قضايا محاربة الفساد والحوكمة الرشيدة

مهدي البنـاي: ايها الاقتصاديون … وفروا وقتكم!

تابعت الكثير من الدراسات والبحوث والمذكرات وأوراق العمل، والمؤتمرات والندوات، التي تناولت سياسات واستراتيجيات ووصايا ومقترحات لانتشال البلاد من واقعها الاقتصادي المؤلم، والبدء بإصلاح الاوضاع الاقتصادية، والسعي لتحقيق تنمية مستدامة، وهي بمجملها ثمرة جهود مخلصة من مختصين واساتذة وباحثين، لهم رؤاهم وافكارهم القائمة اجمالاً على حقائق وبيانات ونظريات اقتصادية ومالية، ولعل الكثير منهم قد استعان بنماذج علمية للنهوض، تمت تجربتها في بلدان عدة. دافعهم حسن الظن، والشعور بالمسؤولية الوطنية والقيام بالدور الطبيعي المسؤول.
 
وباستعراض عدد من هذه المذكرات والخطط (المهمة بالتأكيد) نراها ترسم الخطط العملية الرصينة، ولكن، بمعزل عن بيئتها وروافعها الطبيعية. نرى ان نفس نوعية الخطط المقترحة (من الناحية النظرية والعملية) هي خطط رائعة ومبررة، ومطلوبة؛ وناجعة، وتصف الدواء لكثير من الداء، ولكن، لِمَ تفشل أغلبها عند التنفيذ وربما لا يمكن حتى الشروع ببعضها احياناً؟
 
لا يمكن اغفال ضرورة تنشيط القطاع الخاص، وتنويع مصادر الدخل، ولا يمكن غض النظر عن صوابية ترشيق الدولة، والتخلص من الترهل الوظيفي، وليس حصيفاً التغاضي عن اصلاح قطاع النفط والغاز، وضرورة بناء نظام مصرفي سليم، وأهمية صياغة نظم تعليمية هادفة، ووضع انظمة الرعاية الصحية والاجتماعية، والقيام بالمبادرات المحفزة للنظام الاقتصادي برمته صناعيا وزراعيا وخدميا … الخ من قائمة ضرورات الاصلاح الاقتصادي المستهدف.
 
ولكن لِمَ تَعقم كل هذه المشاريع والخطط عند التنفيذ؟
لماذا نفشل فيما نجح فيه الاخرون ؟
 
باستعراض عدد من تجارب التنمية الناجحة في بلدان اخرى (ماليزيا، سنغافورة، الامارات … الخ) نستطيع تحديد بعض العوامل المشتركة بينها:
 
1-   الاستقرار السياسي.
2-   الاستقرار الامني
3-   تدني مستوى الفساد.
4-   السلطة فوق العادة (القصوى) The Extreme Power
 
هذه العناصر المشتركة (باعتقادي) أنشأت القاعدة والرافعة الاساس لتنفيذ خططهم التنموية وبالتالي حققت الاهداف المرجوة.
 
الاستقرار السياسي، ويقصد به هنا (قدرة النظام السياسي على استيعاب الصراعات داخل المجتمع، بدرجة تحول دون وقوع العنف، وقدرته على التعامل مع الازمات التي تواجهه بنجاح). الصراع السياسي حتمي ودائم الوجود في جميع الدول (بأشكال ومستويات مختلفة)، ولكن تتفاوت قدرات الانظمة السياسية على استيعابه، وفشل بعضها يؤدي الى حالة (اللاستقرار) اي تفشي ظاهرة العنف.
 
غياب الاستقرار السياسي، يشكل عائقاً امام تنفيذ اي من الخطط او المشاريع، لأنها ستتعرض لهجمات الاطراف (غير المُستَوعَبة في النظام السياسي) او تعريض الخطط والمشاريع لأجندات الاطراف السياسية والحزبية، اما بأشكال المحاصصة او الانتفاع او التشويه.
 
لا يمكن ضمان نجاح خطط التنمية في مناخ الفشل السياسي، ولا يمكن توقع تنمية اقتصادية من نظام فاشل سياسياً. أقصى ما يمكن ان يديره وضع (اللاستقرار) هو اقتصاد مرتبك أشبه شيئاً باقتصاد الحرب.
 
الدول الفاشلة سياسياً تنتج ارهاباً ومليشيات وقبلية، ولا يمكن لها ان تنتج اقتصاداً ناجحاً. ولعل توصيف الدكتور مظهر محمد صالح للواقع العراقي بـظاهرة (الدولة الموازية) ادق توصيف للمناخ السائد، فكيف يمكن لخطط اقتصادية ان تنجح في ظل وجود (سوق موازية وحكومة موازية وقضاء موازٍ). منشأ هذه الفوضى بالتأكيد هو الضعف والفشل السياسي.
 
الاستقرار الامني، وهو ان تسود حالة من السلم الاجتماعي والامن بحيث يمكن الاطمئنان على سلامة الاصول المادية والموارد البشرية، واستطاعتها القيام (بشكل طبيعي) بتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية.
 
السلم الاجتماعي والاستقرار الامني، هي احدى عناصر جذب الاستثمار في الكثير من البلدان التي لا تملك موارد طبيعية او موارد جاذبة اخرى، فنراها تراهن على قدرتها بتوفير الامن وصيانة السلم الاجتماعي، لتوفير بيئة استثمارية مغرية (الاردن مثلا).
 
غياب الاستقرار الامني يمثل عاملا طارداً للاستثمار الخارجي ومهددا للاستثمار الداخلي في كثير من الاحيان، وفي نفس الوقت يعرض مشاريع وخطط الدولة للتلكؤ والضياع او ارتفاع التكلفة في احسن الاحوال.
 
تدني مستوى الفساد المالي والاداري، الفساد هو تغليب المصلحة الشخصية او الحزبية او الفئوية على المصلحة العامة، بما يلحق الضرر او الضياع بمصالح الجمهور. ويعرفه اخرون بأنه (خروج على القانون والنظام – عدم الالتزام بهما- او استغلال غيابهما من اجل تحقيق مكاسب خاصة مادية او معنوية. كما عرفته منظمة الشفافية العالمية بانه (كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة، ذاتية لنفسه او لجماعته).
 
باستشراء آفة الفساد المالي والاداري، لا يمكن ضمان التنفيذ السليم للخطط والمشاريع الموضوعة للتنمية، وتصبح الاموال المرصودة لمشاريع التنمية نهباً للفاسدين، ولا يمكن بالتالي تلمس أثر الخطط، ويصبح من العبث توخي الاهداف المرجوة.
 
بدون ضمان التنفيذ الامين للخطط وشفافية ووضوح البيانات المتعلقة بالتنفيذ، تصبح المشاريع عبئاً لا رافعاً للتنمية، وتؤدي الى صراع مجتمعي غير محمود، وهدر للأموال العامة، قد ينشأ ردود أفعال صدامية، بين الفاسدين أنفسهم، او يشكل تهديداً للسلم الاجتماعي من قبل الجماهير التي ترى اموالها قد اضحت نهبا للفاسدين.
 
السلطة فوق العادة (القصوى) The Extreme Power، وهو ما تمتعت به قيادات (سنغافورة – لي كوان يو، ماليزيا – مهاتير محمد، الامارات – محمد بن راشد) فنجد مشتركا هاما، وظفه بذكاء وقوة قادة هذه البلدان، لتنفيذ خططهم وتحقيق اهدافهم بالتنمية السريعة نسبياً.
 
فما تفرضه هيبة وقوة هذه القيادات وتمتعها بـالسطوة والكاريزما غير العادية، اسهم بشكل حاسم في قدرتهم ونجاحهم في تنفيذ خطط التنمية. نعم يمكن القول ان ماليزيا وسنغافورة كانتا تتمتعان بمجالس نيابية وحياة ديمقراطية نوعا ما منذ اواخر الخمسينات، ولكن الخصائص القيادية الفريدة لقادتها، وقدرتهم على فرض رؤيتهم وتصورهم، ونجاحهم في كسب ثقة شعوبهم على تنوعها (عرقياً ودينياً وايدلوجياً) جعل الخطط تنفذ من اناس يؤمنون بها وحريصون عليها، ومقتنعين بنزاهة وهيبة وقوة قادتهم.
 
هذا النوع من النفوذ والسلطة غير العادية يشكل عاملا ضامنا لسرعة التنفيذ ومرونته، كما انه يشكل شرعية مرغوبة لتجاوز بيروقراطية اجراءات الدوائر الحكومية، فأوامر صاحب السلطة (غير العادية) تشكل شرعية جماهيرية بحد ذاتها، كما انها تشكل عاملا مقلقاً للفاسدين او المترهلين، وفي نفس الوقت دافعاً لإثبات كفاءة وقدرة البعض امام صاحب السلطة غير العادية.
 
قد يبدو لأول وهلة، ان هناك مقاربة لنظام الحكم الدكتاتوري اذا ما سلمنا بضرورة توافر حالة (السلطة غير العادية)؛ وهذا اشتباه واضح، فلا احد يمكنه القول عن نظام الرئيس لي كوان يو او مهاتير محمد انه نظام دكتاتوري، كما انه لا يمكن اغفال ما تتمتع به هذه الادارات من صفات قيادية استثنائية استطاعت فرض رؤاها واقناع الجماهير بتوجهاتها.
 
أعتقد، ان هذه الروافع الاربعة هي الاساس في اي اصلاح مستهدف، بما توفره من بيئة حاضنة للتنمية، اما باقي الخطط والبرامج انما هي تفاصيل يتفق او يختلف بشأنها، ويرجحها القياس العلمي وتجارب الامم الاخرى، والتجربة العملية بالتأكيد.
 
وأجد، ان من العبث فرض او طرح البرامج واوراق العمل والدعوة لتطبيقها، دون وجود البيئة الاساس لأية تنمية ناجحة.
 
هذا وقت السياسيين، لذا اقول، ايها الاقتصاديون … وفروا وقتكم!
 
(*) ماجستير في ادراة الاعمال ورجل اعمال عراقي في ميدان الصناعات الغذائية
 
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 23 نيسان 2016
http://iraqieconomists.net/ar/

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (3)

  1. Avatar
    حامد الجبوري:

    الله ايعزك في الدنيا والآخرة دكتور ,
    كلامك صائب , فاذا كان الاساس متخلخل فالبناء ايضاً متخلخل وبالتالي يصبح ما تحت البناء مهدد بعدم الاستقرار .
    اشكرك على التحفيز وتصحيح الافكار .
    دمت لنا ذخراً .

  2. Avatar
    حامد الجبوري:

    احسنت استاذ , مقال صائب وكلام دقيق يوضح مدى ارتباط الاقتصاد بالسياسة (الاقتصاد السياسي) , وهذه الروافع الاربعة تمثل البيىئة الاستثمارية (المناخ الاستثمار) . وبكل صراحة عندما اقرأ كتاباً اقنصادياً أو خطة اقتصادية او غيرها , آراها غاية في الروعة وأقول ما اجمل نتائجها لو طُبقت ؟ لكن اعجز عن ” اعطاء وصف لعدم التنفيذ و التطبيق” وبالتالي اشعر بالاحباط , واتسأل ما هي فائدة بناء الخبرة الاقتصادية إذا لم يستفاد منها البلد ؟ وهذا ما يقلل من عزيمتي نحو اكمال الدكتوراه , واللجوء إلى اختصاص آخر يمكنني من اكتساب الخبرة وتطبيقها فوراً . لذى فأجد في مقالك هذا سطور تسير معي وتحدثني عن الواقع بكل صراحة وتضع النقاط على الحروف , يا طلاب علم الاقتصاد وفروا وقتكم .

    • مهدي البناي
      مهدي البناي:

      عزيزي استاذ حامد ،
      اشكر لك مرورك الكريم ، ما اردت قوله هو (ضرورة العمل على ايجاد الروافع الاساسية ، او سمها ان شئت بالبيئة الملائمة ، قبل الشروع بتنفيذ البرامج والخطط والسياسات )
      تجربة ثلاث عشرة سنة اثبتت عقم جميع برامج التنمية (حسنة النية) عن بلوغ الاهداف المنشودة (رغم علمية ونجاعة هذه البرامج) ، لا نعاني من فقر البرامج والخطط والموارد، بل نعاني من مناخ متراخٍ سياسيا وامنيا ، ومترهل وفاسد ادارياً.
      هذه المقالة كانت محاولة لتحديد الاولويات ، او محاولة للاجابة على سؤال (من اين نبدأ؟) ، والا فالحاجة تبقى دائمة لخطط وسياسات وبرامج اقتصادية ، وتستمر الحاجة لافكار مبدعة ،،، بانتظار ان يقوم القادة بصياغة البيئة الملائمة البعيدة عن متناول الاقتصاديين.
      محاولات البناء على الاساسات الركيكية ، (بنظري) فساد اخر او مضيعة للجهد والموارد.
      ارجو ان لا تنظر للمقال بعين الاحباط ، (وان كان الواقع محبطا) بل بعيون مهنية للتشخيص ، قد تكون المهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة بالتأكيد.
      أشد على يدك لاكمال الدكتوراه ….. سنظل بحاجة للابداع.
      محبتي

اترك رداً على حامد الجبوري إلغاء الرد

%d مدونون معجبون بهذه: