قرأت مقال الزميل مهدي البناي، ولست في مجال إستعراض محتوياته، ولكني أود التعليق على بعض النقاط المحورية الواردة في المقال؛
أولا، أقيمت أهم معطيات وفروض المقال على أن المجتمع العراقي هو في الحقيقة غير موّحد، ولم يكن كذلك إلا بفعل القوة القاهرة منذ العهد الملكي، وقبلها كان منقسم الى ثلاث ولايات عثمانية.
ثانيا، بعد الإحتلال الأمريكي للعراق في 2003، قسّم المحتل الشعب العراقي الى مكونات مذهبية وعرقية؛ شيعة، سنة، كرد، طوائف أخرى، ومكّن القوى والكتل السياسية التي وفدت معه على هذا الأساس، حتى مجلس الحكم تشكل على أساس حجوم هذه المكونات. وإستتبع ذلك صراع طائفي مرير بين الغالبية الشيعية والسنة، الأقل حجما، بينما عزز الكرد إستقلالهم الإقليمي، مع إبقاء المشاركة مع الحكومة المركزية لإغراض نفعية، أي لإستلام حصة مهمة مناسبة من عائدات النفط. دون ذلك، فليس لما يُسمى بالحكومة الإتحادية أي تأثير أو قول في شؤون الإقليم الكردي، الى درجة أنها لا تستطيع أن تمرر شرطي واحد داخل الإقليم، ولا تجبي رسوم كمارك ولا ضرائب، والآن هي تفقد حتى حقها الدستوري لإدارة وتسويق النفط في كركوك وفي الحقول النفطية في الإقليم أو في الأراضي المتاخمة لحدوده والتي سماها بالمتنازع عليها.
ثالثا، حتى القادة الشيعة في المجلس الأعلى دعوا الى إقامة إقليم للوسط والجنوب للشيعة، وذلك الى جانب تصاعد دعوات لا تنته لإقامة إقليم للسنة في غرب وشمال العراق. فضلا عن هذا وذاك جرى تكريس التمايز الفئوي المذهبي والديني والعرقي بلا هوادة من قبل الكتل السياسية المتشظية على نفس الأسس.
رابعا، أزاء هذا الوضع لا تتوفر قوة قاهرة لفرض وحدة العراق ولإقامة نظام حكم على أساس الإنتماء العراقي وليس الفئوي. خلق هذا الأمر صراعات سياسية، جرت مفاقمتها بتمردات عسكرية وبقيام مليشيات للمواجهات و حتى التصفيات. في حالة كهذه، يطرح الزميل البناي تساءله عن جدوى وحدة العراق، وبأن التقسيم ربما هو الخيار الأنسب للحفاظ على حياة الناس من القتل والتذابح، وبالذات بالنسبة للشيعة الذين يملكون الثقل النفطي في وسط وجنوب العراق.
خامسا؛ ملاحظاتنا:
1. صحيح، من الناحية التقريرية، أن صراعات فئوية مرّة قد تمترست بفعل السياسيين الطائفيين والعرقويين، ومع ذلك يبني الباحث تحليله على إعتبار أن هذه الصراعات ذات المغازي السياسية والسلطوية قبل كل شيء هي العامل الحاسم الذي لا يُعالج إلا بالتقسيم أو بالتجزئة الإقليمية، كما يرى الكاتب. هنا أهمل زميلنا تحليل العامل الإقتصادي والجيوإجتماعي. والسؤال، هل ستُخلف التجزئة أو التقسيم الى ثلاثة أقاليم؛ كردي، وهو موجود بالفعل الآن، وشيعي في الوسط والجنوب وسني في شمال وغربي العراق، كيانات قادرة على النمو الذاتي والتصنيع والإستدامة؟ فمعلوم، أن الحجوم السكانية في الأقل في الإقليم الكردي والسني سوف لا توفر سوق محلية لمساندة التوسع في بناء المشاريع الإنتاجية، ما عدا بعض حقول النفط. ثم، أيضا، أين هي الموارد غير النفطية المتاحة في كل الأقاليم على حدة؟ سوى أن إقليم الوسط والجنوب ربما هو أغنى نسبيا من حيث المساحات الزراعية المتاحة. ومعلوم، أن الإقتصاد العراقي بكامل كياناته هو في حالة تخلف إنتاجي فظيع ويعتمد لسد قوته من الموارد الريعية التي تهيمن عليها الحكومة.
2. مما تقدم يتضح أن الموارد النفطية هي شريان الحياة ليس فقط للعراق ككل، إنما بشكل اشد بالنسبة للإقليمين الكردي والسني منه بالنسبة للإقليم الشيعي. إذن سيدور صراع مرّ على هذه الموارد. أي ليس بإمكان الإقليم الكردي ولا السني مستقبلا أن يكون قادرا على البقاء كإقليم أو شبه دويلة بدون حصة مناسبة من هذه الموارد، لذلك سيتلفعون برداء الشكل الإقليمي الفدرالي، على غرار النمط الكردي، لتنطلق بعد ذلك صراعات مريرة لإستهلاك العائدات النفطية لبناء كيانات هلامية؛ حكومات، مؤسسات، شرطة، جيوش أو مليشيات، وهياكل وربما حواجز حدود، الى آخره. إذن ستُستهلك العوائد النفطية، بإفتراض قبول توزيعها حسب الحجوم السكانية. أما إذا قال إقليم الوسط والجنوب، نفطنا لنا، إنفصلوا أنتم الآخرون إن شئتم؟؟؟ حين ذاك ستنشب صراعات أو محاولات لتركيع إقليم الوسط والجنوب، بما في ذلك اللجؤ لقطع المياه أو تخريب السدود، الى آخره؟
3. نعلم أن جميع دول العالم لديها شعوب متنوّعة دينيا وعرقيا وجتى لغويا وأثنيا، بدرجات متفاوتة، وبعضها كان دول منفصلة، لكن المصالح المشتركة والكفاءة في إستثمار الموارد المتكاملة جغرافيا، أفضت الى أن تتحد هذه الشعوب ولم تنقسم بعد صراعات تأريخية في بعضها، والتأريخ الأوربي يضج بالأمثلة. ولكن المثقفين والعقلانين إستطاعوا إزالة الأوهام وتنوير الناس بالخيارات الأفضل من أجل مصالحهم جميعا، وبرهنوا لهم أنه بالتقسيم والفرقة يخسرون جميعا، وبالوحدة أو الإتحاد يربحون جميعا، اما الدين والصلاة والطقوس فهي لله والناس أحرار فيها. ولكن هذا الوعي لم يكن كافيا، إذ مرت تجارب عسيرة جسدت عقم الإنقسام والتشتت لإسباب دينية أو شابه. وصار الوعي بمصالح العيش المشترك هو المعيار الأساسي والناس أحرار في آرائهم ودياناتهم وطقوسهم، على أن لا يخرقوا النظام العام.
4. نخلص من هذا بأن مسؤولية المثقف العراقي هو أن يشير ببراهينه المقنعة لبيان خطل التقسيم أو التجزئة الإقليمية مقابل التوحيد حتى على الصيغة اللامركزية الموسعة نسبيا، من اجل تحقيق الكفاءة في إستغلال الموارد النفطية لتحقيق تنمية مستدامة متكاملة ومتخادمة جغرافيا. هل يجوز للمثقف أن يتلقف قشور الظواهر وإفتعالاتها الموظفة سياسيا ليستنتج بأن العيش المشترك مستحيل وأنه لا بد من التقسيم أو التجزئة؟. لماذا لا نجهد لإبراز الآثار السقيمة التي سيفرزها التقسيم أو التجزئة بصياغة أقاليم على جميع الكيانات الفئوية المشكلة كأقاليم. إذا كان هناك رفض لمركزية شديدة، فهناك أنماط رحبة من اللامركزية الديمقراطية التي تكفل العيش المشترك من خلال الإستخدام الكلي الأمثل للموارد لصالح كل العراقيين في جميع مناطقهم ومحافظاتهم أو شبه أقاليمهم. في وحدة العراق مصلحة للسنة والشيعة والكرد. في مقال سابق حول تقسيم العراق، خاطبت سلطة إقليم كردستان، قائلا، ان المخزون النفطي في كركوك وبقية المناطق في الإقليم أو في الأراضي المجاورة له، لا يتعدى ال 40 مليار برميل، وسينضب في أقل من ربع قرن! اما في بقية العراق فالخزين النفطي يبلغ 400 مليار برميل حسب وكالة الطاقة العالمية، اي أنه سوف لا ينضب حتى مرور ثلاثة قرون، بإفتراض تصدير 6 مليون برميل باليوم. وسؤالي كان، هل من مصلحة الكرد أن يبقوا مشاركين في هذه الثروة أم لا؟ فإذا لا، هل يناسبهم الإنفصال؟ وإذا كان الغلو القومي يدفعهم للإنفصال، فمن حقهم المصيري أن يفعلوا ولكن، بدون الإضرار ببقية العراق. في هذه الحالة، ليتوكلوا وينفصلوا إذن؟
5. هناك كتّاب شيعة، مثل السيد سامي العسكري، فهو يدعو لإنفصال الشيعة في الوسط والجنوب، بإعتبارهم مالكي الثقل النفطي والمساحة والسكان. وكنا قد بينا في مقال خاص كيف أن هذا الإقليم في وسط وجنوب العراق سيستنزف، وربما يُزج في مزيد من التفتت؛ هناك دعوة لفدرالية البصرة، بل وهناك دعوة لإقامة جمهورية سومرية في ذي قار!!؟؟ كما سيحاصر هذا الإقليم من الشمال والغرب والجنوب؛ الخليج العربي، وربما ستهيمن عليه إيران لاحقا.
نخلص من كل ما تقدم بأننا نأمل من الكتّاب والمختصين العراقيين بان لا يسمحوا للأمواج الطائفية والسياسية أن تركبهم، بل أن يجابهوها بالحجج الدامغة، فثمة حرب مقدسة لإنقاذ العراق والعراقيين من الفناء والتلاشي، فهل نفعل؟
(*) باحث وكاتب إقتصادي، مستشار سابق للامم المتحدة
الاراء الواردة في كل المقالات المنشورة على موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين لاتعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير، وانما عن رأي كاتبها فقط، وهو لوحده يتحمل المسؤولية العلمية والقانونية
السلام عليكم, تحليل اقتصادي جميل ودقيق لسلبيات التقسيم الذي اراه يلوح في الافق اذا ما استيقضت فينا روح العقلانيه و المصلحة العامة و رفع رايه الوطن اولا.
لكن باباضافة الى هذه السلبيات ارى ان هناك صراعا دوليا بين من يريد تقسيم العراق ليسيطر على اجزاء منه و قد ذكرت مثالا ان ايران لربما ستسيطر على اقليم الجنوب الشيعي ولكن هناك ايضا ميول اوروبيه لان ينفصل كردستان بعد ان يسيطر على عدة منابع نفطية و غازية ليمد الاتحاد الاوروبي بالغاز و النفط و يقلل من تاثير الغاز و النفط الروسي فهل ستكون روسيا في موقف المتفرج من ذلك وهي التي تعمل جاهدة على ان تخضع اوروبا لسيطرتها عبر التحكم في الطاقة و مصادرها والدور التركي الذي يلعب على جميع الحبال.
السعودية من جعة اخرى والتي تمتلك احتياطي نفطي كبير يقع معظمه على اراضي يسكنها الشيعة و متاخمة للاقليم الشيعي المزمع تشكيله , هناك ستكون المخاوف كبيرة وخطيرة ان يشجع تقسيم العراق شيعة السعودية على تكرار التجربة والانفصال عن المملكة.
وشكرا جزيلا لكم