عرض كتاب: هيلين م. ديفيس، اميل وإسحاق بيريير: مصرفيون واشتراكيون واليهود السفارديم في فرنسا في القرن التاسع عشر *
كاتبة العرض: إستير ريدماونت، قسم الاقتصاد، كلية كولورادو. **
ترجمة: مصباح كمال
في حين أن كتاب اميل وإسحاق بيريير: مصرفيون واشتراكيون واليهود السفارديم في فرنسا في القرن التاسع عشر لم يُكتب للمؤرخين الاقتصاديين، لكن الموضوعات التي يغطيها لا يمكن إلا أن تكون ذا فائدة لأولئك الذين يدرسون التنمية الاقتصادية والمالية، والثورة الصناعية، وتنظيم المشاريع وتاريخ الفكر الاقتصادي.
نشأ الأخوين اميل وإسحاق بيريير في ظل حرمان شديد في المجتمع اليهودي في بوردو، وصعدا إلى قمة البرجوازية الكبيرة grande bourgeoisie في باريس في عهد الامبراطورية الثانية كمؤسسين ومديرين لبنك كريدي موبيليير Crédit Mobilier. إن صعودهما بسرعة فائقة والأدوار التي لعباها في التنمية الاقتصادية في القرن التاسع عشر في أوروبا لم يختلف مع صعود آخرين ممن تحرروا فقط مؤخراً (وإن كانوا لا يزالون محرومين من حق الاقتراع إلى حد كبير) من رجال المال اليهود في تلك الفترة بما في ذلك عائلة روتشيلد Rothschilds، بلايخرودرز Bleichröders وإيفروزي Ephrussi. كتاب هيلين ديفيز هو السيرة الأولى للأخوين بيير باللغة الإنجليزية، مع استخدام مكثف للمصادر الأرشيفية، والاعتماد، على وجه الخصوص، على محفوظات أسرة بيريير Archives de la Famille Pereire في باريس. وقد أتاح هذا لديفيز الوصول إلى الرسائل والاتصالات الأخرى التي تلقي ضوءاً جديداً على شبكة العلاقات بين الأخوين بيريير، والسانت سيمونيين Saint-Simonians، وروتشيلد، ونابليون الثالث [1808-1873] وغيرهم من المؤثرين في التنمية السياسية والاقتصادية لفرنسا. إن كتابها هو بمثابة دراسة تكميلية مثيرة للاهتمام للكتب التي تتناول التاريخ الاقتصادي لفرنسا في القرن التاسع عشر.
هناك عدة موضوعات تلعب دوراً في حياة اميل وإسحاق بيريير. فقد نشأ كلاهما في الفقر، ولكنهما ارتبطا بشكل وثيق بشبكة من أبناء العمومة والأصهار الذين ساعدوهما في شق طريقهما. في شبابهما، تدرب كلاهما تدريباً جيداً على مسك الدفاتر في البنوك والمؤسسات البحرية في بوردو. وعندما انتقلا بعد ذلك إلى باريس، فإن نفس تلك الشبكات قدمت لهما السكن والدعم الاجتماعي أيضاً. الأهمُّ من ذلك، علاقتهما بأولاند رودريغز Olinde Rodrigues التي أوصلتهما بكلود هنري دي روفراي Claude Henri de Rouvray، الكونت دي سان سيمون [1760-1825]، الذي صارت كتاباته حول امكانيات التحسين الاقتصادي والأخلاقي المصاحب للتوجيه الدقيق والهادف للنشاط الاقتصادي نبراساً لهما في العقود القادمة.
من السهل الآن أن نُقلّلَ من مدى تأثير الاشتراكية الطوباوية لسان سيمون خلال هذه الفترة. تُذكّرنا ديفيز بعدد من تأثر من السياسيين، وأصحاب النظريات الاجتماعية والمحللين الاقتصاديين بكتابات دي روفراي وأولئك الذين كان يدورون حوله، بضمنهم نابليون الثالث. [وبالطبع] لا يمكن لها أن تفعل أكثر من تذكيرنا، لأن هذا الموضوع [تأثير الفكر الاشتراكي الطوباوي] هو خارج نطاق هذا الكتاب ويتطلب على الأقل اطروحة كاملة أخرى لمعالجته.
قضى الأخّان وقتاً طويلاً وجهداً في الكتابة وإلقاء المحاضرات حول المبادئ الاقتصادية الكبرى لمذهب سان سيمون Saint-Simonianism قبل أن تنحلَّ الحركة. وتُناقش ديفيز بشكل مقنع أن العمل الذي قاما به قد وضع فعلاً الأساس لتوغلهما نحو الرأسمالية الصناعية. ويتبين من المقالات التي كتباها توقعهما لما يمكن لنظام السكك الحديدية أن يفعله لفرنسا، وكيف أن تجديد المناطق الحضرية قد يُحوّل ما كان لا يزال في المقام الأول مدينة من القرون الوسطى إلى باريس الجديدة. في عام 1832، تقدّم أميل بيريير بمقترح لبناء خط سكة حديد للركاب بين باريس وسان جيرمان وأصبحت الأسرة [أسرة بيريير] من صغار المستثمرين في المشروع الذي ضم جيمس دي روتشيلد وغيره. في هذه المرحلة، كانت العلاقات بين الأخوين ودية، على الرغم من أنها لن تظل كذلك.
عندما تم منح امتياز [خط سكة حديد] باريس-سان جيرمان، أصبح إميل بيريير مديراً تنفيذياً وكان مجلس الإدارة يتألف من أربعة مصرفيين. مع افتتاح الخط، حقق الأخوين بيريير نفوذاً سياسياً وكذلك نفوذاً اقتصادياً، ولكنهما بعد أن شاهدا السلطة التي يتمتع بها المصرفيون سعيا لكي يكونا وسطاء لتحقيق أحلامهما الخاصة. وتُبين ديفيس بشكل حاذق كيف استطاعا ذلك من خلال إنشاء مؤسسة مالية قامت بشراء الأسهم أو الاستثمار مباشرة في اقتناء وبناء البنية التحتية. هذا البنك، كريدي موبيليير، كان العمل العظيم في حياتهما.
إن حياة الأخوين بيريير ومشاريعهما تتقاطع مع الاضطرابات السياسية الكبيرة في فرنسا منتصف القرن التاسع عشر. وتقودنا ديفيز لثورة 1848 وتداعياتها وكيف أنها أتاحت الفرص لهما للعمل مع لويس نابليون. وبالفعل في عام 1852، فإن الرجل الذي أصبح فيما بعد إمبراطوراً أنشأ رسميا كريدي موبيليير. وتصف ديفيز هذا البنك بأنه “أداة قوية في توسع الرأسمالية الفرنسية، الركيزة الأساسية التي سهلت إحداث ثورة في مجال الخدمات المصرفية والصناعات الثقيلة.” لأن كتابها ليس كتاباً في التاريخ الاقتصادي، في حد ذاته، فإنها لا تحاول تقييم نقاط القوة والضعف في هذه المؤسسة. بدلاً من ذلك فإنها تقدم للقراء وجهة نظر تجاه هذه المؤسسة المالية كما تطورت ونُوقشت في مراسلات مديريها. إن بعض المؤرخين مثل روندو كاميرون Rondo Cameron، الكسندر گريشينكورن Alexander Gerschenkron ونايل فيرغسون Niall Ferguson قد ساهم في الكتابة عن تأثير كريدي موبيليير، ويمكن للمهتمين بالتداعيات الواسعة لهذا الشكل من أشكال التنمية التي ترعاها الدولة البدء بدراسة المسألة الأكبر [رعاية الدولة للتنمية] بقراءة مؤلفاتهم.
انهار بنك كريدي موبيليير في كانون الأول/ديسمبر من عام 1867. لقد تم تجميع رأسمال البنك في المقام الأول عن طريق إصدار السندات. ثم استخدمت الأموال من هذا الإصدار لشراء أسهم في الشركات الصناعية التي كان البنك مهتماً بها أو القيام بإنشاء وتشغيل وإدارة تلك الشركات مباشرة. عندما كانت تلك الشركات مربحة أو عندما كانت قيم الأسهم مرتفعة، كانت سيولة البنك عالية ومربحة. في فترات الانكماش أو في مواجهة المنافسة المتزايدة، أصبح البنك معسراً. وفي الفترة التي شهد فيها البنك أخطر ضائقة في عام 1867، كما توضح المراسلات بين أفراد الأسرة والشركاء في الأعمال، لم تعد عائلة روتشيلد حليفاً لبيريير كما أن استعداد أو قدرة الإمبراطور للمساعدة بدأت في التراجع. ولم يتمكن البنك من إيجاد الأموال اللازمة لسداد ديونه. تم فرض رسوم عن المخالفات، لكن ديفيز تجد ما يؤيد سوء الادارة وليس الغش [كسبب لانهيار البنك].
حتى لو لم يعد الوضع المالي لكريدي موبيليير سليماً، فإنه، بالإضافة إلى خطوط السكك الحديدية، قام البنك بإنشاء أو إعادة تنظيم المرافق العامة (الغاز وخدمات النقل العمومية في باريس). وكان البنك يملك المغاسل الصناعية industrial laundries ومساكن مبنية في مجمعات ومساحات كبيرة من الأراضي، وفنادق كبرى ودور أوبرا. وتلاحظ ديفيز أن ما تبقى، حتى بعد انهيار هذه المؤسسة المالية، هو أنها أنشأت فرنسا كقوة حديثة، صناعية وتجارية، هي الثانية بعد بريطانيا العظمى في تلك الفترة.
هذا الكتاب ليس بديلاً عن التاريخ المتخصص للتنمية الاقتصادية الفرنسية. كما أنه ليس بديلاً عن الدراسة الشاملة للاشتراكية الطوباوية كما حددها سان سيمون وأتباعه. لكنه، مع ذلك، فإنه كتاب مكتوب بشكل جيد، وهو إضافة مفيدة إلى المطبوعات حول التنمية الاقتصادية لأنه يوضح كيف أن النتائج الاقتصادية الكلية تنشأ من تصرفات الأفراد الفاعلين، وكيف أن النظرية والأفكار يمكن أن تكون مؤثرة، وكيف أن الريادة في الأعمال entrepreneurship يمكن أن تنشأ فجأة في فضاءات بعيدة عن الاحتمال تعمل على تحويل المجتمع التي تنشأ فيها. إذا قُيضَّ لهذا الكتاب أن يصدر في طبعة ثانية، أود أن أرى إدخال خط زمني للتاريخ السياسي الفرنسي وخريطة لخطوط السكك الحديدية التي طورها الأخوين بيريير ومشاريعهم في فرنسا في ذلك الوقت.
(*)مانشستر: مطبعة جامعة مانشستر، 2015. عدد الصفحات 10+260، 100 $ (تجليد فني)، ردمك ISBN: 978-0-7190-8923-7.
Helen M. Davies, Emile and Isaac Pereire: Bankers, Socialists and Sephardic Jews in Nineteenth-century France. Manchester: Manchester University Press, 2015. X + 260 pp., $100 (hardback), ISBN: 978-0-7190-8923-7
(**) نشر العرض في موقع شبكة التاريخ الاقتصادي، كانون الثاني 2016 وهم صاحب حقوق النشر Copyright © 2016 by EH.Net.
المراجع
Rondo Cameron (1953), “The Crédit Mobilier and the Economic Development of Europe,” Journal of Political Economy, 61:6, 461-488.
Niall Ferguson (1999), The House of Rothschild: The World’s Banker, 1849-1999, New York: Viking.
Alexander Gerschenkron (1962), Economic Backwardness in Historical Perspective: A Book of Essays, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Fritz Stern, (1979), Gold and Iron: Bismarck, Bleichröder and the Building of the German Empire, New York: Vintage.
Esther Redmount is the editor of The Economics of the Family: How the Household Affects Markets and Economic Growth (Praeger, 2014) and “The Effect of Wage Payment Reform on Workers’ Labor Supply, Wages, and Welfare,” Journal of Economic History, 2012 (with Arthur Snow and Ronald S. Warren Jr.).
باحث وكاتب عراقي متخصص في قطاع التامين مقيم في المهجر
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية