في فناء القصر الملكي المرعب ،انطلقت حالة اللاوعي في دواخلي وبدأت تتحرك في اللاشيء تحت لهيب الشمس المحرقة التي لم تدرك حرارتها ولكنها على الرغم من ذلك استطاعت ان تدرك في ثنايا رحلتها وهي تعشق غيبوبتها، ان ثمة ظهيرة خرساء تسكن في نسيان من الظلام في هذه الباحة من القصر المخيف .كان اليوم هو السادس من ايلول من العام 1971 ميلادية وفي باحة ذلك القصر الذي سمي بقصر النهاية، عدت الى حالة الوعي وانا لاامسك بشيء سوى لجام من الرعب يقاوم سعيٍي في البحث عن قطرات ماء كي اطفيء بها عطشي واسد فيها رمقي الذي غدا هو الاخر كورق شائط .تطلعت الى السجان الذي سيقودني لامحالة الى ثكنة التحقيق الاديولوجي، ومرارات عطشي قد بلغت الزبى ويطاردني الاحساس انهم سيحكمون علي بالموت غرقاً! فأشار السجان بأبهام اخرس الى صنبور مجاور يقطٌر ماءً ساخناً ليبتل بها لساني الذي غاب عنه النطق.انفتحت في تلك اللحظة بوابة سوداء شديدة الحراسة وهي الاشارة التي إصطحبني السجان من خلالها الى دهاليز التحقيق وهو يكيل الهمس المخيف مع جلاديه، وشعرت هنا من فوري ان سُحب المكائد قد انعقدت وأنها بدأت تحاصرني لامحالة من جميع الجهات ،فتهاويت بلا حول ولا قوة ، وحل بي الوهن ولكن ظلت ثقتي بنفسي متحجرة لم تتزعزع على الرغم من تداعي قوتي وتقوض اركاني.فليس للاشرار من عدة ترهبني سوى العصي والسلاح الناري.قال لي ضابط التحقيق بعد جلسة طويلة،اننا امام تجارة هي الاعتراف، فالربح للطرفين والخسارة تتحملها بمفردك.وأعتقد ايها الشاب،ان المقعد الذي تجلس علية قد خسر فيه الكثير من الساسة والكُتاب والصحفيين!ثم طرح امامي على الطاولة ورقة بيضاء لآكتب عليها اي شي لا اعرفه..! تناول مني تلك الورقة وهو يتطلع فيها بعمق وأطلق ضحكة صفراء بعد ان استهوته عبارة :هنا مربط الفرس..! والتي اخذ يكرر قراءتها بصوت مرتفع .انتهيت في الزنزانة 27 الانفرادية وهي المحجر المظلم الذي اتاح لي الاستماع الى حفلات التعذيب اليومية المسائية. فزنزانتي التي شيدت في العام 1970 مع بقية المحاجر الانفرادية قد جرى اعمارها على ارض ملعب التنس او الملعب الرياضي للعائلة المالكة العراقية في قصر الرحاب او النهاية.انعقدت اول حفلة تعذيب امام زنزانتي في ليلتي الاولى ولم استطع ان اجمع انفاسي في ذلك الظلام الدامس فبدأت ابحث عن اللاوعي كي اهرب اليه ولم استطع ان اجد درجاً للهروب لشدة البكاء وتعالي اصوات المعذبين الذين جرى صلبهم على تلك السلالم.استطعت ان اغلق اذني بفتات الخبز الذي تدافعت عليه بحثاً وانا اُقاوم فصيل من النمل المنظم قوي الشكيمة استوطن في محجري. واستشعرت بان لا اجعل الحياة عبئاَ عليَ وينبغي ان اتحول حالاً ! ولكن ربما تحولت الى شيء صغير ، هو اصغر من النمل(أي بشر منمل) ولكن صفوف النمل في ذلك المحجر امست امام حالتي المتهاوية، قوى عملاقة هي اكبرمن شيء اسمه البشر.استذكرت حينها الكاتب الروائي فرانز كافكا في روايته الكوميدية المرعبة:التحول ،يوم تبدل البائع المتجول كريكور سامسا ،الذي كان يعيش مع والديه واخته، الى صرصر ضخم وكيف انه عاش اقصى حالات الاغتراب والعزلة المقيتة حتى قضى نحبه! وهكذا ففي محاجر التعذيب اصبحت اكثر قدرة على التبدل.! فبين فصيل النمل الذي تبدل الى بشر في القدرة والوعي والغطرسة وبين تحولي الى نملة ضئيلة تستمع الى شدة الفزع وتقاوم الرعب الذي تطلقه اصوات المعذبين و بحرية عالية في حفلات التعذيب وهي مستمرة في البحث على فتات الخبز لتغلق به المسامع في عالم من اللا آدمية!،قلت في سري ،ان وجودي في عالم المعذبين شيءلايمكن مقاومته الا (بالتنمل البشري) والبحث عن فتات الخبز بحرية واسعة . خرجت يومها من بوابات قصر النهاية ضمن اعاجيب الدنيا السبعة وبيقين واحد بان الجلاد هو انسان يتبدل الى وحش كاسر في حفلة التعذيب حتى تكتمل الاطراف الثلاثة في رواية كافكا: التحول ….ولكن التحول او التبدل في هذه المرة سيطال: الضحية والنملة والجلاد في محاجر وزنزانات قصر مرعب اسمه النهاية!!!!
د.مظهر محمد صالح: في انتظار كافكا…!
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية
\رائع جداً دكتورنا الغالي