تعيد شبكة الاقتصاديين العراقيين نشر كلمته التي ألقاها في مؤتمرها العلمي الاول في بيروت تحت عنوان: التنمية ثقافة
شكراً لأنكم فتحتم لي شباكاً على شبكتكم التي أتصور انها تصميم هندسي لأنظمة مصالح وعلائق، دون تحريرها وترسيمها يتعاظم الجهل ويتفاقم الفقر، فأسمحوا لي أن أطل إطلالة زائر متنزه، يشم ورداً أو وعداً ويرجو خيراً ويدعو بالفلاح.
مرّة أخرى، ودائماً يقول العقل والقلب والمشهد والذاكرة والحلم، بأن التنمية هي الثقافة كما ان الثقافة هي التنمية.
وأن التنمية، ولأنها ثقافة، أي متغير على ثوابت، لا تقاس بالثروات الطبيعية أو بالتملك، بل هي إدارة المتيسر الذي، إن كان قليلاً يصبح كثيراً، بالإدارة. في حين تبقى الثروات الطبيعية العظمى مهددة بالنفاذ مع سوء الإدارة.
مرة أخرى، ودائماً، يمكن وينبغي، تلخيص المسألة أو تعريف التنمية بأنها التشغيل الدائم لجدل الثروة والمعرفة، أي تحويل المعرفة الى ثروة، وتحويل الثروة الى معرفة.
هذا إذا أردنا للثروة أن لا تتبدد وللمعرفة أن لا تتوقف. وهذا الكلام يكتسب وجاهة إضافية الآن حيث آلت وتؤول المعرفة الى فقر والثروة الى جهل.
والذين قرأوا حركة التوسع في التعليم الجامعي العربي، وجدوا عدم تناسب بين الكم والكيف، بين الرقم والجدوى.
أما لماذا؟ فالجواب مغامرة. ولكننا أن نتفق على أن أحد أهم الأسباب الجوهرية لحالتنا، هو اننا قررنا أن نُحوّل التخلف الى تخليف، أي اننا اتفقنا على تأبيد التخلف وتجديده مع إحالة خبيثة على الاسلام، او على الدين، علماً بأن الدين في قراءته الغالبة يظهر وكأنه غير معني بنفي التهمة عن نفسه. الى ذلك فأننا من دون دولة، ما أدى بالتقادم، الى أن نصبح من دون اجتماع، ولو كنا اجتماعاً، لكانت الدولة، فكرة وبُنية، أمراً ناجزاً، أو في حالة انجاز دائم، لأن الدولة ضرورة الاجتماع، وهما يحضران أو يغيبان معاً. أليس هذا معنى ومردود الطائفية السياسية؟
ومن دون دولة، أي من دون تدبير معرفي وتدبير إداري، كيف يمكن أن ننشط الجدل؟
“أنام ملء عيوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم”
يشجعنا المتنبي على الزهد، أي الزهد الفردي، أما الزهد الاجتماعي، فهو كارثة، لأن الزهد الفردي زهد في التملك، أو كما يقول علي “ليس الزهدُ أن لا تملكَ شيئاً، بل الزهد أن لا يملُكُكَ شيء.”[1] بينما الزهد الاجتماعي، أي كفّ المجتمع عن الإنتاج، كارثة. وكل دراساتكم، من حين تعلمنا القراءة حتى الآن، تقول لنا: إننا في كارثة اسمها المُحسَّن هو الريعية أو الزبائنية.
وللبدء في منع تفاقم الكارثة، نريد شروعاً في بناء دولة، معرفياً أعني بالدولة التنوير، كأني أقول بأن التنوير لا الإسلام هو الحل! وبالتنوير يحضى الاسلام بنصيبه من الحياة والحيوية. وكأني هنا أستعيد هيجل في معادلته الشجاعة بين المطلق، بين الله، وبين الدولة. وليس ضرورياً أن يكون المعادل الموضوعي للمطلق مطابقاَ له لأنه نسبي يقارب المطلق، كلما ارتقى ووسع مساحة نسبيته.
“يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ.“[2]
نقترب معاً أكثر كلما توفرت الفرص للعدالة، وزادت جرعات الحرية. وفي القرآن ” مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.“[3] والدَّين في الديَّن أفضل من الصدقة، لأنه تشغيلي، بينما الصدقة عقيمة. والذي يفترض هو الانسان، كأنه ينوب عن الله في حركة المال، فيحقق خلافته لله بالتنمية على شرط الحرية دائماً.
أيها العلماء، هناك سؤال: هل الإصلاح الديني هو الذي أنتج الرأسمالية كضرورة نهضوية، بعيداً عن معناها التقييدي ومسلكها الغولي اللاإنساني؟ أو أن الرأسمالية هي التي أنتجت الإصلاح الديني، أي العقلنة أو العقلانية، أي بناء صورة للدين على صورة الله، أي على صورة المدينة، التي يأبى الله أن يقيم فيها أو يمر بها إذا كانت فوضى أو خراباً، أي من دون دورة إنتاج متجددة ومن دون قانون.
أنا لا أخاف على الله ولا على فلسطين ولا على الوحدة من الاقتصاد الرقمي، أو النانوتكنلوجي، أو اكتشاف الجينوم، أو الاستنساخ، أو الشعر، أو اكتشاف الخلايا الجذعية، أو النووي الإيراني، أو الربيع العربي، بل أخاف عليها جميعاً من حياة بلا قانون، أي بلا حرية لأننا لا نكون احراراً إلا بمقدار ما نتعبد بالقانون وللقانون.
أقول قولي هذا وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأعلن انحيازي للروح، أي الأنسنة، التي زرع بذورها في حقل الحداثة “توما الاكويني” بعدما خُففت في المسيحية، وهُمشت في الاسلام، واجتثها الفريسيون، ثم جففت بعدما تصهينت اليهودية، وارتقت مع علم ونقد “ماكس ويبر” الى أطروحة، ومع “تيار دي شاردان” الى مسلك. ويعلم كل المشعوذين من دينيين وزمنيين، أن الزيادة المضطردة في النمو وأن التوزيع العادل أو المتوازن للثروة والدخل القومي تحت سقف القانون أكثر فاعلية أخلاقية وأعمق أثراً روحياً من كل المواعظ والخطابات السلطوية الممجوجة.
هذه الروحية، أو الروحانية، أو الأنسنة، أو الإنسانية، التي حضنت المحركات البخارية، هي الكامن، أي الفاعل العميق في المتحول النهضوي. ولاحظوا معي كيف تصبح الروح هباء مع الفقر: “كادت الفاقة أن تكون كفراً.”[4] “عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه”[5] وأنا قرأت، أن التجارة، قاطرة النهضة، كانت قد تخلقت في مثالها التبادلي والتداولي والتراكمي في الأديرة، أي في كنف الروح المطرودة الآن من معابدنا.
من أجل دورة إنتاج وطنية لبنانية أو عراقية أو أردنية، أو.. أو.. ومن أجل دورة إنتاج عربية متكاملة على أساس الإشباع بالكيانية باعتبارها شرطاً للتضامن العربي، لأنها تكفينا شر الاستقالة من القومي لصالح الوطني أو المحلي، والاستقالة من الوطني أو المحلي لصالح القومي، أي الاستقالة من الملموس لصالح المهجوس.
أدعو الى كتلة تاريخية مختلفة مهمومة أو مسكونة بالوحدة، من أجل إنتاج المعرفة الملائمة التي لا تنتج إلا بالشراكة من أجل مستقبل سوي. والشراكة لا تستثني إلا من يستثني نفسه. هذا وانا لا أتكلم من موقع التخصص. أنا أحد المستهلكين العقلاء الراغبين في أن يكونوا راشدين، وينتظرونكم في صفوف الدراسة ومراكز الأبحاث وأروقة الإدارة وخطط التنمية، بين حقول القمح والنفط والغاز وبساتين النخيل والزيتون وبيارات يافا ومحميات المعلوماتية. ألستم معي أن السؤال المفتاح ثقافي، أي أن التنمية ثقافة؟
هاني فحص
بيروت في 30/3/2013
مراجعة وتحرير: مصباح كمال
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس وأعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر
http://iraqieconomists.net/ar/
[1] علي بن طالب، نهج البلاغة.
[2] القرآن الكريم، سورة الانشقاق، آية 6.
[3] القرآن الكريم، سورة البقرة، آية 245.
[4] حديث منسوب للرسول محمد.
[5] قول منسوب لأبي ذر الغفاري (توفي سنة 652).
مستشار اقتصادي دولي ، مؤسس شبكة الاقتصاديين العراقيين والمنسق العام منذ 2009
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية