ما اثار رغبتي بالكتابة مرة اخرى حول البعثات والدراسات العليا هو قرار التعليم العالي بالغاء الاجازات الدراسية لطلبة الدراسات العليا من الموظفين المقبولين على دراسة شهادتي الدكتوراه والماجستير لهذا العام وإيقاف اجراءات ابتعاثهم الى الخارج. ويبدو ان سبب القرار هو لعدم توفر التخصيصات المالية لهذا العام، لذا يبقى احتمال اعادة فتح الاجازات بعد انفراج الوضع الاقتصادي للبلد.
من الطبيعي ان يثير قرار كهذا سخط وشجب مئات من الموظفين الذين وقعوا في ورطة القرار وليس لهم ذنب، ولِما تسمح به الدولة كجزء من سياسة قديمة للبعثات الدراسية، والتي يبدو انها بقيت بدون مراجعة، حالها حال عدد كبير من القوانين والاجراءات التي لم تتغير بالرغم من تغير ظروف وواقع التعليم العالي في العراق والتطور الهائل في انظمة التعليم على الصعيد العالمي.
سياسة البعثات والإجازات الدراسية والدراسات العليا فيها اشكالات ومشاكل عديدة يمكن اختصارها بما يلي:
1- عدم حصر الابتعاث او تركيزه بالجامعات المتميزة في الدول الامريكية والاوربية والاسترالية، فليس من الصحيح ان يكون غرض الابتعاث هو الحصول على شهادة عليا فقط. الشهادة التي تصرف عليها اموال الدولة بمئات الالاف من الدولارات يجب ان تكون محصلة للخبرات والتجارب والمعارف المكتسبة من جامعة راقية ومن بيئة الجامعة وبلدها المتطور. ولهذا السبب كان لدينا في العراق اساتذة متميزين من امثال علي الوردي وفرحان باقر وسالم الدملوجي ومحمد مكية وبهنام ابو الصوف وعبد الجبار عبد الله وفخري البزاز ومحسن مهدي وعبد الكريم الخضيري وعباس الرشدي وريمون شكوري ومحمد واصل الظاهر وسامي المظفر وجاسم الحسيني وغازي درويش وصبري فروحة ومهدي حنتوش وجميل الملائكة وعشرات غيرهم من الاساتذة المتميزين.
2- ابتعاث ومنح اجازات دراسية لاعداد هائلة من غير الموهوبين او المتميزين، ومن الذين لا يستحقون الابتعاث، تنفيذا لسياسة تغليب الكم على النوع، وهو برأيي هدر لأموال الدولة واغراق الجامعات بغير الكفؤين، فالكفاءة لا تتحدد بالحصول على الدكتوراه حيث وفي هذه الايام يستطيع من هب ودب الحصول عليها من اشباه الجامعات “العالمية”.
3- ندرة وجود مبتعث يدرس في جامعة لها منزلة بين اعلى 20 جامعة عالمية.
4- في معظم الجامعات لا يحصل طلبتنا على تدريب في مهارات الابتكار والتعلم والاتصال والاحتراف والإدارة والتدريس او اية مهارات اخرى خارج نطاق مشكلة البحث الخاصة.
5- التأكيد على الاختصاصات التقليدية كالكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والتي تحتاجها الجامعات في يومنا هذا وندرة الاختصاصات في المجالات التي يحتاجها المجتمع والاقتصاد الوطني و الاختصاصات المستقبلية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: التمريض والتلوث البيئي والتصحر وتنقية المياه وإدارة الجودة واقتصاد السوق وحل الصراعات وادارة الازمات وعلوم التأهيل الصحي وطب الطوارئ وهندسة المواد الجديدة والبترول والطاقة البديلة.
6- عدم وجود فهم واضح لحالة التعليم العالي واحتياجات المجتمع والسوق في المستقبل لتحديد الاولويات في مواضيع الابتعاث. على سبيل المثال اكد احد رؤساء الجامعات العراقية في اجتماع ضم بعض رؤساء الجامعات البريطانية على ان اوليات الابتعاث هي في مواضيع النانوتكنولوجي والخلايا الجذعية مما ترك رؤساء الجامعات البريطانية فاغري الافواه لا يعرفون عن ماذا يتحدث هؤلاء.. هل هم من العراق بما يعانيه من تخلف ومشاكل ام انهم من هارفرد وكمبردج.
7- تحديد موضوع البحث (والذي يعتبر العمود الفقري لشهادة الدكتوراه) مقامرة او (حظ ونصيب) بكل معنى الكلمة. اذا كان مصير الطالب ان يقبل في جامعة جيدة وله مشرف متميز فاحتمالات ان يكون بحثه في صدارة العلم وان يتمكن الطالب من نشر عدة بحوث وفي مجلات مرموقة، اما اذا كان مصير الطالب ان يقبل في جامعة من الدرجة الثانية او الثالثة ومشرفه غير مهتم بنوعية بحوثه فان موضوع البحث وعلى اكثر احتمال سيكون عديم الاهمية.
8- عدم وجود سياسة تأهيل للمبتعث قبل سفره او متابعة اكاديمية واجتماعية ولغوية للمبتعث خلال وجوده في بلد الدراسة او اهتمام خاص به بعد رجوعه للوطن ولغرض تحقيق افضل استفادة من مهاراته التي اكتسبها خلال وجوده في دولة الدراسة.
9- ضعف اللغة الانكليزية يحول دون الحصول على قبول من جامعة رصينة ويؤدي عدم الالمام باللغة الى ضعف تحصيل الطالب ومحدودية معلوماته المكتسبة وانعدام الاتصال والتواصل مع الباحثين والعلماء خارج موقع دراسته.
10- ندرة عدد المبتعثين في الدراسات الانسانية والاقتصادية والادارية والتاريخية والاجتماعية واللغات. برأي ان اولويات البعثات يجب ان تكون في اللغات قبل ان تكون في الطب والهندسة والعلوم. نحن شعب لا يستطيع التواصل باللغات العالمية، ولا نستطيع التخاطب باهم لغة عالمية وهي اللغة الانكليزية، وضعفنا هذا لا يعود الى عدم رغبتنا في تعلمها بل يعود ذلك الى ضعف النظام التعليمي الاساسي والجامعي في تعليم اللغات. أكد لي مرة احد اساتذة الجامعات العراقية بأنه واضح للعيان ان معظم من يدرس اللغة الانكليزية هم من لا يجيدون التكلم بها.
11- الاهتمام الوحيد بالشهادة الاكاديمية بدون تقييم لمحتوياتها واهمال التدريب المهني والتقني. فلم يعد للعلم اهمية والاهتمام هو في الشهادة السحرية التي تعطي الحق لصاحبها في وظيفة “محترمة”، وعلى حد قول احد التدريسين (تحول كل شئ الى سلعة ولا شك ان العلم والثقافة من السلع المعروضة فى السوق الثقافى والعلمى وسلعة العلم رخيصة فى بلدنا ولأنها سلعة رديئة فانها تطرد منتجات العلم والتكنولوجيا الجيدة).
12- الاجازات الدراسية وسيلة للتحايل على شروط البعثات المتضمنة التفوق العلمي والاكاديمي ومن حيث انها تختلف عن البعثات بعدم وجود شروط للمفاضلة والانتقاء.
13- عدم وجود سياسة للاستفادة القصوى من المعارف المتوفرة لطالب البعثة خلال سنوات دراسته في الخارج يؤدي الى ضعف خطير وغير قابل للعلاج في معلومات ومهارات حامل الشهادة العليا بحيث وفي اسوأ الاحوال لا تتمايز هذه المعلومات كثيرا عن حامل شهادة الدكتوراه المحلية ولربما تكون اقل منها، مما يثير السؤال عن جدوى صرف معدل 200 الف دولار على المبتعث مقابل بضعة دولارات على طالب الدكتوراه المحلية.
14- عدم وجود سياسة فعالة لضمان رجوع المبتعث الى الوطن يؤدي بالخصوص الى خسارة الكفاءات المتفوقة التي تبتلعها اسواق العمل الانتقائية في البلدان الغربية، بالاضافة الى انه وفي حالة رجوع المبتعث الى الوطن يُترك لنفسه ليعاني من الروتين والاهمال وليصبح بمرور الزمن تدريسيا محبطا مكتئبا يبحث عن وظيفة ادارية بدلا ان يكون عالما مرموقا.
15- تعيين من حصل على الدكتوراه تدريسيا في الجامعات وكأن ذلك حق طبيعي ومن دون الحاجة الى خبرات اخرى مما يعني ان الدكتوراه في نظر الجامعات العراقية تؤهل حاملها للتدريس بينما هي مجرد شهادة تؤهل صاحبها للبحث العلمي. كما لا تتضمن عملية التعيين انتقاء او اختيار لافضل العناصر الاكاديمية فالجميع متساوين طالما هم حاملين للشهادة السحرية.
وفي ضوء ما سبق من خلاصة لأهم مشكلات سياسة البعثات والدراسات العليا في العراق اقدم بعض المقترحات التي يمكن ان تكون جزءاً من خطة شاملة لإصلاح نظام التعليم العالي. الاصلاح الذي طالما نادينا به حتى بح صوتنا وجف قلمنا، ولكننا مع ذلك سنستمر لأنه ليس لدينا بديل آخر افضل. والمقترحات هي كالاتي:
1- فصل بعثة تعلم اللغة عن بعثة الاختصاص. وتحصر بعثات الاختصاص بمن اجتاز امتحان اللغة الانكليزية وبمعدل لا يقل عن 600 نقطة في امتحان التوفل او 6.5 لنظام فحص اللغة الانكليزية العالمي حتى ولو كانت متطلبات الجامعة اقل من هذه المعدلات. ويعود سبب ذلك الى اهمية اللغة في اكتساب المعارف، وبدون لغة قوية لا يحصل الطالب إلا على الشهادة فإذا كان هذا هو الهدف من الابتعاث فلا داعي للاهتمام باللغة اما كان الهدف هو بناء طالب مبدع ومتميز وقوي في المعارف والعلوم فلا بد من تزويده بالأدوات اللازمة لكي يتمكن من الخروج الى عالم الجامعة الواسع والمجتمع الجديد ويبني علاقات واسعة خارج اطار علاقات الطالب بمشرفه وببيئة مختبره و”بالقنوات العربية”.
2- دمج البعثات والاجازات الدراسية، وتوحيد مهمة الابتعاث في مؤسسة واحدة. من يرغب بالدراسة في الخارج ويستحق الابتعاث يجب عليه ان يضع مؤهلاته في منافسة مع الآخرين ضمن برنامج رصين وعادل للبعثات لكي نمنع اي شخص غير كفؤ من استغلال اموال الدولة للحصول على شهادة عليا فليس من العدل ان نرى موظفا معدله في البكلوريوس 55% يدرس على حساب الدولة في جامعة “عالمية” بائسة ليحصل على الدكتوراه من دون نشر بحث واحد او ان يدخل في اي منافسة مع اقرانه ليتعين كمدرس في الجامعة، وكأن التعيين في الجامعات حق لكل من حصل على الدكتوراه.
3- تجميد الدراسات العليا المحلية للدكتوراه لفترة خمسة سنوات في الدراسات العلمية الصرفة والتطبيقية وتلك التي تعتمد على توفر المختبرات والاجهزة والمرافق المتطورة. تتميز بحوث الدراسات العليا حاليا بالسطحية وانعدام الاهمية وتعتمد على الاجترار والاقتباس والتكرار. مرة كتب لي احد اصدقائي يوضح لي الانحطاط الذي وصلت اليه الدراسات العليا وفيها يقول: (الدراسات العليا لم تعد سوى لعبة نسعى لتقليدها لكننا لا نعرف قواعدها وعادة لا يفقه الاستاذ المشرف بموضوع البحث ولكن ذلك لا يهم طالما ان الطالب سيقدم اطروحة ستنال درجة امتياز). وتسائل صديق آخر: (هل تسنى لك ان تحضر مناقشة أحد رسائل الماجستير أو الدكتوراه؟ دعني أدعوك للحضور اذا رغبت وستشاهد المأساة). في عام 2003 تسنى لي مراجعة عشرات الاطروحات العلمية في جامعة بغداد والمستنصرية ولا اتذكر اني اطلعت على اطروحة واحدة تخلو من السرقة العلمية والاقتباس غير المشروع، ويبدو حسب ما يكتب لي زملائي من التدريسيين في الجامعات العراقية بان الحالة هذه لم تتغير كثيرا في يومنا هذا. لماذا نستمر في دفن رؤوسنا في الرمال كالنعامة؟ ولماذا يصمت الاساتذة الخيرين في الجامعات العراقية في وقت يحتاج فيه التعليم العالي الى نقدهم وتصحيحهم لمساره؟ لا يتبادر الى ذهني سوى جواب واحد هو الخوف من الفضيحة ومن عواقب الامور. بلا شك ان هذا السكوت يتعارض مع مصالح الجامعة والتعليم العالي والوطن و إلا لما سبحوا في فلك الصمت.
4- ربط دراسات الماجستير بحاجة الدولة والسوق وحصرها على التدريب العملي لزيادة الكفاءة والمهارات، مع ضرورة الغاء الامتيازات التفضيلية للقبول والممنوحة لبعض الفئات الاجتماعية فهي غير مقبولة ابدا، وعلى حد قول احد اصدقائي التدريسيين متعجبا: (لا ادري أي علاقة بين كون المرء ضحية للإرهاب وبين الحصول على شهادة اختصاص في احد فروع الطب).
5- وقف تعيين حملة الماجستير او ما يعادلها في الجامعات العراقية كتدريسيين الا في الاختصاصات التي لا تعتمد بالضرورة على شهادة الدكتوراه الاكاديمية كالفنون والطب السريري واللغات وعند توفر الخبرة اللازمة.
6- فتح مجال التعيين لوظيفة باحث بعد الدكتوراه لاستيعاب حملة الدكتوراه ومنحهم فرص التدريب البحثي وتأهيلهم للعمل الاكاديمي في الجامعات كما هو معتاد عليه في الجامعات الغربية.
7- الغاء شرط نشر البحوث لغرض الترقية وذلك لهزالة القاعدة البحثية في الجامعات ولغرض الحد من الاقتباس والسرقات العلمية ونشر البحوث الضعيفة في مجلات “عالمية” وهمية وزائفة، مع اعتبار الترجمة والتأليف وخدمة المجتمع شرطا من شروط الترقية. حاليا تتضمن البحوث والاطاريح وحسب تعبير احد التدريسيين (معلومات وبيانات لا تتصف بالموثوقية بسبب عدم دقة الاجهزة او عدم صحة الطريقة او الاسلوب الذي اعتمد في الحصول عليها ومع الاسف لا يتحقق المقيم من ذلك بل يعتمدها كما جاءت حتى ولو كانت مفبركة او باسلوب الترهيم كا نسميه هنا بالعراق). ويكتب لي تدريسي آخر ليقول: (والله انها مهزلة …مهزلة المجلات العلمية التي تصدر من الكليات كافة وبدون استثناء..هناك بحوث منشورة لا تتعدى جمع كلام من مصادر وبدون تصرف من العنوان والى الاستنتاج). وأستاذ آخر يذكر بان احد العمداء (إستلم درع الأستاذية لأنه نشر 34 بحثاً خلال 3 سنوات. السؤال من قّيم تلك البحوث؟).
8- الاهتمام بتطوير عمل الملحقيات الثقافية وجعلها مؤسسات مستقلة نسبيا لتصبح مسؤولة كليا على متابعة مسيرة وتقدم دراسة الطالب من دون الحاجة الى اشراف دائرة البعثات ومنذ لحظة وصول الطالب لبلد البعثة ولحين رجوعه للوطن، والاستفادة من الاساتذة من اصل عراقي في تقديم المشورة والنصح والاشراف، كذلك الاستفادة من تجارب الملحقيات الثقافية لدول الخليج وماليزيا.
اخيرا أتمنى للجميع عاما جديدا حافلا بالعطاء ومكلل بالنجاح. وأؤكد انني ساستمر في الكتابة لما فيه تحفيز الهمم وتوسيع نطاق المعرفة لتطوير واصلاح التعليم العالي في العراق ومحاربة الجهل والتخريف.أن التأكيد على ما هو نافع ومفيد هو المنطلق الصحيح لتوفير المعارف، بما يّمكن هذه الأجيال والأجيال القادمة من التدريسيين والباحثين والاكاديمين من الإسهام إسهامًا فاعلًا في خدمة جامعاتنا ويساعد المسؤولين على اداء مسؤولياتهم بما يتناسب مع التقدم والتطور الحاصل في الجامعات العالمية.
(*) أستاذ جامعي متخصص في العلوم والتكنولوجيا والتعليم العالي
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية