بمناسبة تشكيل حكومة الشراكة ( أو المحاصصة) الوطنية الجديدة, برئاسة الدكتور حيدر العبادي, وتعهدها بحل مشاكلها مع اقليم كردستان ومع المناطق المتمردة, حفاظا على وحدة العراق وسلامة اهله, قد يكون من المفيد ان نستعرض المواقف المهمة للأطراف المعنية, ومن ثم طرح بعض المقترحات والتوصيات, علّها تحظى ببعض الاهتمام. وسوف نركز على موضوع النفط كونه العامل الاهم في اقتصاد البلد.
1- المسألة الكردية
أن هدف الاكراد, على المدى القريب, اصبح واضحا للجميع, فهم يتكلمون عنه بصراحة, ويفرضونه على ارض الواقع , بنجاح . وهذا الهدف هو الانفصال عن بقية العراق وتشكيل دولة خاصة بهم, يأملون أن تمتد لاحقا لتشمل اراض اخرى عبر الحدود العراقية. أما ستراتيجيتهم لتحقيق الهدف اعلاه, فكانت واضحة ايضا وهي (1) تحقيق الاستقلال الاقتصادي عن طريق السيطرة الكاملة على قطاع النفط في الاقليم, وهذا قد انجز, عدا بعض عقبات التصدير الناجمة عن الملاحقات القانونية التي تقوم بها وزارة النفط الاتحادية. (2) ضم ما يسّمى بالاراضي المتنازع عليها (والتي حددوها بانفسهم) الى الاقليم بأقرب وقت. وقد اتضح استعجالهم لضمها عندما انتهزوا مأساة سقوط الموصل وقاموا باحتلال جميع الاراضي المتنازع عليها, بضمنها كركوك, ومن ثم اعلنوها بأنها اصبحت كردستانية وان المادة 140 من الدستور قد تم انجازها.
وعليه, فأن ستراتيجية المفاوض الكردستاني المتوقعة عند بدء المفاوضات مع الحكومة, سوف تتركز على النقاط التالية (1) تجريد الحكومة الاتحادية من اقوى أوراقها التفاوضية, وهي تجميد استحقاقات الاقليم من ميزانية 2014. ويكون ذلك عن طريق اصرار الاكراد على حسم هذه النقطة قبل غيرها (2) الضغط على الحكومة لسحب دعواها المقامة ضد الاقليم والمتعلقة بتصدير النفط عبر المواني التركية (3) الطلب من الحكومة لأن تعترف بدستورية وضعها النفطي مقابل الموافقة على تصدير بعض النفط الكردستاني عبر سومو (4) الاصرار على وضع جدول زمني يؤدي لحسم المادة 140 المتعلقة بالاراضي المتنازع عليها, بأسرع وقت, وربما دون اخذ الظروف الراهنة بنظر الاعتبار.
أما بالنسبة للمفاوض الحكومي, فهناك تخوّف من ان يكون في عجالة من امره, بسبب ضغط الظروف الراهنة, وأن يقوم بتقديم تنازلات متسّرعة يكون لها مردود سلبي في بقية العراق. وفي أي حال, على المفاوض الحكومي ان يمتلك ستراتيجية تهدف الى المحافظة على مصالح بقية العراق وتستند الى الدستور, والى المبادئ السليمة لادارة المفاوضات, ومنها عدم تقديم تنازلات مسبقة ولا تنازلات بدون مقابل مكافئ. وقد تساعد الملاحظات الدستورية التالية في بلورة مثل هذه الستراتيجية.
اولا- تقول المادة 111 من الدستور الاتحادي ان النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات. عليه فان (مادة) النفط هي ملك كل الشعب العراقي, وليس (واردات) النفط هي ملك كل الشعب العراقي كما يريدها الاكراد. . والفرق بين (مادة النفط) و (واردات النفط) واضح وكبير.
ثانيا- تختص المادة (112) من الدستور, بشقيها اولا وثانيا, بادارة النفط والغاز في الدولة العراقية الاتحادية, وتدعو في (112 اولا) الى تنظيم ذلك بقانون اتحادي. وهذا, مع الاسف, لم يحصل لغاية الآن. ومن اهم ما يجب التذكير به هو ان الفقرة (112 ثانيا) تدعو لان يكون رسم السياسات الستراتيجية موحدا لكل الحقول, الحالية وغير الحالية. وبما ان الفقرتين (112 اولا و112 ثانيا) تبدءان القول بأن ” تقوم الحكومة الاتحادية…الخ” فذلك يعني ان ادارة الحقول الحالية ورسم السياسات الستراتيجية لكل الحقول, يكون بقيادة الحكومة الاتحادية ومشاركة الاقاليم والمحافظات. ويتعزز هذا الرأي من ملاحظة ان ادارة الحقول الحالية تحتاج الى تنظيم بقانون فدرالي ( الفقرة 112 اولا) وان رسم السياسات الستراتيجية جاء مشروطا بتحقيق اعلى منفعة لشعب العراق (الفقرة 112 ثانيا) الذي يمثله مجلس النواب الفدرالي (المادة 49).
ولان الدستور لم يوضح معنى “الادرة” , “السياسات الستراتيجية” و “الحقول الحالية”, فاننا نفترض ان يكون معنى “الادارة” مطلقا يشمل كل ما يتعلق بالعمليات النفطية. ويكون معنى “السياسات الستراتيجية” مطلقا ايضا ويشمل كل السياسات النفطية, من ابرام العقود الى تسويق النفط. أما “الحقول الحالية” فقد فسرها الاقليم بانها الحقول المنتجة حاليا, وفسرها خبراء النفط العراقيين, بانها التراكيب الجيولوجية التي يثبت وجود النفط فيها بواسطة الحفر, بغض النظر فيما اذا كانت منتجة ام لا. علما ان جمعية مهندسي النفط الامريكية (SPE) تعرّف الحقل الحالي بأنه المكان الذي يحوي مكمنا نفطيا واحدا او اكثر. ولم تربط ذلك بالانتاج . ويترتب على هذا الفرق في التفسير ما اذا كان الاقليم محقا (أم لا) في ضم عدة حقول الى صلاحياته كونها غير منتجة حاليا, ومنها حقول طقطق وجمجمال وكورمور وغيرها.
ثالثا- يستند الاقليم, في تفرده بصناعته النفطية, الى ان النفط ليس من الاختصاصات الحصرية (المادة 110) او المشتركة (المادة 114) للسلطات الاتحادية. وان كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية, يكون من صلاحيات الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم ( المادة 115). وان لسلطات الاقليم حق ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقا لاحكام هذا الدستور, بأستثناء ما ورد فيه من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية (المادة 121أولا). ويحق لسلطة الاقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الاقليم في حالة وجود تناقض او تعارض بين قانون الاقليم والقانون الاتحادي بخصوص مسألة لا تدخل الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية (المادة 121ثانيا).
رابعا- وفي المقابل, تستند الحكومة الاتحادلة الى ان النفط هو ملك كل الشعب العراقي وهي التي تمثله (المادتان 111 و49) وانها من يجب ان يقود رسم السياسات الستراتيجية للصناعة النفطية العراقية (المادة 112 ثانيا) وان اختصاصاتها الحصرية تشمل رسم السياسة الخارجية والتفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية وسياسات الاقتراض والتوقيع عليها, وابرام ورسم السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية. كذلك رسم السياسة المالية وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الاقليم والمحافظات في العراق, ووضع الميزانية العامة للدولة (المادة 110 اولا وثانيا). اضافة للمادة (130) التي تبقي التشريعات النافذة معمولا بها ما لم تلغ او تعدل. والمادة (120) التي تسمح للاقيم بوضع دستور له على ان لا يتعارض مع احكام الدستور الاتحادي. والمادة (91) التي يمارس بموجبها مجلس القضاء الأعلى الاشراف على القضاء الاتحادي, والمادة (93) التي بموجبها تختص المحكمة الاتحادية العليا برقابة دستورية القوانين والانظمة النافذة وتفسير نصوص الدستور.
خامسا- وهنا نسأل, وسط هذه الفوضى الدستورية, وبدءا من الاخير .. هل أدّت المحكمة الاتحادية العليا واجبها وقامت بتدقيق القوانين التي أصدرها الاقليم, ومنها دستور الاقليم وقانون نفطه, للتأكد من كونها لا تتعارض مع الدستور الاتحادي؟. والسؤال الآخر هو.. هل ان المواد الدستورية التي استند اليها الاقليم في تبرير تفرده النفطي, تنسخ (تلغي) المواد المقابلة؟. أي هل يتضمن الدستور ناسخا ومنسوخا؟. أذا كان الجواب, كلا لا يجوز ان يتضمن الدستور ناسخا ومنسوخا, فكيف اذن نفسر هذه الفوضى الدستورية؟. الجواب على ذلك هو ان المواد الدستورية التي يستند اليها الاقليم والواردة في (ثالثا) اعلاه, تخص الامور التي ليس لها نصوص دستورية تعالجها. وبما ان النفط له نصوصه الدستورية الخاصة به ( المادتان 111 و112) فيجب الالتزام بها,حرفيا.
اما الاراضي المتنازع عليها, فقد انفردت المادة (140) من الدستور بمعالجتها. وجاء فيها ان انجاز هذه المادة يتطلب ” التطبيع, الاحصاء وتنتهي بأستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها لتحديد ارادة مواطنيها في موعد اقصاها 31- 12-2007″. ونظرا للظروف الراهنة وما صاحبها من تهجير واسع في كل ما يسمى بالاراضي المتنازع عليها, فقد بات تطبيق المادة 140 أمرا صعب المنال, ويستدعي التأجيل لحين عودة الامور الى طبيعتها.
2- التمرد الكبير
ان سقوط الموصل المدّوي, في العاشر من حزيران 2014, على يد الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) واعوانها المتمردين, احدث صدمة عنيفة في العراق خاصة والعالم عامة. ومما زاد من حدة هذه الصدمة هو التمدد السريع لداعش واعوانها ووصولهم اطراف بغداد ومشارف اربيل, خلال بضعة ايام. والغريب انه رغم هذا الفشل الامني الكبير, لم تظهرأجابات شافية عن أسباب ما حدث. فالحكومة العراقية قالت, على لسان الناطق الرسمي للقائد العام للقوات المسلحة, انها مؤامرة وخيانة عظمى لهذا البلد. ولكن لم نسمع بأن احدا اتهم وقّدم للمحاكمة بهذه التهمة. ولم نسمع ان احدا اعترف بتقصيره واعتذر للشعب العراقي عن هذا التقصير. وقال مسؤولون كرد, لا توجد شراكة حقيقية, رغم انهم شبه مستقلين.
أما المعارضة المتمردة, فقالت أنه التهميش والاقصاء. ومما حدث يبدو أن هذه التهمة كانت من اخطر التهم التي تعرضت لها الدولة العراقية منذ عام 2003. اذ تم استخدامها بنجاح لتحشيد وتحريض الناس ضد الحكومة, ومن ثم لتبرير التمرد المسلح, بقيادة داعش والبعثيين. وفي حينه لم يكن واضحا ما اذا كانت الحكومة منتبهة لخطورة هذه التهمة ومدى ارتباطها بما كان يجري في ساحات الاعتصام من تحريض وتحشيد بقيادة داعش ( بأعلامهم السوداء) والبعثيين (بأعلامهم القديمة). ومع اعتقادنا بأن الحكومة لم تعرف كيف تتعامل مع ساحات الاعتصام, الا انه لا من شئ يمكن ان يبرر تمردا مسلّحا يؤّدي الى تخريب البلد وتسليمه الى قوى الشر والتخلف.
ومع كل ما حدث, يبقى التعامل, مع من يريد الابقاء على وحدة العراق, أسهل منه مع من لا يريد ذلك. واذا ما بدأت المفاوضات مع المناطق المتمردة, فمن المتوقع ان تشمل مطالبهم (1) صلاحيات واسعة لمحافظاتهم أوالأقلمة (2) تنمية ثروتهم النفطية المعروفة وتنشيط الاستثمار في عمليات الاستكشاف عن النفط والغاز, في مناطقهم الواعدة (3) حل المليشيات جميعا (4) مشاركة اوسع في الاجهزة الامنية. وفي المقابل على الحكومة ان تكون متهيأة ولها ستراتيجية تغطي المدى البعيد بالاضافة للمدى القريب. وقد تساعد الملاحظات التالية في بلورة مثل هذه الستراتيجية
اولا- ربما يشكّل قانون المحافظات رقم 21 لعام 2008 المعدل, المزمع تطبيقه خلال العام القادم, بداية جيّدة لتطبيع الامور في المناطق المضطربة. لكنه قد لا يكون كافيا لوحده على المدى المتوسط والبعيد. اذ ان هناك قضايا ستراتيجية, من اهمها المياه, يمكن ان تكون مصدرا لخلافات جديدة ما لم يصار الى علاجها مسبقا. علما ان المادة الدستورية رقم (114 سابعا) نصّت على ” رسم سياسة الموارد المائية الداخلية وتنظيمها بما يضمن توزيعا عادلا لها. وينظم ذلك بقانون”. ومن المؤكد ان تشريع هذا القانون التنظيمي سريعا, يكون في صالح الجميع.
ثانيا- وهناك قانون تنظيمي آخر نصّ عليه الدستور, ولم يشّرع لغاية الآن رغم اهميّته, الا وهو القانون المتعلق بتنظيم ادارة النفط والمشار اليه في المادة (112 أولا) من الدستور. وهذا القانون من شأنه ان يشرح المصطلحات الواردة في المادة (112) وينظم العلاقة الادارية, للحقول الحالية والمستقبلية, بين الحكومة الاتحادية من جهة, والاقاليم والمحافظات غير المنتظمة باقليم, من جهة اخرى. ولو كان هذا القانون التنظيمي قد شرّع في حينه, قبل مشروع قانون النفط, لكان قد ساهم في حل بعض الامور الخلافية, ومن اهمها دور الحكومة الاتحادية في ادارة الحقول المستقبلية.
ثالثا- اضافة لحل جميع المليشيات, هناك حاجة لتفكيك سطوة ونفوذ العشائر. فهم اصبحوا جزءا من المشاكل, وليس العكس, كما يتبين من الأحداث الاخيرة ومن الأنتشار السلبي للعرف العشائري. وللعلم, فأن النفوذ العشائري كان قد انتهى بعد صدور قانون الاصلاح الزراعي عام 1959, لكنه ظهر ثانية في ثمانينيات القرن الماضي, بتشجيع من الدولة لأسباب سياسية. وبعد ان ساهمت العشائر في محاربة القاعدة عامي 2006 و2007, زاد الاهتمام بها وتطور نفوذها ليصبح ما عليه الآن من قوة وسطوة.
*) خبير نفطي عراقي
الاراء المطروحة في كل المقالات المنشورة على موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين لاتعكس بالضرورة رأي هيئة التحرير وانما رأي كاتبها فقط والذي يتحمل لوحده المسؤلية العلمية والقانونية
حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية