د. علي الورديدراسات اجتماعية وثقافية

د. إبراهيم الحيدري: على الوردي ونقد العقل البشري

مقدمة

يرى الأنثروبولوجيون، بأن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يمتلك القدرة على تحكيم العقل تحديداً، وذلك لأنه يمتلك عقلا يفكر به ولغة يتفاهم بها ويداً ينتج بها ما يلزمه في حياته اليومية. وهذه الخصائص تجعل منه انساناً عاقلاً يتميز عن غيره من الكائنات الحية الأخرى.

وجاءت كلمة العقل Reason عند الفلاسفة الغربيين من الكلمة اللاتينية Ratio باعتباره ملكّة خاصة بالإنسان التي من خلالها يمكن أن يفكر. فهو أداة حركة الفكر ومراقبته وباعثه على الفعل، وهو القوة التي يحصل بها تصّور المعاني وتأليف القضايا والأقيسة.  ويتميز عن الحس كونه يستطيع ان يجرد الصورة عن المادة. فالعقل هو قوة تستطيع إدراك المعاني الكلية. وهو عند ديكارت قوة الإصابة في الحكم، أي تمييز الحق عن الباطل والخير من الشر والحسن من القبيح. وان جميع الأشياء ترجع في الأصل الى أسباب معقولة، ويختلف العلماء في ذلك، فالعقلانيون يذهبون الى استقلال العقل عن التجربة، لأنه ذو نزعة ذاتية تأملية (ديكارت) والتجريبيون (جون لوك وهيوم). يعتبرون ان العقل يقوم على التجربة.

ويرى الفلاسفة الغربيون ان لا حدود للعقل إلا تلك التي يضعها العقل نفسه واعتقدوا بأن ” نقد العقل المجرد ” هو امتداد وحدود هذا العقل، وان من طبيعة العقل ان يقوم بنقد ذاته، فالعقل هو الملكّة التي تمدنا بمبادئ المعرفة، وان وظيفته ليس التوسع في المعرفة، وانما تطهيره وتخليصه من الأوهام.

هذا الافتراض الكانتي، الذي يرى بأن للعقل طبيعة ثانية في الانسان وجهت له انتقادات من كل من كارل ماركس وسيغمويند فرويد وجارلس دارون . فهم أكدوا على دور الدوافع والرغبات والانفعالات والمصالح في توجيه العقل نفسه. وقد أحل هيغل التغير محل الثبات وبذلك أصبحت طبيعة العقل في تناقض، وان كان جوهر التاريخ ومحركه، وأصبحت مهمة العقل عند كارل ماركس هي نقد الواقع من أجل تغييره.(أبو السعود، 2005 :41-43)

 والعقل ليس جوهراً ثابتاً، فهو ليس جهازاً محايداً وظيفته التفكير، وهو ليس نقياً وبريئاً ولا ثابتاً يستقبل المعلومات كالكومبيوتر، وإنما هو نشاط فكري تشكله نظم المعرفة وممارستها في الواقع.

والعقل نسبي في المكان والزمان ويكتسب خصوصيته بالضرورة بقدر ما ينتج من معرفة عن العالم وبقدر ما يسهم في صنع المعرفة. ومن هنا قامت العقلانية على الاقتناع بمحدودية العقل البشري واتهامه بالقصور وتلبسه بالأوهام وانسيابه مع الأهواء.

ان هذه الفكرة ليست جديدة فالفلاسفة الاغريق أشاروا الى عجز العقل البشري عن اكتشاف أسبقية الجهل المركب، مما جعله مهيمناً عليه، بحيث يتوارث هذ الجهل جيل بعد جيل.

ان هذا الاكتشاف المفصلي في تاريخ الفكر الفلسفي أدى الى استنفار الفاعلية النقدية لإخراج الانسان من جهله وقصوره وايقاظ الشك فيه ليدرك بأن هذا الجهل المزمن الذي يستولي على ذهنه لم يتعرض لأي فحص ونقد ومراجعة. وهذا الجهل ليس محصورا بأمة دون أخرى، لأن الناس في كل العصور وفي جميع الثقافات يعتبرون ان ما هم عليه وما توارثوه إنما هو حقائق خالدة لا يشوبها الشك. (الحيدري 2012: 62)

ان توهم الكمال بما هو موروث انما هو تعطيل للعقل البشري. وان من مميزات العقلانية هو اقتناعها بقصور العقل البشري وقابليته على الزلّل. وهذا يستدعي المراجعة المستمرة للثقافات السائدة، مثلما يستدعي النقد والتمحيص والمراجعة لتخليص العقل البشري من براثن القصور. والعقلانية حين تعترف بمحدودية قدرات العقل، فإنها تثق بقابليته على نقد ذاته واكتشاف قدراته والإيمان بأنه لا يكتسب القدرة إلا بالنقد والتحدي والمواجهة، وان العقل المكتفي بذاته، فإنه يتوقف عن النقد والنقد الذاتي فلا يتطور وانما يميل الى الركود والتحول الى عقل أداتي يستغله الآخرون. (البليهي2007)

وكان رواد مدرسة فرانكفورت أول من دعا الى نقد العقل ومحاولة إنقاذه من براثن الهيمنة التي فرضتها الفلسفة الوضعية والامبيريقية التي أفسدت العقل الغربي وحولته الى عقل أداتي، منطلقين من أن النظرية النقدية وضعت العقلانية على محك التساؤل والشك. وما كوارث القرن العشرين من الحروب العالمية والأهلية والاستعمار والكوارث البيئية الا من نتائج تلك الهيمنة اللاعقلانية على العالم.

لقد اعتبر مفكرو مدرسة فرانكفورت النقدية بان كلمة ” العقل ” تعني معرفة الأفكار ومحاولة استيعابها وهو هدف البشر. غير ان ما حدث كان عكس ذلك، حيث أصبح دور العقل وعمله الأساسي هو إيجاد وسائل في خدمة الغايات التي يتبناها كل فرد في لحظة معينة. وهذا ما أكد عليه ماكس هوركهايمر (1895-1973) حيث قال، بان النزعة العقلانية لعصر التنوير تضمنت في الأساس تصوراً للطبيعة كموضوع للسيطرة عليها والتحكم فيها واستغلالها، وهذا التصور كان قد أدى بالضرورة الى نظرة متماثلة للإنسان ذاته حيث أصبح الانسان، في علاقاته الاجتماعية المتبادلة، كموضوع للسيطرة أيضا.

ان تدهور العقل الموضوعي وتحوله الى عقل أداتي حدث بعد صعود عالم الصناعة التايلرية والستالينية والنازية وتشكل عالم القوة والجبروت الذي سعى الى تحقيق المصالح المادية التي تعمل على تدمير العقل، لأن المصالح المادية هي عدوة العقل، كصورة جوهرية للوجود.  )    (Horkheimer1969:108f

لمواصلة قرأة البحث انقر هنا لتنزيل ملف بي دي أف

(*) أستاذ مشارك في الاثنولوجيا الإجتماعية

(**) بحث مقدم الى مؤتمر مئوية الدكتور علي الوردي والذي انعقد في الجامعة الامريكية – بيروت خلال الفترة 25-26 شباط (فبراير)2014. نشر البحث في المجلة العالمية للدراسات العراقية المعاصرة :

International Journal of Contemporary Iraqi Studies,Volume 8 Number 1, intellect Journal,USA  2014

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: