واصل رونالد ترامب سيرهُ على الرصيف المؤدي الى شارع المال في مدينة نيويورك ليتوقف فجأة أمام شحاذ افترش الارض وهو يقلب الكثير من اللاشيء. نظر ترامب الى ذلك الفقير بعين من الأسى محدثاً إياه: إنك أيها الرجل تمتلك صفر من الثروة وانا مدين بمبلغ 900 مليون دولار بعد ان فقدتُ ثروتي كلها فإنك بالمحصلة اغنى مني! اجابه الشحاذ مبتسماً انا حقاَ اغنى منك. ولكن ماذا ان حصلت على المال ثم خسرته، حينها سأكون من الفاشلين، وربما قد اخسر صحتي وانا احاول ان اجمع الثروة، وقد لا اعرف إن كان الناس سيحبونني لشخصي ام من اجل اموالي؟ واخيراً، يمكن ان اتعرض الى السرقة وعندها سأخسر الثروة فضلاً عن خسارة مكاني الذي اشحذ فيه على رصيف شارع المال.
ترك ترامب ذلك الشحاذ وهو يسبق الخطى للالتقاء بصديق سيساعده على استعادة ثروته مجدداً ولكنه ظل يردد في سره بان التيارات الرئيسة السائدة في علم الاقتصاد مازالت تستخدم نماذج المنفعة المتوقعة ودور العوامل العقلانية عند استخدامها في التحليل الاقتصادي واختبار نماذج التحليل. هنا توقف ترامب وهو يُحدّث نفسه كرة اخرى قائلاً: ان العديد من تلك التحليلات لم تستطع ان تفسر كيف يمكن الحصول على الثروات التي تحققها الطفرات الاقتصادية وكيف تُشكل تلك الثروات مجدداً!
ربما لم يدرك رونالد ترامب ظهور ما يسمى بعلم الاقتصاد العصبي Neuroeconomics
وهو من العلوم السلوكية التي تشكلت من خليط علوم الاعصاب وعلوم الاقتصاد، اذ حاول هذا العلم ايجاد مشتركات في التصرف ازاء تعظيم المنفعة ومقاييس الاستجابة العصبية والتي تركز جميعها على دور الدماغ في تدفق الدم. فالدماغ يتكون حقاً من مقاطع وانظمة عديدة تتعامل جميعها في توجيه صنع القرار. فالعديد من القرارات تُتخذ في إطار ظروف محفوفة بالمخاطر، لذلك تتجه النزعة الانسانية إما صوب تحمل المخاطر بغية تعظيم المنفعة او النزعة نحو تجنب المخاطر والتضحية بجانب من المنافع. فقد كشفت البحوث والدراسات في الولايات المتحدة الامريكية ان هنالك الكثير من الامور الاستثنائية والشاذة والانماط الشائعة من التصرفات التي غدت جميعها لا تتلائم ومبدأ تعظيم المنفعة والتي منها تلك النزعة المتجنبة للمخاطر risk aversion التي كان يمارسها شحاذ وول ستريت وهو يفترش الرصيف حين واجهه رونالد ترامب المجازف الذي بات مفلساً.
وهكذا يوضح لنا علم الاقتصاد العصبي بان ثمة مناطق متعددة في الدماغ تختلف في درجة تحسسها إزاء موضوع تحديد المخاطر او حالة اللايقين ازاء التصرفات الانسانية المتعلقة باتخاذ القرار الاقتصادي، والتي تتوقف على شكل وتركيب وطبيعة القشرة الخارجية لمقدمة العقل البشري. فبالوقت الذي يركز فيه الفقراء على احتمالات الخسارة مهما كانت ضئيلة يركز الاغنياء على احتمالات الربح مهما كانت ضئيلة ايضاً. فكل فريق ينظر الى القدح المملوء نصفه بالماء. فالفقراء يعتقدون ان عليهم معرفة كل شيء مقدماً وضرورة الحصول على تلك المعلومة عند كل ردة فعل وهو امر لا يتيسر حصوله لارتفاع تكاليفه في حين يبقى الاغنياء وحدهم من يمتلك المحفظة المعلوماتية لاتخاذ قراراتهم المعظِمة لمنافعهم utility maximisation وهي حكراً في متناول ايديهم وشبكة اعصابهم في تعظيم ثروتهم مهما كان تركيب قشرة ادمغتهم التي وعدنا بها علم الاقتصاد العصبي!
(*) المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعدة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 24/11/2014
دور الدماغ في تدفق الدم ، ودور الفهلوة والشطارة في كسب التجارة ، لكني لم اجد ان هذه الافكار لها انعكاس تطبيقي في حالة العراق ، ففي العراق اليوم من استحوذوا على الملايين هم من لا دماغ لهم ولا دم يسري في عروقهم ، فهؤلاء الشحاذين لم يخطر على بالهم احتمالات الخسارة مطلقا ، بل كان حظهم مقرونا بنهب الكعكة كلها،وترك الشعب المؤمن يغرق في حالة البؤس والفاقة.
هل هذا حادث فعلا على العموم احسنت واكثر من رائع كما عودتنا دكتور
الاستاذ الدكتور مضهر محمد صالح
اولا وقبل كل شيىْ فرحت لفرحك بنيل المدالية الذهبية بكل جدارة واستحقاق
ثانيا – كيف يمكن تبرير سلوك سبيل الشحاذين على وفق ( النزعة المتجنبة للمخاطر التى كان يمارسها شحاذ وول ستريت ) كما تقول
عزيزى الدكتور مضهر محمد صالح Without uncertainty as to which course of action to take there would be no decision to be made
Richard Butler
انظر International Encyclopedia of Business and Management – Thomson
Business press 1997
Decision making
مغ التقدير
تحية طيبة …
مقالة رائعة جداً وممتعة للدكتور مظهر محمد صالح ، وعلى اغنياء العراق ان يستفيدون من هذه الخاطرة ليس فقط لاكتناز الاموال وتهريبها خارج العراق لشراء الفلل ومعارض سيارات ومولات في دول اخرى
تحياتي
يتوجب على الاقتصادين العراقيين ان يأخذوا بنظر الاعتبار هذا الرأي المثير للجدل ويتوصلوا الى حلول ديناميكية للاقتصاد العراقي الذي يعاني من مشاكل جمة وألتقدير موصول للباحث الفذ الدكتور مظهر .