محمد سلمان حسن

د. فاضل عباس مهدي: الدكتور محمد سلمان حسن كما عرفته

تعود معرفتي بالدكتور محمد سلمان حسن الى عام 1967 اثر عودتي من الدراسة في بريطانيا. وكان الدكتور حسن انئذ يخوض نزالا تنافسيا على رأس قائمة الديمقراطيين  في معركة انتخابية غير متكافئة ضمن جمعية الاقتصاديين العراقيين كان قطبها الآخر الدكتور خير الدين حسيب وقائمته التي ضمت اقتصاديي حكومة عارف  مما يسًر لها تسخير الأجهزة الوظيفية الحكومية للفوز بالانتخابات تلك. وكان اسم الفقيد معروفا لي فقد كنت قد اطلعت على مقالته المقدمة الى مؤتمر دراسات التاريخ الاقتصادي للشرق الاوسط المنعقد في جامعة لندن عام 1967 والذي شارك ببحوثه البعض من المع اقتصاديي التنمية في الشرق الاوسط آنذاك كان منهم الاستاذ حسين مهدوي من جامعة هارفارد، والذي كان اول من صاغ مفهوم “الدولة الريعية” ليطرحه في ذلك المؤتمر، والبروفيسورين سمير امين من جامعة بواتييه و شارل عيساوي  من جامعة كولومبيا وآخرين. وقد نُشِرتْ إسهاماتهم العلمية المتميزة مع ورقة الفقيد  بعد ثلاثة سنوات في الكتاب الذي حرره  كوك (1). كان فقيد علم الاقتصاد العراقي قد قضى آنئذ اكثر من عشر سنوات في الوطن بعد إكماله الدكتوراه في جامعة اكسفورد والماجستير في جامعة لندن مُسهِماً في سنواتها الخمسة الاولى بأعمال اقتصادية وظيفية عديدة في الدولة بدءً بمجلس الاعمار ووزارة التخطيط بعد تأسيسها إلا ليلقى في السنوات الخمس التاليات، وما اعقبها، ما لقيه العديد من حملة الرأي من المثقفين والمتخصصين من إعتقالات متعددة على مدى عقدين وإضطهاد واضح وفصل من العمل رغم علو كفاءته  وسمعته الدولية وتميزه بمعارفه الواسعة ناهيك عن مجال اختصاصه.

    ببغداد ،عرًفني بالفقيد زميل الدراسة المرحوم الدكتور فؤاد الدهوي في اواخر صيف 1967 فوجدت مكتبته منتدى اقتصاديا عامرا بالبعض من افضل الاقتصاديين الشباب في تلك المرحلة الذين كانوا يلتفون حوله املا بخلق تيار عراقي رصين للفكر الإقتصادي التقدمي. وقد كان محور المنتديات مع فقيد الفكر الاقتصادي التقدمي الدكتور محمد سلمان حسن هو كيفية الاسهام ببناء اقتصاد العراق بمنهجية علمية تنتشله من مسار التبعية الإقتصادية المقترنة بالتخلف الإقتصادي والإجتماعي كما ترفده بسياسات فعالة لتحريره  من هيمنة شركات النفط. الأجنبية. وكان رهط غير قليل من الاقتصاديين العراقيين آنئذ متأثرين، دون شك، بكتاب الراحل الذي كان رائداً في تحليل التاريخ الاقتصادي للعراق بين 1864 و1958 (2) كما تأثروا بطروحاته بأواسط الستينيات لتأميم شركة نفط البصرة (3) في حين آثرت الحكومة العارفية الأولى وأهم مستشاريها من بعض الاقتصاديين توجيه ضربة كانت قاصمة للتطور الإقتصادي المستقل وذاتي الإندفاع بتأميمها مصانع القطاع الصناعي الخاص وشركات التأمين والمصارف الخاصة بدلاً من تأميم شركات الامتيازات النفطية. وكان طرح الدكتور محمد سلمان حسن لمقترح تأميم شركة نفط البصرة رداً على التوجهات الحكومية تلك وايضاً على محاولات حكومية اخرى متعاقبة لتسويف فعل القانون رقم 80 لعام 1961 والذي استرجع العراق بموجبه معظم الاراضي الامتيازية لكارتيل النفط العالمي. وتمثلت هذه المحاولات الحكومية منذ 1964  بمشروع شركة نفط بغداد في ظل إدارة غانم العقيلي لشركة النفط الوطنية المستحدثة ذلك العام والذي اعقبه استقدام شركة ايلف ايراب الفرنسية في ظل إدارة الناصريين بعد ترؤس اديب الجادر لها وذلك بدلا من اللجوء الى الاستثمار الوطني المباشر  لبعض الحقول التي صارت في عهدة شركة النفط الوطنية ومن اهمها حقل الرميلة الشمالي.

    حتى 1968 كان الفقيد متعرٍضاً للفصل السياسي من وظيفته الحكومية إثر الانقلاب البعثي – القومي في 8 شباط 1963 الذي اطاح بالحكومة الوطنية لعبد الكريم قاسم. وإثر ذلك الانقلاب الاسود، إعتُقل في سجن نقرة السلمان لتسعة شهور إنتُهكت فيها حقوقه المدنية كما فقد جزءً من قدراته السمعية نتيجة التعذيب الجسدي. كل ذلك لم يفت من عزيمته وإصراره على البقاء قريبا من الشعب والوطن رغم أن سمعته الدولية ومؤهلاته الاكاديمية في البعض من احسن جامعات الاقتصاد في العالم كانت ستفتح له فرصاً غير قليلة للهجرة والعمل الكريم والمجزي لكنه آثر البقاء داخل العراق آنئذ  صابراً رغم معاناة اسرته الكريمة ماليا ومعنويا. وكان الفقيد آنذاك  مسؤولا  والمرحومة زوجته ايسر شوكت الخفاف عن والدته وصغيريه يسار وعمار. ودون شك، فقد اسهم  بصموده داخل الوطن عمل زوجته في شركة التأمين والذي اشار اليه بعرفان المثقف التقدمي لدور المرأة  بقوله : “لولا  كفاحها الدائب من اجل كسب المعيشة، لما إستطعت ان اتفرغ لإكمال هذا البحث خلال العامين الماضيين”(4).

 وفي حقيقة الامر، كان ذلك الكتاب موسوعة بحثية رائدة ومتميٍزة شملت مواضيع كثيرة قام برصد آثارها وتفاعلاتها محلٍلاً في متونه التاريخ الاقتصادي للعراق على مدى 96 عام بدءً بالسكان وتقديراتهم وتركيبتهم وإنتقالاً الى البطالة وتقديرات حجمها مرورا بتطور قطاع التصدير والقطاع الزراعي واثريهما في توطن النسبة العالية من السكان من البدو آنذاك والذين تحول الكثير منهم الى منتجين زراعيين. وقد حلل الكتاب ايضاً تبعات تطور تجارة الاستيراد التي دمرت العديد من الصناعات الحرفية  ليرصد تأخر نشوء الصناعات الاستهلاكية الوطنية ومن بعدها الصناعات الانتاجية. وبقراءة هذا السِفرْ، يجد الاقتصادي عرضا سلساً ومتيناً يمتزج فيه التحليل النظري بالمعرفة الرصينة المعززة رقمياً لتحاليله للواقع الاقتصادي الذي بيًن تزايد تأثره واندماجه بالاقتصاد العالمي عبر توسع التجارة الخارجية  وعبر التحولات النسبية  للأسعار الدولية للاستيراد والتصدير. و انعكست هذه الاخيرة بتقديراته لآثار نسب التبادل التجاري على ميزان المدفوعات والادخار والاستثمار ومن ثم النمو الاقتصادي. وقد تطرق الكتاب أيضا، وبتعمق، الى آثار تطور قطاع النقل النهري والى نتائج السياسات الاقتصادية والتجارية في الحقبة العثمانية التي كان محورها جبائياً لصالح خزينة الباب العالي في اسطنبول وتسديد ديونها المتفاقمة مما أخًر إرهاصات النمو والتطور الاقتصاديين في العراق حتى اوائل القرن العشرين. وقد رصد الكتاب ايضاً تطورات حقبة الدولة الوطنية في اوائل مراحل نشوئها حتى عام 1958. وكان في كل ما تقدم  يؤكد على البعد الاجتماعي – السياسي وآثاره الاقتصادية  وخصوصا ذلك الذي حلًلَ فيه اثر التحول من نظام الملكية العشائرية للارض والى ملكية سائدة لشيوخ العشائر والبرجوازية المدينية حيث اسهم تحول شيوخ العشائر الكبار الى ملاكين غائبين عن اراضيهم  في زيادة الاستهلاك الترفي  مما إنعكس بانخفاض معدلات الادخار الوطني وايضا بقلة الاستثمار في تطوير غلة الارض الزراعية التي تدهورت انتاجيتها وتملحت بعد ان امست مصدرا للريع الممول للاستهلاك والاستيراد الترفيين.  وحلل كتابه  ايضا الترابط الوثيق بين هذا النمط من الاستحواذ والتصرف  بالريع الزراعي مع مستوى معيشة الفلاحين الذي  تدهور نتيجة المحاصصة مع كبار الملاكين من جهة ولتدهور الغلة الزراعية للارض من الجهة الاخرى. وقد رصد الكتاب احدى نتائج هذا التدهور في مستويات المعيشة للفلاحين في تزايد ميولهم للهجرة من مناطق تركز الاقطاع الريفي كلواء العمارة (محافظة ميسان حالياً). وقد بيًن تزايد الهجرات الريفية الى ضواحي المدن الأكبر ليشكل هؤلاء المهاجرين هناك طبقة مسحوقة من فقراء المدن والحواضر. وبالترابط، فقد حلل الراحل في كتابه القيٍم هذا تبعات اخرى للتركز الواضح في الملكيات الزراعية وتحفيزه للاستهلاك الترفي على حساب الاستثمار بشكل أعم إذ بيًن اثر ذلك في قلة الموارد التي توجهت لتطوير الصناعات التحويلية. بالتالي، فقد كان الكتاب رائداً في تحليل الترابط الوثيق بين مشكلة الارض الزراعية والقطاع الزراعي عموما ومشكلة تمويل التطور الصناعي  الذي بقي بطيء النمو رغم أننا نشير هنا أن  كتابه لم يكن قادراً على إعطاء ما يكفي من الدلائل الرقمية الموثٍقة لإشكالية التمويل بسبب تخلف الحسابات القومية حتى خمسينيات القرن الفائت.

    بسبب علو صيته العلمي والمهني، دعت الامم المتحدة  في 1967 الدكتور محمد سلمان حسن للتدريس في المعهد العربي للتخطيط الذي كانت قد اسسته للتو في الكويت. وإنظم الفقيد الى طاقم  هذا المعهد البحثي-التدريبي لكوادر اجهزة التخطيط الاقليمية.  وقام هناك بالقاء محاضرات في مادة التخطيط الصناعي  ونشر كتاباً عن الموضوع ذاته في نفس الفترة (5). وبعد إنقضاء السنة التعاقدية، اخبرني الفقيد بأن المعهد المذكور طلب منه تجديد التعاقد مع الامم المتحدة سنة اخرى ولكنه إعتذر رغم الإغراء المادي فقد كان قد استخدم السنة التعاقدية الاولى لتحسين اوضاعه المالية التي تدهورت عبر سنوات الفصل الحكومي من الوظيفة مما ادخله في ديون لبعض اصدقائه ومحبيه اراد تسديدها. وكان العراق آنئذ يمر بإحدى ازماته السياسية إذ قام البعثيون بإنقلاب عسكري في 17 تموز 1968 بالتعاون الوثيق مع عبد الرزاق النايف الذي اتهموه في 30 تموز بكونه من المتعاونين مع وكالة المخابرات المركزية. وكان احمد حسن البكر قد اصبح رئيسا للجمهورية في هذا الانقلاب ليحاول، اول الأمر تبييض السمعة الدموية التي اكتسبها البعث من مجازر عام 1963 فإتصل بعدد من الشخصيات الاقتصادية المعروفة بقربها من التيارات الديمقراطية واليسارية لإغرائها بوظائف وزارية فقبل البعض عروض التوزير والتعاون. وكان من الشخصيات االمُتًصل بها هو الدكتور محمد سلمان حسن والذي ارسل البكر طائرة خاصة لتقله من الكويت للتباحث بعرض تسنمه وزارة المالية بعد الاطاحة بطاقم النايف في 30 تموز. وقد اخبرني الفقيد انه رفض عرض التوزير وطلب من البكر بدلاً من ذلك إعطائه إجازة إصدار صحيفة. وقد رفض البعثيون طلب المرحوم لخشيتهم من امتداد تأثيره الفكري في الأوساط المثقفة والشابة فعاد الى عمله في معهد التخطيط عازماً إنهاء السنة التعاقدية والعودة الى ربوع الوطن الذي كان يشعر انه على مفترق طريق خطير.

    تراجعت الحكومة الجديدة عن فصل العديد ممن فُصلوا من وظائفهم عام 1963، فعاد الدكتور محمد سلمان حسن هذه المرة ليلتحق استاذا مساعدا في كلية الاقتصاد/ جامعة بغداد إذ لم يشأ المعنيون بهذا التوظيف منحه كل ما يستحق كإقتصادي عراقي لامع ومعروف دوليا الا وهي درجة الاستاذ البروفيسور. رغم ذلك، وبالنظر لمكانته، فقد إنتخبه الاساتذة رئيسا لقسم الاقتصاد حيث امضى في رئاسة القسم قرابة العامين ادخل فيها بعض الاصلاحات على المناهج كما على معايير توزيع المحاضرات بين اساتذة القسم. وقد امضى الدكتور الراحل حوالي العشر سنين استاذا جامعيا حتى جاءت الموجة العاتية الثانية من القمع على حملة الفكر التقدمي في اواخر السبعينيات. وكان الدكتور حسن قد امضى خلال هذه الحقبة من عمره فترات متعددة تعرًض فيها الى عمليات ممنهجة من الاعتقال والتعذيب ومحاولة كسر عزيمته. وقد تعرض في الإعتقال الى التعذيب الجسدي والنفسي ولم يفك اساره إلا بوجود حملات عالمية استنكرت اضطهاده. وكان هذا الاضطهاد ينبع من خشية نظام البعث من تأثيره فقد كان يقول في مجالسه الخاصة الكثير من النقد كأن يقول مثلاً باللهجة البغدادية مثلاً : ” هذا مو تخطيط بدوي!”.  وكان تعبيره هذا إشارة الى الأساليب التدرجية الماكرة  التي اتبعتها حكومة البكر – صدام عند إحكام الدولة سيطرتها على الوضع السياسي وذلك بضرب وقمع التيارات السياسية المعارضة تباعاً بدءً بانصار القيادة المركزية للحزب الشيوعي وانصار الجناح الموالي لسوريا من البعث والقوميين، في حين سعت اول الامر لكسب الوقت عبر التهادن مع الثورة الكردية في اتفاقية 11 آذار 1970 و بسعيها لإجتذاب الحزب الشيوعي  للدخول في جبهة سياسية مع حزب البعث بعد أن قامت بمنحه إجازة لإصدار صحيفة ناطقة بإسمه.  وسعت الحكومة ، في أوائل عهدها ، ايضاً للغزل مع الإتحاد السوفياتي عبر الإعتراف الدبلوماسي بحكومة المانيا الديمقراطية عام 1969 والتي كانت تعاني من العزلة الدولية آنذاك.

    وفي اواسط السبعينيات، وبعد ارتفاع اسعار وعوائد النفط كان الفقيد يردد على اصدقائه ومريديه بأنه يتوقع ان يطفو المجتمع في إغراءات استهلاكية (او ما عبًر عنه بكلماته بتكويت العراق إشارة الى محاولات نقل النمط الاستهلاكي الكويتي الى العراق) مبيناً أيضاً  خشيته من زج العراق في سلسلة مغامرات عسكرية ينتج عنها دمار واسع بسبب العسكرة المتزايدة للدولة والمجتمع العراقيين. كان ذلك الكلام منه خاصاً لمريديه واصدقائه من المثقفين لم يستطع الفقيد نشره بسبب شدة القمع آنذاك.  وقد شكل توقعه للمغامرات العسكرية للنظام في اواسط السبعينيات إستبصاراً مبكراً لما تحقق في الثمانينيات وما بعد من تَغولٍ للدولة على المجتمع. وقد بني رأيه هذا على تحليل صائب للمسار الذي كان العراق قد بدأ بولوجه  مع تعمق ظواهر كسب المنتفعين من الترييع المتزايد للعمل في الدولة التي تضخمت أعداد العاملين في أجهزتها الأمر الذي عمًق ظواهر عسكرة المجتمع والدولة في ظل رئاستي البكر وصدام اللتين زجًتا البلاد في حروب داخلية مع الاكراد وخارجية مع ايران ومن بعدها الولايات المتحدة بعد غزو الكويت.

    كان الفقيد مدركاً لإستهدافه من قبل النظام البعثي الجائر وكان يحس بأن داره الواقعة في حي اليرموك كانت مرصودة من أجهزة المخابرات الصدامية لكنه لم يلن في عزمه على الصمود داخل الوطن ليتيسر له الإتصال بالآخرين ومنهم مثلا اصدقاءه الكثار من حملة الافكار التقدمية كابراهيم كبة وعبد الفتاح ابراهيم وغيرهم سعيا منه ومنهم لتكوين تيار فكري وسياسي تقدمي بإسم “الديمقراطيين المستقلين.”  وكان هذا التيار قد تشكل في اواسط الستينيات وقدم بعض المذكرات الناقدة لسياسات حكومات متعددة تعاقبت على دست الحكم. بالتالي، وبالرغم من الأهمية التحليلية الرائدة لما كتبه الفقيد في شؤون علم الاقتصاد وتطبيقاته في العراق، إلا ان نشاطه تعدى الحدود المهنية الضيقة بإتجاه ممارسة نضالية فاعلة لمن كان متأثراً بتراث المدرسة الكلاسيكية في علم الإقتصاد التي تأسست وتوطدت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي اطلقت على هذا العلم “الاقتصاد السياسي.” وكما هو معروف ، فقد كان من رواد هذه المدرسة آدم سميث ومن ثم دافيد ريكاردو الذي طوًر نظرية القيمة في العمل  والتي استخدمها  كارل ماركس ضمن نظرياته التي ركًزت على توزيع القيمة بين الراسماليين والعمال عبر طرحه لمفهومي فائض القيمة والإستغلال. اما في القرن العشرين، فقد جاء كل من اوسكار لانجة ومايكل كاليتسكي بكتابات اعادت بعض الزخم لمنهجية الاقتصاد السياسي بعد ان تأسس تيار النيوكلاسيك وطغى في الاوساط الاكاديمية الغربية منذ الربع الاخير من القرن التاسع عشر وحتى افل الكثير من نجمه بصعود الكينزية بعد الكساد الكبير لثلاثينيات القرن المنصرم . وقد سعى الفقيد في السبعينيات لنشر البعض من اهم ما كتب في القرن العشرين عن الاقتصاد السياسي بين القراء العرب والعراقيين فأنفق البعض من ثمين وقته في ترجمة كتاب الاقتصاد السياسي لاوسكار لانجة  كما كتب مقدمة مهمة الًفها هو لهذا الكتاب.  وكان الفقيد في ذات الوقت يمارس عمله الاكاديمي ويشرف على أطاريح الماجستير لطلابه في جامعة بغداد حتى إحالته على التقاعد  إضافة الى نشاطه كديمقراطي مستقل في نقد الحكومة وسياساتها  الاستبدادية.

    لقد تعرض الفقيد نتيجة عمله الفكري والسياسي المستقل الى سلسلة لئيمة من الاضطهادات كان منها إغتيال  ابنه الاصغر عمار بالدهس على احد الارصفة  في البصرة حيث كان طالبا لامعا في كلية الطب ضمن جامعة البصرة. وقد تكررت الاعتقالات بحق هذا المفكر الرائد بغية الحد من نشاطاته فاعتُقل الدكتور محمد سلمان حسن في السبعينيات والثمانينيات عدة مرات منها لمدة اسبوعين في 1971 ول 4 اسابيع في 1973 ولفترة اسبوع في 1976 ومن ثم لشهر واحد في 1981. وكان آخر الاعتقالات واكثرها إيغالاً في القمع اللئيم لهذا المفكر العراقي الاصيل زجًه من قِبَلِ اجهزة الامن الصدامية في مستشفى الشماعية لمدة 3 اشهر حيث تعرًض للضرب واضرب عن الطعام إحتجاجاً لمدة 28 يوم. كل هذا القمع لم يكن إلا لكسر عزيمته فقد كانت الحكومة ترسل بعض معارفه من الذين اشترى النظام ذممهم محاولين إغرائه بالتنازل عن افكاره السياسية ومبادئه الاخلاقية دون ان تلين قناته كما لانت قناة البعض  عبر المناصب والمال والحظوة الزائفة، الأمر الذي كان يوغر صدورهم عليه اكثر فأكثر.

    قبل قرابة الربع قرن ، وبالذات في 17 كانون الثاني 1989 ، رحل “غاندي العراق”  المفكر الاقتصادي والمناضل الوطني الصلب والزاهد الدكتور محمد سلمان حسن ليدفن في مقبرة اسرته آل الجراح  في ابو غريب جنبا لجنب مع ولده الشهيد عمار. وقد ظن النظام البائد بوفاته انه قد تخلص من مُعارض عراقي آخر لم تلن قناته لكن الذكرى العطرة لهذا المفكر الشجاع الذي جاء من وسط شعبي مكافح والذي جاد بنفسه وباسرته باقية في قلوب محبيه وتلامذته وفقراء العراق. لقد ناضل محمد سلمان حسن من اجل إستقلال العراق واقتصاده من التبعية الى الخارج  واعطى حياته لأجلهم ولاجل الشعب وناضل لتحسين اوضاعهم في عراق كان يأمل ان يصبح ديمقراطيا. وكان من معطيات نضاله هذا المجهودات الفكرية البارزة والسياسية الحثيثة التي تحدثنا عن البعض منها .

    كان الدكتور محمد سلمان حسن يسعى جاهداً لتحقيق عراق ديمقراطي مستقل عن الهيمنة الامبريالية وعن العسكرة المتزايدة للدولة والمجتمع عبر التسلط الحكومي والطبقية في توزيع الدخل والثروات، عراق الشعب الذي كان يأمل ألا تسوده العنصرية ولا يعرف الطائفية والتمييز الاجتماعي وهو عراق المواطن الحر الذي لم يتحقق لحد اليوم للاسف الشديد.

الهوامش

(1) M.A. Cook (editor) – Studies in the Economic Hi8story of the Middle East…..Oxford University Press, Oxford 1970

(2) محمد سلمان حسن – التطور الاقتصادي في العراق: التجارة الخارجية والتطور الاقتصادي 1864 – 1958 الجزء الاول منشورات المكتبة العصرية للطباعة والنشر – صيدا – بيروت   1965.

(3) راجع مقالته عن مقترح تأميم شركة نفط البصرة والمنشورة في : محمد سلمان حسن – دراسات في الاقتصاد العراقي . دار الطليعة. بيروت. 1966.

(4) المصدر السابق ص 14.

(5) د. محمد سلمان حسن – التخطيط الصناعي . دار الطليعة .بيروت 1968

(*) خبير اقتصادي عراقي، المدير السابق لقسم التحليل الاقتصادي في الامم المتحدة (الاسكواش)

المصدر: مجلة الثقافة الجديدة، العدد 368-369 ايلول 2014

http://www.althakafaaljadeda.com/368-369/6.htm
 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. Avatar
    laith alsaffar:

    رحم الله الفقيد الراحل الدكتور محمد سلمان حسن ( ابو يسار) . للتنويه ان السيده الفاضله زوجته ايسر شوكت الخفاف كانت تعمل في شركه اعاده التامين العراقيهوقد توفيت رحمها الله في لندن عندم كانت تعيش مع ابنها البكر يسار , واعتقد ولست جازما بأن الابن الاصغر عمار قد اغتيل في البصره بعد وفاه والده بفتره.

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: