الخوف من التضخم كان أساس الدعوة الى استقلال البنوك المركزية، لمقاومة التوسع النقدي فوق ما تسمح به الطاقة الانتاجية الكلية، واتخاذ التدابير التي تراها مناسبة للسيطرة عليه، دون تعرضها للضغوط، المتأثرة بأوضاع الأمد القصير. وذلك الى جانب دعم نمو الناتج والتشغيل. ويبقى الاستقلال مشروطا” بالشرعية الديمقراطية. وتستخدم البنوك المركزية أدوات السياسة النقدية المتعارف عليها، لتحقيق الأهداف، ومنها خاصة الاحتياطي القانوني، وسعر الفائدة الأساسي وسعر الخصم، والتحكم بحجم الائتمان الذي تقدمه للحكومة والمؤسسات الأخرى من أجل السيطرة على السيولة.
ويتطلب الاستقلال الاطمئنان التام الى مهنية وكفاءة التشكيلات المتخذة للقرارات، داخل كيان السلطة النقدية، والخلفيات التحليلية لتلك القرارات، وتهيئة متطلبات عمل أنظمة الرقابة والسيطرة الداخلية بكفاءة، بما فيها التوثيق التفصيلي لوقائع اجتماعات مجالس الادارة ولجان السياسة النقدية. وايضا”، تركيب مجلس الادارة ومدى استعداد اعضائه للاستقلال عن الرئيس التنفيذي في مواقفهم تجاه المسائل المطروحة. وفي كل الاحوال العبرة بالممارسة، فقد ينص القانون على اعطاء السلطة لمجلس ادارة مع حماية تامة لاعضائه من التعسف والضغط، وفي الواقع لا يتحمل المجلس مسؤولياته، وتكون القرارات بيد الرئيس التنفيذي، وقد يجاري الاخير قوى ضاغطة. وقد تغيب الرقابة الفعالة، للبرلمان والجهات الاخرى، او تعد التقارير ولا تقرأ، واذا قرئت لا يتخذ اجراء. وهذه يزداد احتمالها كلما تولى البنك مهاما” خارج التعريف الضيق للسياسة النقدية، مثل وضع الضوابط للمصارف والمؤسسات المالية الاخرى والرقابة عليها، او ادارة أنشطة اضافية.
ولاشك ان درجة الاستقلال تتفاوت من بلد لآخر، وقد أعدت أبحاث لإدراج البنوك المركزية في تسلسل حسب رتبة الاستقلال، التي تقدر بتجميع موزون لكافة الابعاد القانونية والادارية وسياق القرارات النقدية. في عام 1997، مثلا”، اعلن استقلال بنك انكلترا عن الخزانة، ولكن بقي هدف التضخم من اختصاصها حتى وقت قريب. وفي نفس العام اجرى اليابان التعديل القانوني الذي منح البنك المركزي استقلالا” في نطاق ادارة العمليات دون اهداف السياسة النقدية. وفي الولايات المتحدة الأميركية كان الاستقلال عام 1978 وتعزز في السنوات اللاحقة. بينما، تحدد أهداف البنك المركزي النرويجي، مثلا”، من الحكومة ويدار بهيئة تنفيذية يعينها مجلس الدولة. وينفذ عملياته طبقا” لدليل السياسة الاقتصادية المعد من السلطات الحكومية، وباستئذانها في المسائل ذات الاهمية الخاصة. وتعد وزارة المالية تقريرا” سنويا” عن اداء البنك في السياسة النقدية يعرض على لجنة البرلمان للشؤون المالية والاقتصادية، وبحضور محافظ البنك. في كوريا الجنوبية يعين الرئيس هيئة السياسة النقدية، وتشترك الحكومة مع البنك في صياغة اهداف السياسة النقدية، حسب التعديل الاخير لقانون البنك والذي جاء بضغط من صندوق النقد الدولي.
ورغم وصف البنك المركزي الالماني، قبل نظام اليورو، بأنه مثال للاستقلال، والبنك الياباني بأنه من الفئة الاقل استقلالا” في الدول المتقدمة، ولكن معدلات التضخم كانت متماثلة في البلدين لمدة طويلة، واستمر معدل التضخم في اليابان منخفضا” فيمــا بعد. علما” ان الاداء التنموي في الثمانينيات كان في اليابان افضل منه في المانيا.
ويتحدث البعض عن البنك المركزي الاوربي بأنه الاكثر استقلالا”، لكنه الزم بدعم السياسات الاقتصادية العامة للمجموعة الاوربية، ولمجلس وزراء المجموعة دور كبير في سياسة سعر الصرف. وقد أيدت دراسات تجريبية الصلة بين الاستقلال وخفض التضخم. ولكن من الناحية المنطقية لا يمثل الاستقلال شرطا” ضروريا” ولا كافيا” للسيطرة على التضخم.
وفي الآونة الاخيرة برز اتجاه يحث البنوك المركزية على استهداف اسعار الاصول المالية، والانتقال، من مفهوم السيطرة على التضخم، الى استقرار أداء النظام المالي والنشاط الاقتصادي الكلي. وأظهرت الأزمة المالية الأخيرة سلوكا” للبنوك المركزية لا ينسجم مع النموذج النظري المتداول للسلطة النقدية. إذ توسعت في الإقراض حجما”، وذهبت الى آماد أبعد، وتجاوزت مجرد شراء حوالات الخزانة الى اقتناء سندات الحكومة، وادوات الديـن الفاشل، وبعيد الأمد، لمؤسسات الاقراض في القطاع الخاص. وذلك لتوفير السيولة المطلوبة في تقسيم واضح للعمل مع الحكومات. ومن المعلوم، لدى البنوك المركزية، ان مسألة الاستقلال تحتاج التمييز بين السياسة النقدية، التي هي محور الاستقلال، ومختلف الانشطة الاخرى التي توكل ادارتها الى بنك مركزي. فالرقابة على المصارف والمؤسسات المالية غير المصرفية، واصدار ضوابط تنظيمية لعمل تلك المؤسسات، واجراءات تفتيش، وتراخيص، لا تنضوي عرفا” تحت مفهوم السياسة النقدية. وفي الولايات المتحدة الاميركية لا ينفرد الاحتياطي الفدرالي في الرقابة على المصارف، والمؤسسات المالية الاخرى. وفي بريطانيا تؤدي الرقابة على المصارف دائرة الخدمات المالية، التي تشرف على الاسواق والمؤسسات المالية كافة، وهي مستقلة عن البنك المركزي، كما في بلدان اخرى، عدا بريطانيا. وتزاول البنوك المركزية، عادة، ادارة المدفوعات لما بين المصارف، والتحويلات الى الخارج، وطبع ونقل وتوزيع العملة، وخدمات الصيرفة المركزية للحكومة في الداخل والخارج، واحيانا” صناديق الاستقرار والثروة السيادية، وهذه ليست مقصودة بمفهوم الاستقلال المرتبط بالسياسة النقدية دون هذه الانشطة.
وقد كلف البنك المركـزي العراقي، إضافة على صلاحياته ودوره الرقابي في القطاع المصرفي، بتنفيذ قانون مكافحة غسل الاموال وتمويل الاجرام، والذي تتعلق أهدافه بالأمن ومكافحـة الفساد المالي، وذات طابع اجرائي يقتضي اتصالات سرية ورقابة من نوع مختلف. وربما يتعذر أداء المهام التي ليست من صلب السياسة النقدية، على الوجه الصحيح، دون إشراف حكومي. وتقتضي المصلحة العليا عدم إرباك تلك المهام في الجدل حول استقلال السياسة النقدية. ومن المعلوم ان القطاع المالي في العراق، المصرفي وغير المصرفي، الحكومي والخاص، ليس على ما يرام، ويحتاج الكثير في الحوكمة وادارة الائتمان، وحل مشكلات صيرفة التجارة الخارجية، واستئناف العمل الاعتيادي للمصارف الحكومية. كما لم يصل تنفيذ قانون مكافحة غسيل الاموال، بعد، الى صورته المرسومة في القانون.
البنك المركزي مؤسسة مستقلة ماليا” في العراق وفي كل مكان، بمعنى ان له ذمة مالية وامكانية ذاتية للوفاء بالالتزمات. وان مفاهيم الاساس النقدي وعرض النقد والاحتياطيات الدولية منبثقة عن الميزانية العمومية للبنك المركزي التي تؤكد استقلاله المالي، الذي يستند الى تقاليد راسخة اضافة الى القانون. ولم تكن النقاشات التي دارت، في الايام الاخيرة، على بينة تامة من هذه الحقيقة.
وان ربط البنك المركزي بمجلس الوزراء، وبغض النظر عن الأسس التي يستند اليها القرار، لا يخول الأخير صلاحيات تسمح له بالتدخل في ميزانيته العمومية او نقل موجوداته، كلا” او جزءا”، الى الموازنة العامة. كما ان الاقتراض من البنك يخضع للقانون وهو، في النهايـة، من صلاحية مجلـس النواب اصدارا” وتعديلا”.
يتطلب استقلال البنوك المركزية، في سياسة السيطرة على التضخم، امتلاكها لأدوات كافية لانجاز هذه المهمة وهي مسألة يحكمها الواقع ولا يكفي التشريع لضمانها.
وعلى فرض ان السيولة هي التي تحدد المستوى العام للاسعار، فالى أي مدى يستطيع البنك التأثير في مستوياتها؟ وفي كل الاحوال من الصعب اثبات ان السيولة تحدد، فعلا”، المستوى العام للاسعار، ومن المشكوك فيه ان اسعار الفائدة ونوافذ الاستثمار في البنك يمكن ان تشكل آلية كافية لتحقيق مطلب التحكم بالتضخم في العراق، لان حجم الاصول المالية ضئيل نسبة الى الاقتصاد الوطني، اذ لا يتجاوز 13 % من الناتج المحلي الاجمالي، بينما يتجـاوز فـي الـدول الناهضة 270 % والمتوسط العالمي حوالي 440 % ، حسب بيانات بداية الأزمة. وهذا لا يعني، بذاته، التشكيك بجدوى الاستقلال. بل لان السيطرة على التضخم ضرورية للاقتصاد الكلي، ولا تجوز مصادرتها بالجدل حـول استقلالية البنك المركزي. ومن المناسب ان تتحمل الحكومة مسؤولية السيطرة على التضخم، باستخدام السياسة الاقتصادية كلها وبجانبي العرض والطلب، ومن خلال الموازنة العامة، وبمساعدة البنك المركــزي.ان تغيرات سعر الفائدة، واستثمارات المصارف في البنك المركزي العراقي، وتحديد سعر الصرف، جرت في سياق التزامات العراق لخفض المديونية وبرامج التعاون مع صندوق النقد الدولي، والاوضاع المعروفة لقطاع المال.ان إقراض الحكومات ممارسة متعارف عليها في الصيرفة المركزية، عبر شراء ادوات الدين الحكومي من السوق الثانوية ويسمح بها القانون العراقي الحالي، والذي يمكن ان ينجز عن طريق الخصم او الاحتفاظ بادوات الدين رهنا” لقروض يقدمها للمؤسسات المالية. وتجيز القوانين لبعض البنوك شراء الدين الحكومي من الاصدار الاولي، وهو ممنوع في قانون البنك المركزي العراقي. ويعتمد سوق الصرف في العراق على العملة الاجنبية من المصدر الحكومي النفطي، والبنك المركزي يتولى بيعها الى القطاع الخاص. وبالتالي فإن البنك المركزي يمثل جانب العرض، بائعا” للعملة الاجنبية، وليس متدخلا” في سوق الصرف. كما يحدد سعر الصرف قيمة ايرادات النفط الحكومية بالعملة الوطنية، ولذلك فإن الاستقلال في سوق الصرف وسعر الصرف يبقى مقيدا” بهذه الخصائص.
ويعتقد ان التشدد النقدي، الذي غالبا” ما يكون من اهم دوافع استقلال البنوك المركزية، كان سببا” لمشاكل وأزمات لا تقل اضرارها عن الاسـراف النقدي.
د .احمد ابريهي علي
* اقتصادي عراقي
وردت فى البحث القيم للدكتور احمد ابريهى العلى فقرة لفتت نظرى يقول(البنك المركزى موسسة مستقلة ماليا فى العراق وفى كل مكان بمعنى ان له ذمة مالية وامكانية ذاتية للوفاء بالالتزامات وان مفاهيم الاساس النقدى وعرض النقد والاحتياطيات الدولية منبثقة عن الميزانية العمومية للبنك المركزى التى توكد استقلاله المالى الذى يستند الى تقاليد راسخة اضافة الى القانون ولم تكن المناقشات الاخيرة على بينة تامة من هذه الحقيقة)
اذا كان المقصود ما ورد فى المادة 2 من قانون البنك المركزى العراقى رقم 64 لسنة 1976ونصها (للينك شخصية معنوية واستقلال مالى وادارى )الذى تم الغائه بموجب قانون البنك المركزى النافذ حاليا فان ذلك النص مثبت فى جميع قوانين الموسسات والهيئات والاتحادات وغرف التجارة —الخ
نعم كان البنك المركزى العراقى مثله مثل بقية الموسسات موسسة مستقلة ماليا واداريا فقط وليست مستقلة فيما عدا ذلك حيث تنص المادة 14 من القانون الملغى على (تكون قرارات المجلس-اى مجلس البنك- نافذة باستثناء القرارات المتعلقة برسم السياسة النقدية والائتمانية التى يجب عرضها على وزير المالية للمصادقة عليها وتعتبر نافذة اذا لم يعترض عليها خلال ستة ايام من تاريخ تسجيلها لدى وزارة المالية وفى حالة اعتراضه على اى قرار منها يعيد المجلس النظر فيه فاذا اصر على رايه يعرض الوزير الخلاف على مجلس الوزراء للبت فيه)
اما بعد 2003 فصرنا نتحدث عن وجود موسسات ومنها البنك المركزى مستقلة استقلالا تاما
فقانون البنك المركزى العاراقى رقم 56 لسنة 2004 ينص (يتمتع البنك المركزى العراقى بالاستقلال ولا يتلقى البنك المركزى اية تعليمات من اى شخص او جهة للتاثير على نحو غير ملائم على اى من اعضاء اية هيئة لصنع القرار تابعة للبنك المركزى العراقى فيما يتعلق بواجباته الوظيفية تجاه البنك ولن يقوم اى شخص او جهة بالتدخل فى نشاط البنك المركزى العراقى)
لم يكن مفهوم الهيئات و الموسسات المستقلة معروفا فى النظام القانونى العراقى قبل عام2003
اود ان اضيف بان قانون البنك المركزى الحالى وللمغالاة فى تثبيت مبدا الاستقلالية نص على (لا يجوز للبنك المركزى العراقى منح انتمانات مباشرة او غير مباشرة للحكومة او اى موسسة عامة او كيان حكومى –)
ما هذه الشدة يا رسول الله؟
اما كان يمكن وضع ضوابط او ضمانات للاقراض الحكومى؟
صحيح فى النظام الدمقراطى تلجا الاحزاب السياسية الى الدعاية بانها قادرة على تلبية جميع مطالب الناخبين وان المال متاح لديها هناك فى خزائن البنك المركزى
نعم حصل بعد الحرب العالمية الاولى فى المانيا التشدد فى منح الائتمانات للحكومة الا مقابل ذهب او دولار امريكى وبذلك استطاع البنك المركزى الالمانى الحد من التضخم الجامح خلال سنوات قليلة ويمكن وضع صيغ مماثلة للحد من تزايد الانفاق الاستهلاكى بمعدلات تزيد عن معدل الزيادة السكانية وزيادة الانفاق الاستثمارى لدفع عجلة الاقتصاد العراقى