تواجه حكومة د. حيدر العبادي اليوم واجبات ومهمات كبيرة وجسيمة، ينتظر الشعب العراقي وبفارغ الصبر من هذه الحكومة انجازها. وفي مقدمة هذه الواجبات والمهمات معالجة الوضع الامني، وتأمين الاستقرار في ربوع الوطن، وخاصة بذل جهود استثنائية للإسراع في القضاء على (داعش) وعصاباتها من التنظيمات الارهابية، وتحقيق السلم الاهلي بين كافة اطياف مكونات الشعب العراقي، عبر حل المشاكل السياسية والطائفية والاثنية بين الاطراف المشاركة في العملية السياسية ومع اقليم كردستان لمصلحة وحدة العراق وشعبه. وكذلك، التوجه الجدي نحو تفعيل دور واداء مؤسسات الدولة المختلفة، استناداً الى مبادئ الادارة الرشيدة المبنية على اسس الديمقراطية الحقيقية والشفافية والنزاهة والمسؤولية، والافصاح عن المعلومات، ومحاربة الفساد المالي والاداري المستشري في المفاصل الادارية والحزبية.
ان الخلفية الايدولوجية المعتمدة من الحكومات المتعاقبة تستند على اوامر وقرارات وتوصيات الحاكم الأمريكي السابق (بول بريمر) بعد الاحتلال في 2003، ومؤازرة بعض الاقتصاديين اللبراليين الجدد، والمتماشية مع سياسات المنظمات المالية الدولية (الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية). فالتأكيد في البرنامج الاقتصادي الحكومي الحالي، وضمن محاور عديدة، ينصبُّ على تشجيع التحول نحو القطاع الخاص، والاصلاح المالي والاداري للمؤسسات الحكومية، وكلها تُقرُّ وتدعم الخصخصة.
وتعني الخصخصة تحويل (الملكية العامة) إلى (الملكية الخاصة)، التي تتوجه عادة نحو المشاريع ذات الربحية العالية، واطلاق تحديد الاسعار في السوق على اسس المنافسة الحرة بدون اي قيود، مما يمهد الطريق، في النهاية، الى الهيمنة الاحتكارية للشركات الكبرى وتثبيت اقدامها في السوق والتصرف بالأسعار والجودة لمصالحها الخاصة (تحقيق اقصى الأرباح)، والاستحواذ على الشركات الصغيرة والمتوسطة وطردها من الاسواق.
اما اقتصاد السوق، وفق هذه الايدولوجية، فيعني ابعاد الدولة عن السوق وعدم تدخلها في تنظيم ومراقبة النشاط الاقتصادي أو تقليص دورها إلى أبعد حدٍ ممكن، باعتبار أن السوق نفسه يقوم بذلك من خلال العرض والطلب والمنافسة الحرة.
ضمن هذه المعطيات نرى أن حالة الاقتصاد العراقي اليوم تحتاج الى التوجه نحو تطبيق نوع من الاقتصاد المتوازن وفق الأشكال المتنوعة للملكية (الحكومية، التعاونية، المختلطة)، و/أو حتى القطاع التطوعي، اذا اصبح جزءاً من الثقافة العراقية مستقبلا، مع تبني وتطبيق اجراءات الحماية للإنتاج الوطني العراقي من إغراق السوق المحلي بالمنتوجات الخارجية وتحرير الاسعار من اي قيود.
ولتحقيق هذه المهمات وغيرها يتطلب من الحكومة الحالية التفكير الجدي بعملية الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تبني رؤية واضحة وشفافة لاستراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، تتضمن البعد الاقتصادي والاجتماعي الشامل لهذه العملية وفق جملة من التوجهات نعرضها، باختصار، كما يلي:
اولا: البعد الاقتصادي
1ـ إن اصلاح الهيكل الاقتصادي يجب أن يستند على استراتيجية واضحة وشفافة لتنشيط وتفعيل القطاعات الانتاجية، وفي مقدمتها الزراعة والصناعة والتشييد وغيرها، وتأمين البنى التحتية والتكنولوجيا الحديثة اللازمة لها، بغية تخليص الاقتصاد العراقي من بنيته الاحادية الجانب القائمة على الاعتماد على الريع النفطي، وذلك لتنويع القطاعات الاقتصادية للمشاركة في انتاج الناتج المحلي الاجمالي، والتأمين الدائم لمصادر تمويل الميزانية العامة للدولة من خارج القطاع النفطي.
2ـ تفعيل دور القطاع الخاص الوطني وتشجيعه للمساهمة في زيادة الاستثمار والانتاج والتشغيل، من خلال التمويل المُيَسّر للصناعات الصغيرة والمتوسطة وبالتعاون مع الغرف التجارية واتحاد الصناعات العراقية. اما القطاع الخاص الاجنبي فإن الاستفادة منه يجب أن يكون بشكل عقلاني ومدروس، للاستثمار في القطاعات التي تضم الصناعات الكبيرة ذات التكنولوجيا المتقدمة والمتطورة التي تتطلب الخبرة والمهارة العاليتين غير المتوفرتين لدى الكادر الوطني. ويجب دراستها بإمعان من جميع جوانبها المالية والادارية والتنظيمية والقانونية، وفق اسس المصالح المشتركة وصيانة السيادة الوطنية.
3ـ اصلاح النظام المالي والنقدي من خلال البنك المركزي، الجهة الوحيدة المستقلة والمتخصصة في رسم السياسة النقدية، من دون التدخل في واجباته الاساسية في عملية تامين الاستقرار النقدي، والحفاظ على الرصيد الاحتياطي من العملات الاجنبية لديها، وسعر صرف الدينار العراقي مقابل سلة العملات الاجنبية. وكذلك، مراقبة ظاهرة التضخم من خلال السيطرة على ارتفاع الاسعار مقابل تعزيز القوة الشرائية للدينار العراقي، وتحديد سعر الفائدة، وتفعيل وتنشيط دور المصارف وتقديم الدعم اللازم للقطاع الخاص من القروض الميسّرة بفوائد منخفضة. بالإضافة إلى متابعة عمليات الاستيراد وفق الوثائق الحقيقية لها، ومراقبة تنفيذ الاعتمادات المستندية ووصول البضائع إلى الموانئ والمنافذ الحدودية العراقية، تلافياً لحدوث عمليات الفساد المالي وغسيل الاموال. هذا اضافة الى السعي لزيادة معدل النمو الاقتصادي والتشغيل، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الدخول والثروات في المدى المنظور.
4 ـ وفي الجانب المالي، يجب الاهتمام باستخدام معايير علمية ومنطقية في تبويب واعداد الموازنة العامة، تعتمد على قياس كفاءة الاداء والانتاجية، والتحكم بالموارد المالية المتاحة بشكل عقلاني، بحيث تكون تقديرات الميزانية اقرب الى الواقع على اساس الاهداف والبرامج الحقيقية .
5ـ الزام وزارة المالية بتطبيق “قانون الادارة المالية” والذي ينص على تطبيق شفافية الموازنة تجاه استخدام الاموال العامة في مجال التنمية الوطنية المستدامة وفقاً للمعايير الدولية المتبعة، وتزويد المجتمع بمزيد من البيانات والمعلومات عن الحالة الاقتصادية والموازنة العامة للدولة بغية الاطلاع على اولويات وتفاصيل اوجه الانفاق ومصادر المالي الحكومي.
6 ـ معالجة الخلل البنيوي في تركيبة الموازنات السابقة، بسبب التفاوت الكبير في نسبة توزيع نفقات الموازنة بين الانفاق العام التشغيلي الذي يمثل معدلاً بحدود 70% والانفاق العام الاستثماري بحدود 30% من مجموع الميزانية. وتسبب هذه الحالة (تدني الانفاق لاستثماري) عجز الموازنة في خلق حالة ديناميكية على مستوى تحقيق النمو الاقتصادي بمعدل 5% إلى 7% على سبيل المثل، والذي يشترط وجود استثمارات ضخمة يحتاجها البلد في مجال اعادة بناء البنى التحتية والتوسع فيها، وتأهيل القطاع النفطي لرفع إنتاجه من النفط الخام الى 9 مليون برميل يوميا حتى عام 2020، وبأسعار معتدلة للنفط، وكذلك النهوض بالقطاعات الانتاجية الأخرى. ولتحقيق ذلك يتطلب توزيع نفقات الموازنة بالمناصفة بين التشغيلية والاستثمارية في المدى المتوسط والبعيد.
7ـ اصلاح النظام الضريبي بما يحقق العدالة والحد من الفساد المالي والاداري المستشري فيه.
8 ـ اصلاح النظام المحاسبي بحيث يرتقي الى مستوى القياس العالمي، من خلال توحيد الانظمة المحاسبية المتعددة المعمول بها حاليا في القطاعين العام والخاص، وتطوير اساليب الرقابة المالية وجودتها، ورفع القدرات المهنية للعاملين في حقلي المحاسبة والادارة، واستخدام ادوات جديدة لمعالجة وظيفة النظام المحاسبي لإنتاج المعلومات الاقتصادية على الصعيدين الكلي (الماكروي) والجزئي (المايكروي)، وتطبيق المعايير المحاسبية الدولية، مما سيعود بفوائد كثيرة على توثيق المعاملات التجارية الداخلية للشركات الوطنية والاجنبية او الشركات العالمية-العراقية المشتركة.
9ـ تطبيق نظام مالي حديث بالاعتماد على التكنولوجيا المعلوماتية لإنتاج البيانات والمعلومات المالية اللازمة لعملية اتخاذ القرارات الاقتصادية والادارية.
10ـ ضرورة تفعيل وتطبيق مبدأ اللامركزية الادارية والمالية للأقاليم والمحافظات العراقية.
ثانيا: البعد الاجتماعي
يجب ان تحقق التنمية الوطنية الشاملة ابعادها ومردوها الاجتماعي، من خلال انجاز المهمات الاتية:
1ـ معالجة ظاهرة البطالة عن طريق تأمين فرص العمل اللائقة للجميع، والقضاء على الفقر وتقليل الفوارق الطبقية، من خلال تأمين فرص تشغيل اكثر للطبقة الوسطى لتوسيع حجمها، وتقليص حجم الفئات الفقيرة وتلك التي تعيش تحت خط الفقر.
2ـ اعتماد سياسات اقتصادية واجتماعية شاملة للجميع لتحقيق مبدأ العدالة الاقتصادية والاجتماعية، بهدف تقليص التفاوت الكبير في مستويات الدخل وتراكم الثروات بين الافراد وبين مناطق البلاد.
3ـ المسؤولية الاجتماعية تجاه البيئة وحمايتها من التلوث والدمار.
4 ـالمساهمة في سوق العمل عن طريق تأهيل وتدريب القوى البشرية العاملة، لمواكبة التكنولوجيا الحديثة، بهدف رفع الانتاج والإنتاجية وجودتهما.
5 ـالاعتناء بجودة الانتاج وتقديم افضل الخدمات التسويقية وفق المعايير القياسية، لصالح المستهلك وحمايته.
6 ـتامين نظام الضمان الاجتماعي لمساعدة الفقراء والعاطلين عن العمل، واتباع وسائل فعالة لتوزيع الدخل بين افراد المجتمع بعدالة قدر الامكان.
7ـ توفير نظام مجانية الصحة لجميع المواطنين.
8 ـ توفير التعليم المجاني بجميع مراحله لكافة ابناء الشعب.
٩ـ رفع الوعي العام والمستوى الثقافي والحضاري للمجتمع، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني في ممارسة الديمقراطية والمشاركة في صنع القرار والرقابة الشعبية.
ثالثا: استدامة التنمية
ان الابعاد الاقتصادية والاجتماعية المنوه عنها اعلاه، اذا اخذت بها بعناية وجديه وفق رؤية واستراتيجية مدروسة على اسس الاهداف والاولويات والبرامج، فإن عملية التنمية الاقتصادية الاجتماعية، التي هي من صلب اوليات واجبات الحكومة، ستحقق بلا شك مفهوم الاستدامة للتنمية الشاملة، وفق الاهداف الاتية:
1ـ انتقال اقتصاد العراق تدريجيا من اقتصاد ريعي احادي الجانب ذي طابع استهلاكي الى اقتصاد متنوع ذي صفة انتاجية من خلال اعادة الهيكلية الاقتصادية لصالح القطاعات الانتاجية وهو اقتصاد منتج للقيمة المضافة، اي يساهم في زيادة تراكم راس المال.
2 ـ اشباع الحاجات الملحة والمتنامية للمواطنين من خلال اعتماد سياسة الاقتصاد الانتاجي، فهو وحده القادر على رفع انتاجية العمل، بما يساعد على رفع مستويات المعيشة وتوفير السلع والخدمات للمواطنين.
3 ـ ضمان استمرار النمو الاقتصادي بوتيرة منتظمة في الامد المنظور.
4 – الحد من سياسة الاستيراد المفتوح المعمول به حاليا والاقتصار على ما هو ضروري من المنتجات والسلع المختلفة المطلوبة للإنتاج والاستثمار والاستهلاك، والمستلزمات الوسيطة للإنتاج الصناعي والزراعي للقطاعات المختلفة، والاعتماد على الانتاج الوطني من السلع والخدمات المتوفرة وحمايته من خلال تفعيل واعادة بناء المؤسسات الانتاجية الحكومية، وتشجيع القطاع الخاص للمساهمة في الاستثمارات الانتاجية، وتفعيل قانون التعرفة الكركية رقم (22) لسنة 2010 المعدل. وكذلك، التفكير بتصدير المنتجات النفطية البتروكيمياوية والكبريت والاسمدة وغيرها، وبعض المنتوجات الزراعية والحيوانية كالتمر والحبوب والصوف والجلود وغيرها، مما يساعد على تعديل الميزان التجاري لصالح العراق في الامد المنظور.
5 ـ اعتماد الموازنة كنظام للمعلومات في صياغة الاستراتيجيات التنفيذية للمشروعات العامة.
6 ـ تحسين اليات متابعة الاداء الاداري والمالي والتنفيذي لمشروعات الموازنة.
7ـ تعزيز العملية الرقابية من خلال تطبيق المعايير الرقابية والمراجعة الدولية ودليل قواعد السلوك الاخلاقي للمحاسبين المهنيين.
8 ـ محاربة الفساد المالي والاداري من خلال التعاون بين هيئة الرقابة المالية والنزاهة والقضاء والرقابة الشعبية.
9 ـ دعم وتسهيل عملية تطبيق سياسات محاسبية موحدة على كافة القطاعات الاقتصادية.
10 ـ الانتقال من الأساس النقدي لعملية المحاسبة الحكومية المعمول بها حاليا للإيرادات والمصروفات الى تطبيق اساس الاستحقاق.
11 ـ توحيد اساليب اعداد التقارير والقوائم المالية الحكومية والافصاح عنها بشكل دوري وفق المعايير الدولية.
ختاما، ان اشكالا كثيرة ومختلفة من الدمار الذي يمكن اجتنابه تنبع من الخصخصة واقتصاد السوق في ظل غياب التحضير الاجتماعي والتكنيكي الكافي لها. ان ما جرى ويجري في أوربا الشرقية ومعظم البلدان المتخلفة والنامية، والعراق منها، هو اعتناق نسخة من رأسمالية السوق الحرة (المؤدلجة) بقوة ضمن وصفة (العلاج بالصدمة)، التي ليس لها اي اساس تجريبي. تشير بعض المعلومات والتقارير والأبحاث واستطلاعات الرأي في أوربا الشرقية والوسطى ان تفشي الفساد في سياسات الخصخصة والسوقنة، التي تنفذ في ظل القواعد المعمول بها، قد خلقت أساساً للمقاومة يتطلب اما التسوية الشاملة او القمع. والملاحظ من تجربة دول الرفاهية، ومنها على سبيل المثل الدول الاسكندنافية، أنها لا تعكس غير اهتمام قليل بالأشكال البحتة للرأسمالية، بل أن أنظمتها تؤكد على خيار يتضمن أشكالاً من الحماية الاجتماعية وبدرجات متفاوتة. ولتحقيق بديل اخر، قد يظهر نوع جديد من التسوية الاجتماعية يتضمن خليطا مؤسساتياً يختلف عن الرأسمالية الاوربية الكلاسيكية، وينسجم مع العقلانية الاقتصادية بشكل صحيح، والبيئة الاجتماعية والتنظيمية والقانونية لكل بلد.
(*) خبير وباحث محاسبي عراقي مقيم في الدنمارك
الاراء الواردة في كل المواد المنشورة على موقع شبكة الإقتصاديين العراقيين لاتعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير وانما عن رأي كاتبها وهو الذي يتحمل المسؤولية العلمية والقانونية لوحده
حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصالديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 17/3/2015
http://iraqieconomists.net/ar/
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية