الاوسط 8/1/2006 ). واجهت هذه الحكومة في النصف الاول من دورتها ازمات وخلافات سياسية حادة بين الاطراف المشكلة لها كادت أن تطيح بها، الا ان الانجازات التي حققها المالكي على الصعيد الامني سمحت للحكومة بإكمال مسيرتها وان كان ذلك من دون تحقيق الاستقرار السياسي المنشود، سواء كان ذلك على صعيد الامن الداخلي أو على صعيد العلاقات الثنائية مع دول الجوار. وبذلك فشلت حكومة “الوحدة الوطنية” في تغيير اولويات عملها لصالح تحريك عجلة الاقتصاد المتوقفة، كما فشل مجلس النواب في التعامل مع الملف الاقتصادي، والامثلة على ذلك كثيرة لا يتسع المجال لتعدادها، ولكن نذكر بأهمها وهو فشل تمرير قانون النفط والغاز.
يرى المحلل السياسي العراقي يحيى الكبيسي ان الخارطة السياسية “الطائفية” التي افرزتها انتخابات 7 آذار 2010 لا تسمح بأي خيار براغماتي سوى الخيار الطائفي الذي يسميه “الخيار الواقعي الوحيد لتشكيل الحكومة هو قيام التحالف المعلن بين الكتلتين الشيعيتين بترشيح مرشح تسوية، ومن خلال ضغط مباشر تمارسه المرجعية، ومن خلال الضغط الأميركي.” (جريدة “العالم” العراقية 11/7/2010). وبغض النظر عن واقعية هذا التوقع من عدمها، فانه في اعتقادي الخيار الأسوأ على الاطلاق بما يتعلق بفرص تحقيق الاستقرار السياسي والامني على الصعيد الداخلي والاقليمي، ولاسباب معروفة للجميع. اما جابر حبيب جابر فيرى ان الخيار المرجح وهو ان الحكومة سوف تتشكل بنهاية الامر من الكتل الكبيرة الاربع الفائزة. (الشرق الاوسط 11/7/2010) لان لا احد يريد الذهاب الى صفوف المعارضة. هذا يعني اعادة تشكيلة حكومة المحاصصة الطائفية والاثنية السابقة والمكبلة بالقيود والمصابة بالشلل، كما يعترف الدكتور جابر بذلك. وتعني هذه التشكيلة عملياً تمتع اربعة اطراف سياسية بحق الفيتو والتي سوف لن تساعد على تحريك عجلة الاقتصاد كما تدلنا تجربة الاعوام الاربعة الماضية على ذلك.
يبدو للكثير من المراقبين ان حلحلة ازمة تشكيل الحكومة العراقية الشائكة أتت مع الزيارة المفاجئة لنائب الرئيس الاميركي جو بايدن والذي حمل في جعبته الحل السحري لانهاء الخلاف بين الفائزين الرئيسيين في انتخابات 7 اذار 2010، المالكي وعلاوي. هذا غير صحيح، فقبل ان يفكر الاميركيون، سواء كان زلماي خليل زادة او جو بايدن، بخيار التحالف بين المالكي وعلاوي فكَّر بذلك العديد من العراقيين على انه من حكم الامر الواقع. ونذكر على سبيل المثال المحلل السياسي العراقي غسان العطية. ويرى البعض ان بايدن مارس الضغوط على الغريمين المالكي وعلاوي لانهاء خلافهما وتقاسم السلطة بينهما. وبالرغم من اننا لا ننكر قدرات الادارة الأميركية تحت ادارة الديمقراطيين في ممارسة ما يسمى “القوّة الناعمة” للتأثير على مجرى الاحداث السياسية في العالم عموماً وفي العراق خصوصاً، حيث سجل التاريخ نجاح ادارة الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون في تحقيق المصالحة التأريخية في عام 1998 بين الزعيمين الكرديين المتحاربين آنذاك جلال الطلباني ومسعود البرزاني، فاننا على قناعة تامة بان حل الازمة الحالية سوف يكون من صنع العراقيين أنفسهم وفق ما اوصى به بايدن جمهرة من السياسيين العراقيين خلال زيارته الاخيرة الى بغداد بأن “على العراقيين ألاّ يسمحوا لأي احد بفرض ارادته او اجندته عليهم لانهم احرار وقراراتهم بأيديهم”.
الاقتصاد العراقي في امس الحاجة الى حكومة قوية تتمتع بهامش كبير نسبيا من المناورة والحرية في اتخاذ القرار السياسي على صعيد الامن الداخلي والاقليمي وعلى صعيد ادارة الملف الاقتصادي والمكافحة الجدية للفساد المالي والاداري واصلاح الجهاز الاداري الحكومي. الخيار الامثل غير متوفر، وهو حكومة الاكثرية السياسية لكيان واحد تقابلها معارضة قوية. اذن يبقى الخيار الاقل سوءاً وهو حكومة التحالف بين الكتلتين الكبيرتين والذي سوف يضمن لهما اغلبية مريحة في مجلس النواب ويقلل “الفيتوات” الى اقل عدد ممكن، ويكسر منطق لعبة المعادلة الصفرية، كما يتجلى ذلك في تحليل يحيى الكبيسي بثوب “الاستقطاب الطائفي، الإثني والمذهبي”. ومن لا يريد لعب دور المعارضة، حسب تحليل الدكتور جابر حبيب جابر، سيجد نفسه مضطراً للبدء في تعلم القبول بالامر الواقع والخضوع للمصلحة الاقتصادية العامة.
مستشار اقتصادي دولي ، مؤسس شبكة الاقتصاديين العراقيين والمنسق العام منذ 2009
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية