دخل علينا من باب غير متوقعة، كانت مفاجأة. إنه علي العلاق، محافظ البنك المركزي بالوكالة. دخوله كان درامياً، من باب جانبية، المشهد كان ينقصه تصفيق، أو أي مؤثر آخر. صافحنا جميعاً، فمحا بذلك كل الهالة السابقة. كان وديعا، متأملا، يأمل أن تصل رسالته إلينا بسهولة، ربما يعلم أننا لا نفقه جيداً الذي سيقوله، وليس لنا قدرة على المداخلات. كان يجلس على يمينه، نائب المحافظ منذر الشيخلي، ومدير الإدارة. كنتُ أعتقد بنفسي، محملاً بأسئلة، تفي بالغرض، أنتظرتُ الى أن يكمل كلامه، حول إنجازات البنك المركزي، منذ فترة تسلمه المنصب. تحدث عن أهمية استقلالية البنك المركزي، وعن الاستقرار النقدي، والسيطرة على التضخم. وعن أهم التطورات التي حصلت في البنك، بإدارة الاحتياطي الاجنبي، والاستثمار فيها، بعد أن طوّر كادراً لهذه المهمة، وبات هو يشرف على تلك العملية. تحدث أيضاً عن دور المركزي في الاشراف والرقابة، على القطاع المصرفي الحكومي والأهلي. كان حديثه حول المصارف الحكومية، الممثلة بالرشيد والرافدين، مؤلما، محملاً بأثقال تركة الماضي، التي لا حلّ لها، سوى اقتلاعها من جذورها وتصفيتها. لا أظنّ سيستطيع عمل ذلك. كذلك تطرق الى القطاع المصرفي الأهلي، الذي ليس له علاقة بأن يكون في البلاد 70 مصرفا، لا تمتلك أدنى مقومات المصارف في عملها. لقد قال لم أمنح إجازة واحدة لأي مصرف جديد، سوى المصارف الاسلامية، وذلك بإحراج من البرلمان، حيث صوّت على ذلك. تحدث أيضا، بفخر، عن امتلاك البنك المركزي رقابة استباقية للمصارف الأهلية، في حالة حدوث أي خلل، تتداخل فيه الرقابة الشخصية والتقنيات الفنية. ومن أسوأ ما استمعنا اليه: إن المتعاملين مع المصارف في العراق، هو 11 بالمئة فقط من العراقيين. وهذا أمر يوحي بما يوحي اليه من فشل في ثقة المواطنين بالمصارف، بررها هو بثقافة مجتمع (المجتمع العراقي يميل الى وضع أمواله بين يديه بصورة الكاش)، ربّما. تطرق أيضا الى قيام البنك بإقراض المشاريع الصناعية والزراعية، حوالي 6 مليون دولار ونصف، وهذا كان انجازا موفقا، لم يكن واضحا تماما. كيف صرف هذا المبلغ، وما كان تأثيره في الواقع. وأهم ما ذكر، أن ارتفاع الاحتياطي في البنك المركزي، لا يتوقف على البنك، وربما على وزارة المالية نفسها. وتحدث عن طريقة بيع الدولار في مزاد العملة، وتكون كما يأتي: المالية تتسلم ايرادات النفط بالدولار، فتعطيها للبنك المركزي، لكي يبيعها، لكون البنك، أكثر معرفة، في سير عملية البيع، وارتباط المصارف وشركات التصريف والتحويل به. لهذا فهو يسهّل عملية البيع. وبما أن المالية هي التي تحدد الحاجة من البيع، لغرض تسديد الرواتب، مثلا، بالدينار، وميزانية الوزارات أيضا، لذا قصة البيع وكميته، تحدد من وزارة المالية، وليس البنك المركزي. وأوضح لنا أخيرا، بأن لا بديل لمزاد العملة، الا ان يأخذ البنك الدولار، ويطبع مقابله دينارا، وهذا يعني كارثة في التضخم. وبهذا حتى سؤال انخفاض الاحتياطي لا يوجه الى المركزي، بل الى المالية. “نحتاج هنا لمعلومات أوفر حول موضوع الاحتياطي“. انتهى الرجل من الاسترسال بحديثه، وبدأ في انتظار أسئلة ضيوفه. بدأها الأكبر سنا، عدنان حسين، ووجه أسئلة، من الواضح أنها كانت عامة وغير متخصصة. وتحدث الآخرون كذلك، وتبين تماما أن لا أحد متخصص بالشأن الاقتصادي. هل تم استدعاؤنا لهذا السبب، كوننا غير متخصصين؟ لكن ماذا يفعل الرجل؟ كيف ستصل رسالته الى الاعلام، ومن ثم الجمهور. الحقيقة ليس هو الملام، انما الملام هنا نحن جميعا، أصحاب الصحف، وأنا أحدهم، ليس لدي صحافي اقتصادي واحد، “هذا إنْ توفر في البلاد“.
عندما وصل دور الأسئلة اليّ، شكرته أولا على الدعوة الكريمة، ثم ذكرت له، بصراحة، بأننا لا نمتلك صحافة اقتصادية مختصة. والسبب فينا. نعم، نمتلك أكاديميين وخبراء مهمين، لهذا فكرت، قبل تلبية الدعوة، في أن أتصل ببعض الخبراء لأحصل منهم على أسئلة.
مصيبتي، أن الأسئلة التي بعثها لي أحد الخبراء الاقتصاديين، كانت فيها كيدية واضحة، وتحيز واضح للمحافظ السابق. وجميع الأسئلة تدور حوله. وان المحافظ الحالي قد مارس ضغوطا كبيرة عليه عندما كان مديرا في مجلس الوزراء، وانه كان يقوم بجلسات تشبه المحاكمات للمحافظ السابق، تلاشيتُ الدخول في تلك الصراعات الازلية.
سألته سؤالا واحد يتعلق بالمحافظ السابق، فقلت: حسب معلوماتنا، جنابكم كان أحد المنتقدين للسياسة النقدية، وبالاخص لمزاد العملة، خلال فترة (سنان الشبيبي ومظهر محمد صالح)، وما هي التغييرات الجوهرية، التي أحدثتموها خلال فترة عملكم على مزاد العملة، عدا تغيير اسمه الى نافذة العملة؟
سؤال آخر: كذلك وصل الى مسامعنا بأنك خلال تبوؤكم لمنصب الأمين العام لمجلس الوزراء، كنتم على خلاف شديد مع المحافظ السابق، وحاولتم إخضاع إدارة البنك المركزي تحت إشراف مجلس الوزراء، لكن الشبيبي رفض ذلك، بشدة، واصرّ على استقلالية البنك.
وسألته أيضا: لماذا أوقفتم الاعلان عن الطلب في شراء العملة، واقتصرتم على كمية البيع. هذا يسبب نقصاً لدى المحللين والمتابعين، في معرفة العرض والطلب ودراسة الفرق، وإيجاد الحلول.
كذلك سألته:
إنكم فرحون بالتقارب بين السعر الموازي للدولار وبين السعر الرسمي. هل سيستمر هذا مستقبلا؟ الى متى؟
وكان سؤالي الأخير عن شركة ضمان الودائع المصرفية لحماية ودائع المواطنين؟
عندما بدأ الاجابة، كان واضحا انزعاجه من اتهامه بأنه على خلاف مع المحافظ السابق، وأكد عدم وجود هكذا خلاف مطلقا. بل أنه ما زال متواصلا مع الشبيبي، وأنه الآن يساعده في إنجاز معاملة تقاعده. وأنه ذهب الى النزاهة بنفسه، مستنكرا كتابا (لم يوضح مضمونه)، كان موجها للشبيبي.. وأوقفه.
بينما ذكر خلافا وحيدا كان بينهما، يتعلق بموضوع غسيل الأموال، حين كان الشبيبي يرفض التدخل ويشير الى أن ذلك مسؤولية الأمن وليس المصرف، وأنه كان مهتما جدا ـ أي العلاق ـ بموضوع غسيل الاموال، واستطاع أن يحدّ منه خلال فترة تسنمه إدارة البنك.. وكان متمتعاً بهذا الإنجاز.
وقد تطرق الى الاسئلة الأخرى، بإجابات مختصرة، وليست واضحة لديّ، كما هي حال أسئلة المدعوّين الأخرين، التي بدت لي غير واضحة أيضا، واجاباتها تشبهها تماما.
انتهينا بعد أكثر من ساعتين، وتسلّمنا هدايا بسيطة، لها قيمة معنوية عالية، ثم ذهبنا الى مأدبة غداء في كافتيريا البنك، التي منحها المركزي ـ استثمارا ـ لفتاتين ذكيتين كما يبدو في الترتيب. أعتقد كانت لمسات اللبنانيين طاغية على المكان، لأن الذائقة البصرية للمكان كانت مميزة، وكان الأفضل من ذلك وجبة الغذاء الفاخرة، (seafood) ـ المأكولات البحرية.
جلستُ أمام المحافظ الذي بدأ أنه يرفض التنوع في الطعام، مكتفيا بالصحن الذي أمامه. تحدثنا عن المطابخ في العالم. كانت لديه ذائقة جميلة في الاختيار والتحدث عن الطعام، وحبّه له، برغم رشاقته.
ذكر لي، مرّة، الراحل أحمد المهنا، أن الذي لا يحب الأكل لئيماً! لا أعرف مقدار صحة ذلك، لكن التجربة أثبتت لي ذلك.
الحقيقة، كان تواضع العلاق ملفتاً للغاية، وكانت فيه بقايا لوسامة وترف في أيام شبابه، وابتسامة تعلو محيّاه، وتناسق في ألوان ملابسه، مدروس بعناية.
بعد أن شربنا الشاي، الذي لم يستسِغه كونه (teabags)، بهدوء ذهب يساراً، ونحن ذهبنا يميناً.
وهكذا انتهى لقائي الأول مع العلاق..
(*) رئيس تحرير جريدة العالم اليومية
المصدر : جريدة العالم البغدادية الاعداد 1941 و1942 في 8 /4/2018 و 9/4/2018
http://www.alaalem.com/?aa=news&id22=46112
الأخ مصباح المحترم
قرأت مقالك بخصوص فكرة اشراف البنك المركزي على شركات التأمين – وهو مطبق في البحرين والسعودية – وإلى تشبع سوق التأمين العراقي عدديا لكثرة شركات التأمين وضعف ثقة الجمهور بها. هنا اود ان اكون اكثر صراحة وأنا من قطاع التأمين والقي باللائمة على ديوان التأمين بالدرجة الاولى كونه الجهة الرقابية حاليا واستغرب السماح لبعض الشركات بالتجاوز على مدد السماح التي اعطيت للالتزام بقرار زيادة رأس المال ، ولم يحاول الديوان فرض الاندماج على الشركات المتعثرة رغم ان الاندماج لا يقتصر اثره على تراكم الاموال المطلوبة لرأس المال فقط بل يوفر ايضا تراكم الخبرة التأمينية المفتقدة لدى العديد منها. اما بخصوص وجود صحافة اقتصادية (يفترض فيها الخبرة الاقتصادية) أؤيد بقوة تواجدها لكشف الممارسات التي اضعفت ثقة الجمهور بالتعامل مع المصارف الاهلية وشركات التامين التي لم يسمع عنها غير المختصين ، متناسين ان العراق كان في طليعة الدول العربية تأمينيا.
اتمنى ان نرى ونلمس بوادر التصحيح قبل مغادرة هذا العالم.
مع التقدير،
وميض الجراح
تداعيات تأمينية في ضوء تصريحات محافظ البنك المركزي العراقي
وأنا أقرأ التقرير الخبري للسيد مهدي محمد رضا حول اللقاء الصحفي مع محافظ البنك المركزي العراقي لم تفارقني مقارنة بعض ما كتب عن البنك وعن المصارف مع ما هو قائم في قطاع التأمين، أود عرضها كما يلي:
1-البنك المركزي والاشراف والرقابة على القطاع المصرفي الحكومي والأهلي، ودور ديوان التأمين
ليس لدي علم إن كان للبنك المركزي في الماضي دور في الإشراف والرقابة على النشاط التأميني. في سبعينيات وحتى ثمانينيات القرن المنصرم كانت الرقابة على النشاط التأميني من وظيفة المؤسسة العامة للتأمين، وبعد إلغائها بقرار من مجلس قيادة الثورة في نيسان 1987 صارت الرقابة من مسؤولية مراقب التأمين في وزارة المالية لحين صدور قانون تنظيم أعمال التأمين لسنة 2005 الذي حصر الوظيفة الرقابية بديوان التأمين.
ويبدو أن هناك حديثاً دائراً الآن حول ديوان التأمين، فقد علمت من الأستاذ عبد الباقي رضا أنه قدم مقترحاً لأحد مستشاري رئيس الوزراء لتحويل الديوان إلى مديرية عامة مرتبطة بوزارة المالية “خاصة وان رئيسا للديوان بدرجة خاصة لم يعين له منذ تأسيسه مع ان القانون يقضي بتعيينه خلال ثلاثين يوما من تاريخ نفاذه في 6/3/2005.”
وتساءلت إن جرى التفكير بربط مثل هذه المديرية بالبنك المركزي العراقي خاصة وأن التأمين والصيرفة يشكلان عنصران مهمان في القطاع المالي.
وكنت قد أرسلت نسخة من مسودة مشروع قانون تنظيم أعمال التأمين الأردني للأستاذ عبد الباقي، لمعرفته بالقانون الحالي في الأردن واهتمامه بها منذ سنوات، مع تعليق قصير أن تبني هذا المشروع وإصداره كقانون وتطبيقه بالشكل الصحيح سيؤدي إلى “رفع مستوى النشاط التأميني في الأردن والتمهيد لتحويل شركات التأمين بعيداً عن المصالح العائلية والعشائرية.” وذكرتُ أن بالإمكان الاستفادة من بعض مواد هذا المشروع الأردني لإعادة صياغة قانون تنظيم أعمال التأمين رقم 10 لسنة 2005 العراقي. على سبيل المثل، المادة 6 التي جاء فيها:
“لا يجوز التأمين على المسؤولية والأموال المنقولة وغير المنقولة الموجودة في المملكة لدى شركة تأمين خارج المملكة، ولا يجوز لأي جهة في المملكة إجراء أي تأمين للعاملين لديها أو لعملائها لدى شركة تأمين خارج المملكة.”
مؤملاً نفسي انتباه ديوان التأمين لمشروع القانون الأردني متى ما نهضت الفرصة. ويبدو أن بعض مستشاري رئيس الوزراء المهتمين بالشأن التأميني، كما أعلمني الأستاذ عبد الباقي، يؤيدون ويستحسنون الفكرة الواردة في مشروع قانون التأمين الأردني بتحويل مَهمة تنظيم ومراقبة أعمال التأمين الى البنك المركزي باعتبار أن نشاط التأمين يصنف ضمن الانشطة المالية.
لا أعرف إن كانت فكرة جعل الرقابة على التأمين من وظائف البنك المركزي العراقي قد ظهرت للعلن ونوقشت مع المعنين بهذا الموضوع (شركات التأمين، ديوان التأمين، جمعية التأمين العراقية، البنك المركزي).
أنا أميل إلى إخضاع النشاط التأميني للبنك المركزي العراقي باعتبار أن هذا النشاط والنشاط المصرفي يشكلان، مع مؤسسات أخرى، القطاع المالي. وقد حذت بريطانيا نحو هذا الاتجاه بتشريع قانون الخدمات المالية لسنة 2012 وإنشاء هيئة التنظيم والرقابة الاحترازية Prudential Regulatory Authority (PRA) كإحدى الدوائر التابعة لبنك إنجلترا Bank of England (البنك المركزي). وتشرف هذه الهيئة على البنوك وشركات التأمين والاتحادات الائتمانية وشركات التأمين وشركات الاستثمار الكبرى. في الماضي كانت الوظيفة الرقابية من مهام وزارة التجارة البريطانية Board of Trade.
من أحد ميزات هذه الرقابة أنها رقابة استباقية. والبنك المركزي العراقي يمارس مثل هذه الرقابة كما جاء في كلام محافظ البنك:
تحدث [المحافظ] أيضا، بفخر، عن امتلاك البنك المركزي رقابة استباقية للمصارف الأهلية، في حالة حدوث أي خلل، تتداخل فيه الرقابة الشخصية والتقنيات الفنية.”
هذا النمط من الرقابة مفقود حالياً لدى ديوان التأمين العراقي (وعلى أي حال، فإن ممارسة الرقابة من قبل الديوان ليست كما ينبغي أن تكون).
2-تخمة في عدد المصارف الأهلية وشركات التأمين الخاصة
كتب السيد مهدي محمد رضا نقلاً عن محافظ البنك المركزي:
“كذلك تطرق الى القطاع المصرفي الأهلي، الذي ليس له علاقة بأن يكون في البلاد 70 مصرفا، لا تمتلك أدنى مقومات المصارف في عملها. لقد قال لم أمنح إجازة واحدة لأي مصرف جديد، سوى المصارف الاسلامية، وذلك بإحراج من البرلمان، حيث صوّت على ذلك.”
هذا تصريح خطير. 70 مصرفاً أهلياً “لا تمتلك أدنى مقومات المصارف في عملها”، وهي مصارف مرخصة من البنك المركزي، ومع ذلك تمارس العمل! كيف يستقيم ذلك مع الدور الرقابي للمركزي؟
ثم، كيف يخضع البنك المركزي بإحراج (ضغط، ابتزاز، أم ماذا ومن الذي مارس هذا الإحراج) من البرلمان لمنح إجازة للمصارف الإسلامية؟ أين هي المعايير المقررة لمنح الإجازة؟ وكيف يستقيم تصويت المحافظ على منح الإجازة، تحت الضغط أو الإحراج، مع الاستقلالية المفترضة للبنك المركزي؟ هل لإسلامية المصارف علاقة بموقف المحافظ؟
إذا كان القطاع المصرفي يعاني من تخمة في عدد المصارف فإن قطاع التأمين هو الآخر يعاني من تخمة مماثلة إذ أن هناك أزيد من ثلاثين شركة تأمين مرخصة من قبل ديوان التأمين. وهناك شركات تأمين، يحلو للبعض بوصفها بدكاكين التأمين، لم تستوفِ بعدُ الشرط الخاص برأسمال الشركة، ومع ذلك فهي تزاول التأمين!
لنلاحظ أن سوق التأمين العراقي يعاني من وجود هذا العدد الكبير من شركات التأمين، غير الضروري، نسبة إلى حجم أقساط التأمين المكتتبة، فالطلب الفعّال على التأمين ضعيف (1) لغياب الوعي بأهمية التأمين كآلية للتحوط من الآثار السلبية للأخطار التي يتعرض لها الأفراد والشركات. (2) تدني دخل شرائح واسعة من الطبقات الفقيرة إلى حد يحصر تفكيرها في الآن وفي توفير القوت اليومي.
من إفرازات تشبع السوق market saturation، من حيث عدد شركات التأمين والقدرة الاستيعابية المتوفرة لها، هو انفلات المنافسة بينها، والركض وراء الاكتتاب بوثائق التأمين بأي ثمن (أدنى الأسعار) – أي الاكتتاب بدون تطبيق المعايير الفنية في تقييم محل التأمين وطالب التأمين وخبرته السابقة وكفاية مبلغ التأمين … الخ. أين هو ديوان التأمين من هذا الوضع؟
لماذا إذن يرخص ديوان التأمين المزيد من شركات التأمين؟ أهو طمعاً بالحصول على رسوم الترخيص أم أنه تعبير عن غياب رؤية اقتصادية وطنية لدور التأمين؟
3-المتعاملين مع المصارف ومع شركات التأمين
“ومن أسوأ ما استمعنا اليه: إن المتعاملين مع المصارف في العراق، هو 11 بالمئة فقط من العراقيين. وهذا أمر يوحي بما يوحي اليه من فشل في ثقة المواطنين بالمصارف، بررها هو بثقافة مجتمع (المجتمع العراقي يميل الى وضع أمواله بين يديه بصورة الكاش)”ا
ليست هناك إحصائيات عن عدد المتعاملين مع شركات التأمين (حملة وثائق التأمين) منسوباً لعدد السكان. إذا استثنينا الخاضعين لقانون التأمين الإلزامي عن المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث السيارات لسنة 1980 وتعديلاته (وهو ينطبق على كل من يملك سيارة، ولا تصدر شركات التأمين وثيقة تأمين لها لأن المسؤولية مفترضة بقوة القانون ويستوفى قسط التأمين عند تزويد السيارة بالوقود) فإن نسبة المتعاملين مع شركات التأمين ربما تقترب من نسبة المتعاملين مع المصارف، لكنني أشكك في ذلك إذ أنني أراها أقل من هذه النسبة. ربما يفيدنا من هم أعلمُ منا بالنسبة الحقيقية.
إن الفشل في كسب ثقة المواطنين بالمصارف يقابله فشل مماثل في قطاع التأمين. فضعف ثقافة التعامل مع المصارف (بسبب تقاليد التعامل بالنقد وميل الأفراد لاكتناز أموالهم) يجد صدىً له في ضعف ثقافة التعامل مع شركات التأمين (بسبب غياب عقلانية التدبر للمستقبل، وسيادة التواكل والمصير المكتوب، وتدني دخول شرائح واسعة من المواطنين بحيث أن التفكير في شيء اسمه التأمين يصبح ترفاً).
إن ضعف التعامل المصرفي والتأميني ليس إلا جانباً من ضعف وتشوه “مؤسسات” أخرى، سياسية واقتصادية، في مناخ يتميز بالفساد. تقرأ أية صحيفة يومية وتكتشف حجم وأنواع الفساد السائد على النطاق الوطني والمحلي وعلى مستوى إقليم كوردستان-العراق، وتصريحات الوزراء والنواب ومسؤولين آخرين بشأنه وكأنهم ليسوا طرفاً فيه.
4-قروض المشاريع الصناعية والزراعية
“تطرق [المحافظ] أيضا الى قيام البنك بإقراض المشاريع الصناعية والزراعية، حوالي 6 مليون دولار ونصف، وهذا كان انجازا موفقا، لم يكن واضحا تماما [كما يتساءل السيد مهدي محمد رضا، إذ]. كيف صرف هذا المبلغ، وما كان تأثيره في الواقع.”
حقاً، كيف صرف حوالي 6 مليون دولار من قروض المشاريع الصناعية والزراعية، وما كان تأثيره في الواقع على استخدام القروض، وعلى العمالة، وعلى الناتج المحلي الإجمالي وعلى شراء الحماية التأمينية. لمتابعة بعض جوانب الموضوع راجع الروابط التالية في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
مصباح كمال، “برنامج البنك المركزي للقروض الصناعية والزراعية والإسكان ومكانة التأمين”
http://iraqieconomists.net/ar/2015/09/08/%d9%85%d8%b5%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%a8%d8%b1%d9%86%d8%a7%d9%85%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%86%d9%83-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d9%83%d8%b2%d9%8a-%d9%84%d9%84%d9%82%d8%b1%d9%88/
فاروق يونس، كامل العضاض، مصباح كمال، “تعليقات ورسائل حول التأمين الزراعي”
http://iraqieconomists.net/ar/2018/04/03/%d9%81%d8%a7%d8%b1%d9%88%d9%82-%d9%8a%d9%88%d9%86%d8%b3%d8%8c-%d9%83%d8%a7%d9%85%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b6%d8%a7%d8%b6%d8%8c-%d9%85%d8%b5%d8%a8%d8%a7%d8%ad-%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%aa%d8%b9/
يمكن أن نوسع تساؤل السيد مهدي محمد رضا أو قل صياغة جزء منه: هل قام البنك المركزي بتقييم مشروع القروض ونتائجه الأولية؟ من هي الأطراف المستفيدة منه؟ ونضيف إلى ذلك لنسأل جمعية التأمين العراقية أو أركان التأمين: هل كان لكم موقفٌ من مشروع قروض البنك المركزي؟ هل عرضتم خدماتكم على المركزي؟ هل تم إجراء تأمين على أي من هذه القروض؟
5-الصحافة الاقتصادية والتأمينية المتخصصة
“انتهى الرجل من الاسترسال بحديثه، وبدأ في انتظار أسئلة ضيوفه. بدأها الأكبر سنا، عدنان حسين، ووجه أسئلة، من الواضح أنها كانت عامة وغير متخصصة. وتحدث الآخرون كذلك، وتبين تماما أن لا أحد متخصص بالشأن الاقتصادي. هل تم استدعاؤنا لهذا السبب، كوننا غير متخصصين؟ لكن ماذا يفعل الرجل؟ كيف ستصل رسالته الى الاعلام، ومن ثم الجمهور. الحقيقة ليس هو الملام، انما الملام هنا نحن جميعا، أصحاب الصحف، وأنا أحدهم، ليس لدي صحافي اقتصادي واحد، “هذا إنْ توفر في البلاد“.
عندما وصل دور الأسئلة اليّ، شكرته أولا على الدعوة الكريمة، ثم ذكرت له، بصراحة، بأننا لا نمتلك صحافة اقتصادية مختصة. والسبب فينا. نعم، نمتلك أكاديميين وخبراء مهمين، لهذا فكرت، قبل تلبية الدعوة، في أن أتصل ببعض الخبراء لأحصل منهم على أسئلة.”
أعتذر من القراء على هذا الاقتباس الطويل لكنني أراه مهماً لأنه يصب في موضوع يستحق التأمل: غياب الصحافة الاقتصادية المختصة والصحفيين المختصين. وحسناً فعل السيد مهدي محمد رضا بتذكيرنا به.
ما يقوله السيد رضا عن الصحافة الاقتصادية ينطبق على الصحافة التأمينية. فمنذ توقف مجلة رسالة التأمين عن الصدور (كانت تصدرها المؤسسة العامة للتأمين) أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، لم تصدر مجلة تأمينية ورقية أو إلكترونية (حاولت سدّ هذا الفراغ، ولو قليلاً، بإطلاق مدونتين: مجلة التأمين العراقي ومرصد التأمين العراقي) وهما ليستا بديلاً عن مطبوع ورقي أو إلكتروني صادر من جمعية التأمين العراقية – الممثل الرسمي لشركات التأمين الخاصة والعامة. (قبل سنوات عرضتُ على إدارة شركة التأمين الوطنية ضرورة إصدار مجلة تأمينية، وأعربت عن استعدادي للمساعدة دون مقابل. لكن الموضوع وضع على رفٍ ربما يصعب على الشركة الوصول إليه الآن).
أما تعامل الصحافة والصحفيين العراقيين مع موضوع التأمين فهو فقير. وقد كتبت عنه في الماضي (لم استهدي مع الأسف إلى مواقع النشر). وقد كتب الزميل المرحوم مروان هاشم القصاب مقالة مهمة بهذا الشأن بعنوان “قطاع التأمين والصحافة، مجلة التأمين العراقي
http://misbahkamal.blogspot.co.uk/2009/12/httpmisbahkamal.html
قد أجد العذر للصحافة والصحافيين لضعف تعاملهم مع مؤسسة التأمين ذلك لأنها لا تشكّل، كما يبدو، عنصراً مهماً في الاقتصاد الوطني، وحتى الاقتصاديين العراقيين، إلا القلّة بينهم، لا يعيرون التأمين أي اهتمام. ولكن كيف نفسّر النقص في الصحافة الاقتصادية المختصة؟ آمل أن يبحث المعنيون، ومنهم السيد مهدي محمد رضا، هذا الموضوع.
كلّ الشكر للسيد رضا لصراحته وتواضعه في نقل اللقاء مع محافظ البنك المركزي العراقي.
مصباح كمال
9 نيسان 2018