الاقتصاد العراقي الكلي

د. حسن الجنابي: اجتثاث الفقر والجوع في العراق

اولا:
الفقر حالة تمثل انتهاكا لكرامة الانسان واعتداء على حقه في الحياة الكريمة، وهي ناتجة في غالب الأحيان من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الممتدة، وسوء توزيع الثروة في المجتمع واستغلال السلطة والنفوذ، والتهرب من الضرائب، وعدم تطبيق مبادئ العدالة في الأجور، وانفلات السوق والإثراء غير المشروع، والتهريب والفساد والرشا والتزوير والخداع، وانتهاك حقوق الإنسان، والسياسات التي تكرّس التفاوت الطبقي، وانعدام تكافؤ الفرص في بيئة فاسدة، تتضاءل فيها القيمة الفعلية للعمل لدى فئات واسعة من المجتمع، مقابل تضخم إيرادات الصفقات غير المشروعة والخدمات الوسيطة والأنشطة الطفيلية وغير ذلك.

ثانيا: هناك الكثير من الظواهر التي تستحق الاجتثاث في المجتمع العراقي لكي يتعافى, وفي مقدمتها ضرورة اجتثاث الجوع والفقر. فهذا فضلا عن كونه من الأعمال النبيلة، هو عمل قابل للإنجاز خلال مدة قصيرة نسبيا، إذا استهدفت ستراتيجية اجتثاث الفقر القضاء على أسبابه ومعالجة إفرازاته ونتائجه الاجتماعية والاقتصادية في الوقت نفسه، ببرامج مركّزة ومتواصلة، وبالتدخل المباشر للحكومة بسوق الغذاء، لتأمين إمداداته عن طريق تشجيع زيادة إنتاجه محليا واستيراد ما يؤمّن استقرار السوق والأسعار؛ وتحسين النظام الغذائي، بوصفه مجالا للعمالة الكثيفة في ميادين الإنتاج والنقل والتوزيع والتخزين والتصنيع وما شاكل، وبموازاة ذلك توسيع التغطية بشبكات الحماية واتخاذ إجراءات تمكينية تتيح للفئات الهشّة التخلص من حلقة الفقر وتوفير فرص التأهيل المهني في المناطق الفقيرة.

ثالثا:
الفقير هو في غالب الأحيان شخص غير قادر على الحصول على ما يكفيه من الغذاء فيبيت جائعا، لذلك فالجوع والفقر متلازمان وهما وجهان لعملة واحدة، بالرغم من الاختلاف في تعريف الحالتين، وبهدف عدم الخلط فإن هذه المقالة لا تناقش ضحايا الكوارث الطبيعية أو الحروب، ممن يتعرضون للجوع لفترات قصيرة بسبب الكوارث ونقص الأغذية المفاجئ والمؤقت، بل الجوع المصاحب لحالة الفقر الممتدة أو السائدة لدى فئات مجتمعية مستقرة في المدن والقرى والقصبات.
رابعا:
الفقر هوالنقص في الموارد المادية أو ضروريات الحياة الأخرى التي تحرم الشخص من التمتع بالحد الأدنى من مستويات الحياة والرفاهية في مجتمعه.اي ان هناك عتبة معينة لكل مجتمع يعدّ كل من يصنّف دونها فقيرا. فالفقراء في الدول المتقدمة قد يتمتعون بحدٍّ من المعيشة عالٍ نسبيا مقارنة بنظرائهم في الدول النامية، ولكنّهم يصنفون تحت الفقر في بلدانهم. على سبيل المثال ان العائلة الاميركية المتكونة من أربعة أشخاص التي يبلغ دخلها الشهري (2000) دولار تعدّ فقيرة، في حين أن نظيرتها في افريقيا قد تصنف فوق خط الفقر إذا بلغ دخلها الشهري (150) دولارا.

خامسا:
من الصائب التذكير بان هناك ثراء مشروعا لفئات كبيرة من البشر حصل نتيجة للعمل الجاد والمضني، وحسن التخطيط والأداء والابتكار. ولكن من جانب آخر فالفقر ليس نتاجا لكسل الفقراء وإهمالهم، كما قد يتصور بعض المنتفعين والطفيليين، بل انهم يكدحون ليلا ونهارا لتأمين عيشهم ولكن كماشة الفقر أقوى من قدرتهم على الانعتاق منها. فالفقر ظاهرة اجتماعية واقتصادية تنتج غالبا من السياسات المغامرة والخاطئة والحروب والإرهاب، وكل ما من شأنه تدمير البنى التحتية وقتل وتشريد السكان، وتدهور خصائص التربة، واضطراب سوق العمل، وتفشي الأمية وما شاكل ذلك من تحديات. كما أن الهزات العالمية في الأسعار وتقلباتها والمضاربة بأسواق الغذاء، والكوارث الطبيعية، تؤدي إلى إفقار المزيد من الناس ومضاعفة معاناتهم.

سادسا:
إن خط الفقر المعتمد عالميا بصورة واسعة هو (1.25) دولار باليوم للفرد، لكن هناك دولا مختلفة تحدد خط الفقر لديها بحسب المعطيات الوطنية نظرا للصعوبة البالغة في تطبيق معيار موحّد للفقر عبر القارات بسبب تفاوت الظروف وشروط المعيشة. ففي العراق مثلا كان خط الفقر بحدود (2500) دينار عراقي باليوم عام 2007، وقد ازداد قليلا ليصبح (3500) دينار في عام 2012 بحسب الاعلان الأخير للجنة العليا لسياسات التخفيف من الفقر، وإذا ما أخذ الارتفاع النسبي لسعر صرف الدولار بالاعتبار، فان خط الفقر في العراق يبقى أقل من ثلاثة دولارات باليوم، وأظن أنه في تصاعد مستمر بسبب التحسن النسبي لمستويات المعيشة وارتفاع الأسعار وزيادة العائدات النفطية وانتشار الكماليات والاجهزة الالكترونية، والانفتاح غير المسبوق في سوق الاستيراد والنزعة الاستهلاكية وغيرها.

سابعا:
يتفشى الفقر في العراق بصورة لا تتناسب مع الدخل الوطني منذ التسعينيات وقد بلغت أقصى نسبة له في عام 2003 إذ كان أكثر من (50بالمئة) من السكان آنذاك تحت خط الفقر، وبدأت النسبة بالتناقص إلى أن وصلت مؤخرا الى نحو (19بالمئة) بحسب بيان اللجنة العليا للتخفيف من الفقر. لا يمكن بالطبع أخلاقيا القبول بأي مستوى من الفقر والجوع في المجتمع سوى النسبة الصفرية، أي اجتثاث الجوع بصورة كاملة من العراق، وهذا ليس حلما بل هدفا واقعيا، وإن كان حلما فليس معيبا الحلم بمجتمع خال من الجوع والفقر في بلد ثري كالعراق. من اللافت أن أعلى نسبة للفقراء في العراق تسجل في الأوساط الاجتماعية التي تعيش أساسا على إنتاج الغذاء وهم سكان الريف، مما يعني ان ظروف الحياة الريفية معيقة للتنمية وطاردة للسكان، بدليل ان نسبة سكان الريف الى العدد الكلي للسكان انخفضت من (70بالمئة) في أواسط القرن الماضي الى (30بالمئة)، وهذه ظاهرة جديرة بالملاحظة والدراسة اذا ما أريد اجتثاث الفقر.

ثامنا:
لا شك أن بعض مهاجري الريف وجدوا ظروفا أفضل في المدن التي نزحوا إليها أو إلى حواشيها، ولكن أكثريتهم تعرضوا الى شتى صنوف الفاقة والعوز والأمراض، وكان ثمن البقاء على هامش الحياة في المدن باهظا لاولئك المقتلعين من جذورهم وبيئتهم، والذين وقعوا في ما بعد فريسة للحروب والقمع ولكماشة الفقر المرعبة، التي يصعب التحرر منها من دون تدخل حكومي فعال ببرامج تهدف أساسا لانتشالهم من الفقر والجوع، وخاصة الارامل واليتامى والمعاقين والعوائل التي تعيلها النساء، وسكان العشوائيات، وغير المؤهلين والمُعطلّين عن العمل والأمّيين، ممن لم تتح لهم فرص التعليم او ممارسة المهن التي يكسبون منها لقمة العيش الشريف. ومن المفيد تأكيده هو أن تقديم الخدمات في الأماكن الأصلية للسكان، اي في الارياف، بدلا من مناطق النزوح الجديدة والعشوائيات وتوسعات المدن غير المنضبطة او غير المخطط لها، أسهل للحكومة بكثير وسيتحقق بذلك هدفان: اولهما الاستقرار الاجتماعي وثانيهما تنشيط الانتاج الزراعي وتحسين سوق الغذاء.

تاسعا:
إن الرغبة الكبيرة بالقضاء على الفقر واضحة في السياسات الحكومية، حيث اتخذت إجراءات تصب بهذا الاتجاه، ومنها الاستمرار ببرامج تقديم المعونات الغذائية (اي البطاقة التموينية التي لديّ عليها ملاحظات جدية سبق أن عرضتها في مقالات سابقة) وتشكيل اللجنة العليا للتخفيف من الفقر، وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية والمبادرة الزراعية وسياسات الإقراض الهادفة لزيادة الإنتاج الزراعي المحلي، وفتح أبواب الاستثمار وغيرها، إلا أن النتائج غير ملموسة بالقدر الكافي بعد، بدليل بقاء نحو سبعة ملايين مواطن فقير وهم بحاجة الى المساعدة الجادة للقضاء النهائي على أسباب فقرهم.

عاشرا:
إن تجارب العالم باجتثاث الجوع والفقر من المجتمع، ترينا ان الاهتمام الحكومي المركّز على المصالح الصغيرة (Small businesses) هي وسيلة أكثر فاعلية في القضاء على الفقر من التركيز على المشاريع الكبرى. فالاخيرة، برغم حاجة الاقتصاد الوطني لها، الا ان تأثيرها في تخفيف مستويات الفقر ضعيف مقارنة بالمصالح العائلية والصغيرة، التي تخلق فرصا كبيرة للعمل، وتمكّن المواطنين أنفسهم من المشاركة الفعالة في القضاء على أسباب فقرهم، وينطبق الأمر بقدر أكبر على صغار الفلاحين وأصحاب الحيازات الصغيرة والمتوسطة، من سكان الأرياف وأطراف المدن، اذ ان تحسين وضعهم المادي قليلا يسهم بصورة فعالة في رفع فئات كبيرة منهم الى فوق مستوى خط الفقر، ويخلق شروطا مناسبة لاجتثاث الجوع والفقر وهو أمر ليس مستحيلا في العراق.

* سفير العراق لدى منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)

جريدة الصباح 30/9/2013

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    الموضوع حوار بين الكاتب وبينى انا الفقير العراقى
    يعرف الكاتب الفقر بانه النقص فى الموارد المادية او ضروريات الحياة التى تحرم الشخص من التمتع بالحد الادنى من مستويات الحياة والرفاهية فى مجتمعه وان الفقير هو شخص فى غالب الاحيان غير قادر على الحصول على ما يكفيه من الغذاء فيبت جائعا
    – انا الفقير العراقى اعترض بان الفقر فى العراق يعود الى نقص فى الموارد المادية كما اعترض واطالب بان يتوفر لعائلتى التلفزيون والكهرباء والماء الصافى ووسائل الاتصال وكل ادوات الثقافة العصرية
    – يشير الكاتب الى جهود الحكومة فى استهداف الفقر كما ورد فى المقال
    -انا الفقير العراقى اقول اين مجلس النواب اين منظمات المجتمع المدنى اين الحكم الرشيد لمعالجة مشكلة الفقر
    – الفقر ليس كما يتصور كاتب المقال المحترم نقص الموارد – العراق من اغنى بلدان العالم فما يمنعنا من اجتثاث الفقر – ما يمنعنا الفساد الادارى والفساد المالى
    – لم يشر الباحث الى دور مجلس النواب فى اجتثاث الفقر
    – انا الفقير العراقى كنت اظن بان ممثلى الشعب هم بالتعريف ممثلى الشعب الفقير
    – سيدى الكاتب المحترم نحن الفقراء العراقيون لدينا عادات سيئة واسوئها التدخين قل للحكومة جعل سعر علبة
    السكاير كما كانت عليه قبل الاحتلال الامريكى للعراق لانى انا الفقير شخص جاهل انفق اكثر من 12% من دخلى على التدخين
    سيدى الكاتب – انا العراقى الفقير استطيع العيش على الحصة التموينية ولكنى لا استطيع ارسال اولادى الى المدرسة ولهذا انا استخدامهم فى بيع اوراق الكلينكس فى شوارع بغداد من الصباح الباكر وحتى غياب الشمس
    مع خالص شكرى وتقديرى لا ستاذى الفاضل الدكتور حسن الجنابى الذى اكن له كل الاحترام والتقدير

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: