هناك شبه إجماع على ان العراق كان يمتلك صناعات مشهورة وذات سمعة جيدة وتحظى بالمقبولية لدى المستهلك العراقي، وكان التخطيط حينها ينصب على بلوغ نسبة مساهمة الصناعات التحويلية الى 30% من الناتج المحلي الاجمالي حسب منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) التي تعد ذلك من اهدافها فيما يتعلق بالدول النامية ومنها العراق. ومثل عقد السبعينيات من القرن المنصرم نقطة تحول في هيكل الاقتصاد العراقي، اذ قفز قطاع الصناعات الاستخراجية على حساب القطاعات الاخرى في نسبة مساهمته في القطاعات السلعية في تكوين الناتج المحلي الاجمالي العراقي من 67% في المدة (1973-1976) الى 76% في المدة (1977-1980) مقابل تراجع نسبة مساهمة الصناعات التحويلية من 10% الى 8% لنفس المدد الزمنية على التوالي.
وتشير البيانات الى تغير نسبة المساهمة في الثمانينيات لحساب الصناعات التحويلية بعد تراجع الصناعات الاستخراجية نتيجة الحرب (العراقية – الايرانية) وانخفاض اسعار النفط الخام الى اقل من 10 دولار للبرميل الواحد من النفط، ونفس الحال استمر في التسعينيات بسبب توقف الصادرات النفطية تماما نتيجة العقوبات الدولية وبالأخص في المدة (1991-1995). وفي الوقت نفسه تصاعدت الاهمية النسبية لقطاع الزراعة والغابات والصيد إذ سجل هذا القطاع نسبة تبلغ 73% من الناتج المحلي نتيجة الدعم الذي كان يقوم به النظام السابق لمواجهة تلك العقوبات، وتراجع هذا المعدل بعد تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء (Oil For Food). ونستنتج من ذلك ان القطاعات السلعية ومساهمتها في الناتج المحلي لم تأخذ المسار الطبيعي في النمو، بل ارتبطت تلك المساهمة بالظروف التي كان العراق يعيشها خلال المدة (1973 – 2003).
وبعد عام 2003 كان هيكل الاقتصاد العراقي على موعد اخر من التدمير والخراب، بعد ان نهبت المعدات والآلات، والبعض منها هربت الى الدول المجاورة، بل منها ما وصل الى دول شرق اسيا (بيعت خردة). ان المحتل الامريكي كان لا ينظر الى قادم الايام فيما الاقتصاد العراقي ولا يملك فكرة عن الطريق الصحيح الى الاصلاح الاقتصادي، وتعامل وفق فلسفة خاطئة لا تدرك الاثار الاجتماعية للتدمير الممنهج للصناعات التحويلية العراقية. والدليل واضح على ذلك إذ ان القوات المحتلة تركت كل الوزارات والصناعات تحترق وتتعرض الى النهب والتدمير، باستثناء مرافق الصناعة النفطية ووزارة النفط التي حظيت بحمايتها.
وفي ظل الحاكم المدني للعراق (بول بريمر) اتخذت سلطات الاحتلال مجموعة من العمليات الانعاشية، والبدء في صفحة التغيير في النظام الاقتصادي القائم على المركزية في التخطيط الى فلسفة اقتصاد السوق. وتبعا لذلك شكلت هيئة لدراسة خصخصة المنشآت الصناعية في العراق منتصف عام 2004 إلا انها تراجعت عن ذلك بعد تحذيرات البنك الدولي من الاثار الاجتماعية لخصخصة نحو (159) منشأة صناعية حكومية. وفي اعتقادنا فإنه لو تم ذلك لكان أفضل بكثير للعراق من عدمها، اذ شهدت هذه المرحلة عودة الالاف من الموظفين والعمال الذين تركوا ميدان العمل في هذه المنشآت بعد تدني الاجور والرواتب خلال المدة (1991- 2002). ومن المعروف ان عنصر الانتاج عندما يترك دون تشغيل لمدة من الزمن يخسر الكثير من كفاءته الانتاجية، ويحتاج الى التدريب وإعادة التأهيل وهذا لم يحصل، اذ كان ينظر الى العودة للوظيفة فرصة للحصول على اجور مالية دون تقديم أي جهد. ويأتي ذلك أيضا ضمن سياق خلق الولاءات الى السلطة السياسية الجديد. وبالطبع كانت الحكومات العراقية المتعاقبة لم تدرك المخاطر المستقبلية على مستوى الكفاءة الانتاجية، وبفضل توفر العوائد المالية النفطية كانت قادرة على تغطية الرواتب والأجور، على اثر تحسن اسعار النفط الخام عالميا، وفي الوقت نفسه لم تضع الخطط لتطوير المنشآت الصناعية او انشاء صناعات جديدة.
وساهمت عوامل اخرى في تدهور الصناعة العراقية بعد اعتماد نهج سياسة الباب المفتوح على صعيد التجارة الخارجية، وما ترتب على ذلك من اغراق السوق العراقية بالسلع من مختلف دول العالم وأحيانا من مناشئ غير معروفة دون مراعاة حماية الانتاج المحلي او المستهلك العراقي. وقد ادت هذه العشوائية الى بلوغ الصناعات التحويلية رمقها الاخير، ومن ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير بعد الانخفاض الكبير في سعر النفط الخام في الربع الاخير من العام 2014، ناهيك عن استفحال الفساد الاداري والمالي في الوزارات العراقية كافة، وفقدان موازنة عام 2014 للصناعات، والتي لم يتجرأ أحد على الحديث عنها لحد الان، وبلغ الأمر خطورة في اللغز المحير: هل تم تخصيص أجور ورواتب الى العاملين والموظفين أم لا في مختلف الصناعات في موازنة عام 2014؟
ودون شك معنى ذلك من الناحية الاقتصادية دخول الصناعة العراقية مرحلة اللاوفورات في الحجم (Diseconomies Of Scale)، والتي تعني الزيادة في التكاليف الكلية على العوائد الكلية، بعد ان بدأ العراق يخسر كوادره الماهرة بسبب الحروب او الهجرة او مضايقة للكفاءات في مختلف الاختصاصات ولأصحاب رؤوس الاموال في القطاع الخاص او قلة الدعم المادي.
هذا هو المشهد المأساوي للصناعات التحويلية في العراق. يمكن تلخيص أسبابه بما يلي:
- تزايد أعداد القوى العاملة ما بعد عام 2003 بالشكل الذي أصبح من المستحيل ان تتفوق الايرادات الكلية (Total Revenue) على التكاليف الكلية (Total Cost) او حتى ان يتساوى (TC=TR).
- صعوبة معالجة المشاكل الادارية والتخصصية او عدم قدرة المنشأة الصناعية القيام بالتنسيق بين العمليات الانتاجية في المنشأة.
- ضعف الاوامر الادارية والإنتاجية والرقابية نتيجة الترهل الوظيفي.
- في ظل الوفرة في اعداد العاملين اصبحت الاشاعات في العراق هي المصدر الاولي للمعلومات، مما جعل العاملين والمدراء لا يعطون اهمية الى التعليمات، الأمر الذي انعكس على كفاءة المنشأة.
- انتشار البيروقراطية في ادارة المنشآت بسبب المحاصصة السياسية، وتنوع الولاءات السياسية داخل المنشأة الواحدة.
- تقادم رأس المال المادي الصناعي، نتيجة الحروب والعقوبات الدولية وما تلا ذلك من التدمير والسرقات المنظمة للمنشاءات وخصوصا العسكرية منها.
ما العمل؟
ان أمام القائمين على الصناعة العراقية مهام ثقيلة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من الصناعة، بعد تزايد الاحتجاجات العمالية المطالبة برواتبها وأجورها الشهرية المتأخرة. ولكي تستطيع الدولة إعادة الامور الى مسارها الصحيح، بعد بلوغ مرحلة الغلة المتناقصة للدوال الإنتاجية للصناعات العراقية، يمكن ادراج بعض التوصيات في هذا الاتجاه:
- إحالة نسبة من العمالة الى التقاعد المبكر وخصوصا العمالة غير الماهرة والتي لا تستطيع ان تضيف إيرادا حديا (Marginal Revenue (MR)) مساويا الى التكلفة الحدية (Marginal Cost (MC) ويمثل هؤلاء اعداد كبيرة من حجم العمالة في الصناعة العراقية.
- البدء في خصخصة الصناعات الناجحة لمنع انتقال العدوى الى هذه الصناعات.
- للتخلص من الضغوطات الهائلة التي تتعرض لها الصناعة العراقية، البدء في تجزئة الوحدات الانتاجية القائمة الى وحدات ذات سرعات انتاجية كبيرة تقوم بالعمليات نفسها قبل ظهور حالة اللاوفورات.
- تطوير وتدريب الكوادر الماهرة في داخل وخارج العراق لمجاراة التطور في التكنولوجيا الحديثة في العالم.
- دراسة امكانية دمج بعض الصناعات العراقية مع مثيلاتها في الدول الاخرى لنقل التكنولوجيا الى هذه الصناعات التي يفتقر لها العراق من جهة، وهناك أمكانية في السوق المحلية للاستيعاب السلع المنتجة من جهة اخرى.
- حماية الصناعة العراقية من المنافسة الأجنبية من خلال تفعيل قوانين حماية المنتج والمنتوج كذلك مكافحة الاغراق المتعمد في السوق العراقية من قبل جميع الدول المجاورة بلا استثناء.
- إلزام الوزارات والمؤسسات الحكومية بشراء المنتوج المحلي فهناك بعض المنتجات المحلية تضاهي ما يستورد من الخارج، والتخلص من الفساد الذي يشوب هذه العملية.
- اشراك المواطن العراقي في دعم المنتج المحلي (صنع في العراق) على اعتبار ان الحس الوطني يمثل واحداً من حجج الحماية التجارية، على ان يبدأ تطبيقه من قبل العاملين أنفسهم في الصناعة العراقية، وحبذا لو يتم تعريف الطلبة بأهمية ذلك للتنمية الاقتصادية للبلد وفي مختلف المراحل الدراسية.
(*) أستاذ التنمية الدولية. كلية الادارة والاقتصاد/جامعة القادسية
الاستاذ الدكتور عبد الكريم جابر المحترم
تحية طيبة
دراسة حضرتك تعطي اشارات عن عمق المشكلة التي تعاني منها الصناعة العراقية و لذا ادعوا شبكة الاقتصاديين العراقيين و العلماءو المفكرين و الخبراء الى المزيد من الدراسات و الابحاث الميدانية لكل قطاع على حدة و ارجو التركيز على تجارب الشعوب العالمية بهذا الجانب و كذلك اعداد دراسات جدوى فنية و اقتصادية جديدة لكل معمل قائم حاليا و اعداد دراسات جدوى فنية و اقتصادية جديدة لمعامل مقترحة حديثة تواكب الاحتياجات للاقتصاد العراقي و انا حاضر للمساهمة بهذا الجهد مع فائق التقدير و الاحترام
خالد اسماعيل ناصر الولي
مدير فني اقدم متقاعد
009647722325790
009647901308658
khalidalweli@gmail.com
http://www.navigatoriraq.com
الاستاذ الدكتور عبد الكريم جابر شنجار العيساوى
براى المتواضع فان مقالكم الموسوم ب ( واقع الصناعة فى العراق – ما العمل ؟ ) ياتى ضمن افضل ما قراْت حول هذا الموضوع الحيوى ويستحق ان يكون ورقة عمل بهدف التطبيق وليس التثقيف وجسب —
لخص المقال حالة الصناعة التحويلية فى العراق مشخصا اسباب تدهورها ودخولها مرحلة اللاوفورات فى الحجم Diseconomiesهع تقادم راس المال المادى الصناعى نتيجة الحروب والعقوبات الدولية وما تلى ذلك من التدمير والسرقات وخصوصا العسكرية منها
اتمنى ان تقوم الجهة المسوْولة عن ادارة القطاع الصناعى فى العراق وضع توصياتكم العلمية والعملية موضع التطبيق ضمن برنامج الاصلاح الاقتصادى الحالى
مع التقدير