الحوَّل الفكري يجعل الانسان يرى بجانب الحقيقة ويتصرف على أساس ذلك، والمفاوض العراقي اليوم، وهو يراجع اتفاقية الإطار الاستراتيجي مع الأمريكان، يبدو أنه لم يقرأ ما كتبه وأنتجه الاقتصاديين العراقيين. وليس هم فقط لا يقرأون، فعلى مدى سنين طوال تعوَّد أغلب السياسيين ونواب البرلمان على تريد عبارة من أربع كلمات (ليس لدينا خطط اقتصادية) أو (ليس لدينا رؤيا اقتصادية). وأنا أسألهم بكل صراحة، كم بحث اقتصادي ومالي وكم دراسة وتقرير تخص الاقتصاد العراقي قرأتم في السنوات العشر الاخيرة؟ لا شيء في الأعم الأغلب. ربما يسمعون بعض السجالات السطحية ويلتقطون بعض المقولات الساذجة والأرقام غير الدقيقة التي يرددونها دون تمحيص.
هل تعلمون أيها السادة أني أحد الاقتصاديين العراقيين، ولست أفضلهم، وفي موقع استشاري لرئيس الوزراء، كنت أول من كتب في الإصلاح الاقتصادي في ٢٠٠٨ وكان منهاج متكامل وشامل، وقد درتُ به على كل متخذي القرار راجيًا متوسلًا الأخذ به، حتى أن أحدهم همش على الجلاد (جهد مبارك يحفظ لديكم!) فلم يقرأه ولم يحتفظ به حتى.
ولولا تشبثي مع الأمم المتحدة وعرضه في ورشة عمل أثارَ إعجابهم لما رأى النور. عموما، تم طبع الكتاب في ٢٠٠٩ على حساب الأمم المتحدة.[1] التقديم المرفق[2] (في نهاية المقال) يوضح حجم الجهد العلمي المبذول حتى اعتبروه مرجعًا للإصلاح الاقتصادي في العراق وذهبوا به إلى مقرهم الرئيس في نيويورك فوافقوا على تخصيص ٣٢ مليون دولار لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في العراق، وأصبح أكثر من ٥٠٠ خبير عراقي وأممي يعملون كخلية نحل لمدة سنتين كان نتاجه الآتي:
- خارطة طريق لإعادة هيكلة الشركات العامة
- خارطة طريق للإصلاح الضريبي
- خارطة طريق لإدارة الأراضي لأغراض الاستثمار
- خارطة طريق لتعديل التشريعات الاقتصادية
- استراتيجية الطاقة المتكاملة
- استراتيجية التصنيع في العراق
- استراتيجية تطوير ودعم القطاع الخاص
- استراتيجية الحوار الاقتصادي الاجتماعي
- مسودة قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص PPP
- مسودة قانون الإصلاح الاقتصادي والمجلس الذي يقوده
- وضع النموذج الاقتصادي الكلي وتدريب كوادر وزارة التخطيط عليه
- دراسة لتقييم الاقتصاد العراقي
- جدوى انضمام العراق إلى منظمة التجارة العالمية WTO
- وضع رؤيا للإصلاح المصرفي في العراق
- استراتيجية الاستثمار في العراق
- دراسة وتحليل أسباب عدم تنفيذ المشاريع الاستثمارية في المحافظات
- وغيرها من المواضيع الفرعية الكثيرة
- الخطط الخمسية التي كانت تصدرها وزارة التخطيط وكنا أعضاء فيها.
- تقرير العهد الدولي
- مئات البحوث والدراسات لمختلف المشاكل الاقتصادية لمتخصصين عراقيين منشورة في عشرات المواقع ومنها شبكة الاقتصاديين العراقيين.
كل هذه الجهود الجبارة وعصارة أفكار المزاوجة بين الخبراء العراقيين وخيرة الخبراء الأجانب من البنك الدولي والأمم المتحدة والوكالة الامريكية للتنمية الدولية والوكالة الألمانية والوكالة السويدية وغيرها أنتجت أكثر من ١٦ استراتيجية وخطة وخارطة، وصادق مجلس الوزراء على معظمها منذ ٢٠١٠ و٢٠١١. وقد كنت أرأس فريقين: فريق الشركات العامة وفريق الإصلاح الضريبي، وكنا ننحت بالصخر لسنين لتنفيذ نتاجنا دون جدوى فقد تصدى لنا طابور مُعَطِّل، له حظوة وأُدخلنا في دهاليز ورقية وروتينية جعلتنا نغرز في وحل عميق.
ففي عام ٢٠١٠ صادق مجلس الوزراء على خارطة طريق هيكلة الشركات العامة المملوكة للدولة بالقرار (314 لسنة 2010). وكان المستشار القانوني في حينها، الذي كان رئيس الوزراء يعتبر رأيه قرآناً منزّلاً لأنه يمارس تكييف القوانين لأغراض شخصية وهو المتزلف الذي كان قد عمل مستشاراً في النظام السابق لحسين كامل ولصدام حسين، توعَّدني بأن لا يسمح للقرار أن ينفذ فوضع عبارة في القرار (بعد مراجعته في اللجنة الاقتصادية). ولاحقه إلى اللجنة التي كان عضواً فيها وتعاون معه في العرقلة رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار الذي لا يفقه شيئاً في الاستثمار فهو عالم في الكيمياء، وكنت أنا كذلك عضواً في تلك اللجنة التي يترأسها نائب رئيس الوزراء وعضوية عدد من الوزراء من مختلف الاختصاصات باستثناء الاقتصاد، فاقنع الوزراء أعضاء اللجنة بسهولة لأن الشركات تابعة لوزاراتهم ولديهم مصالح فيها بأن يتم تعميم الخارطة على الوزارات لمعرفة رأي الشركات العامة وكانت في حينها ١٧٣ شركة. وحيث إن العلة تكمن في الشركات والمدراء العامين المسلطين عليها وبما أنها أصبحت وسيلة للفساد في أجواء الفوضى ووسيلة لمزيد من التعيينات بيد الوزراء لإرضاء أحزابهم، لم تكتمل الإجابات تباعًا إلا بعد سنتين، فقامت اللجنة الاقتصادية بتحويلها مجدداً إلى الفريق الذي أرأسه لأخذ ملاحظات الشركات، أي أرجعتنا اللجنة إلى المربع الأول. وفي الواقع إن الأخذ بملاحظات الشركات تعني أن لا نجري أَي هيكَلَة وأن يبقى الوضع على ما هو عليه.
لقد كانت الشركات في الغالب خاسرة وتدفع رواتب عامليها من الموازنة العامة فأثقلت الموازنة بالعجوزات وتعاظمت أعداد العاملين في الشركات، وذهب مجلس الوزراء لمعالجة الخطأ بخطأ أكبر فقرر تمويل رواتب موظفي الشركات العامة من الاقتراض من مصرفي الرشيد والرافدين وهما أيضًا (شركتان عامتان) ويُفترض أن تعملا وفق معايير تجارية فكيف يمكنهما إقراض شركات لكي تدفع رواتب وليس لها أي عائد يكفل السداد. وغرقت الشركات العامة بالمديونية ونفدت سيولة مصرفي الرشيد والرافدين.
في أول اجتماع مجلس الوزراء لحكومة العبادي جاء المصرفان يعلنان الإفلاس وإيقاف اقراض الشركات فعادت الكرة إلى ملعبي مجدداً وترأست فريقاً ووضعت دراسة في ٣ شهور فقط بعنوان (إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة)، صادق عليها مجلس الوزراء بالقرار (67 لسنة 2015) وحظيت بإشادة من المنظمات الدولية. وقد عرضتها في باريس وحظيت بدعم OECD عام ٢٠١٥ وأشار خبرائها بأنهم لأول مرة يدركون مساراً محدداً وواضحاً لمعالجة وضع الشركات العامة.
وكانت الدراسة تتضمن سقوفاً زمنية للتنفيذ ومهاماً محددة وجهات مسؤولة بعينها. وبقيتُ سنة كاملة أسعى متوسلاً بمكتب رئيس الوزراء لإصدار أمر ديواني بتشكيل فريق ينفّذ الدراسة وعندما وصلت لهدفي تمَّ نزع رئاسة الفريق مني وتكليف وزير الصناعة آنذاك بالمهمة وكنت عضواً في الفريق. وبعد اجتماع واحد وجدوا عندي إصراراً على التنفيذ فتم استبعادي من الفريق ووضع موظف بسيط مكاني لا يفقه شيئاً عن الموضوع برمته، فانحرف الاتجاه الإصلاحي، وقاموا بدمج الشركات فقط ليقللوا عددها فهو دمج وليس اندماج وفرَّ عدد من المدراء العامين فقط وهو غير موجود في الدراسة أصلاً.
ازدادت مشاكل الشركات وتحوَّل الإصلاح إلى تخريب، فاضطروا إلى تحويل رواتب الشركات من تمويل ذاتي إلى تمويل مركزي من الموازنة بحيث بلغت رواتب موظفيها أكثر من ٣٠ ترليون دينار حتى عام 2018 وصارت الشركات لا تحتسب الرواتب ضمن كلفها وكأنما هي منزَّلة من السماء فكفروا بكل المعايير الاقتصادية، وضاع الوقت وصارت مهمة إعادة الهيكلة أصعب، واتسعت فجوة التنفيذ، وصار الاقتصاد العراقي يأكل لحمه بأضراسه المتسوسة. والمضحك المبكي عندما جاءت حكومة السيد عادل عبد المهدي استنجد بعض الوزراء طالبين فك الدمج بين الشركات ولم أفعل شيئاً سوى تأكيد مذكراتي قبل أربع سنوات التي كنت أعارض فيها الدمج وأبين مساوئه. وهكذا عدنا ندور في حلقات ورقية وإدارية مغلقة تسحبنا، كلما مضت سنة، نحو الأسفل.
نعم نحو الأسفل، وهذا مثال واحد تشبهه كل القصص الأخرى، نحو الأسفل بخطى ثابتة، فصار اقتصادنا أكثر هشاشة. فعندما غزتنا كورونا، لم يكن لدينا أرصدة أو صناديق سيادية ولم يحصل تنويع الاقتصاد ليعوض غياب أو تراجع الإيرادات النفطية بحيث نستطيع حجر الناس في البيوت وتوزيع مساعدات تشبع احتياجاتهم لإبقائهم في المنزل بكرامة، ولم نستثمر تلك الإيرادات في إحداث تنمية حقيقة كبناء وتشغيل مستشفيات تستوعب المصابين لمواجهة الجائحة.
ويأتي المفاوض اليوم ليعزف على نفس الموّال الذي أصبح فجا ومجا وهو (نريد استشارة وتنقصنا الرؤيا) فيوسعون مساحة الاستشارة ولا يستطيعون تضييق فجوة التنفيذ لأنها متلازمة مع الفشل الإداري وضعف القرار وضعف تطبيق القانون والانشغال بالإرضاءات الوقتية وإجراءات الأمد القصير الترقيعية لأغراض سياسية وانتخابية ويتهربون من العمل الاستراتيجي. ولذلك تراكمت لدينا الاستراتيجيات والخطط دون تنفيذ، وعندما أصبحوا في الأمد الطويل بعد ١٧ سنة من النظام الجديد وصلنا إلى القاع وانكشفت عورات النظام السياسي وعورات الأداء ولم تعد الاجراءات الوقتية ناجعة أو حتى مهدئة للألم، واتسعت فجوة عدم الثقة بأي إجراء حكومي من قبل الجمهور وصار الجمهور يتصرف معه بالمعكوس حتى مع الفايروس يتعامل معه كما لو أنه كذبة حكومية.
امام هذه الصورة لم تعد تنفع مع الاقتصاد العراقي إلا عمليات جراحية كبرى لأن متخذي القرار على مدى ما يقارب العقدين من الزمن يمزقون وصفة المختصين بالاقتصاد والمال ويأخذون بأفكار مختطفة تأتي من غير المختصين التي تعزز مصالحهم الشخصية، يتعاملون مع الاقتصاد الكلي بسلوكيات ومتغيرات الاقتصاد الجزئي لأن التفكير بتعظيم العائد الشخصي يكون مقتلة للاقتصاد الكلي وهو سلوك لا يُمارس إلا في العراق الجريح، ويعملون على أن تمارس الحكومة، وهي المسؤولة عن السياسات الاقتصادية الكلية، سياسة جزئية، ضاربين بعرض الحائط مصالح البلد في ظل صمت وسُبات جمعية الاقتصاديين العراقيين التي استولت عليها أحزاب السلطة وسلبتها إرادتها فلا تعترض حتى على استيلاء غير المختصين على المؤسسات المالية والاقتصادية في البلد وانتحال صفة الوظيفة جاعلين من الاقتصاد هواية لمن لا وظيفة له. ففي الوقت الذي يسبب مُنتحل صفة طبيب لمخاطر ووفيات للأفراد بشكل مباشر فإن منتحل صفة الاقتصادي يتسبب بموت أمة بشكل غير مباشر يظهر أثره المتراكم مع الزمن. وها نحن نحصد ما تسبب به السياسيون، فقد فشلوا وأغرقوا معهم كل المركب.
(*) مستشار رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة إلى المصدر. 16 حزيران / يونيو 2020
[1] راجع عرض سريع لكتابي الإصلاح الاقتصادي في العراق: تنظير لجدوى الانتقال نحو اقتصاد السوق (بغداد: مركز العراق للدراسات، 2008) في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
د. عبد الحسين العنبكي: عرض كتاب الاصلاح الاقتصادي في العراق – تنظير لجدوى الانتقال الى اقتصاد السوق
[2] التقديم من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي-العراق.
أ .د. عبدالحسين العنبكي*: طلب مستشارين اقتصاديين من الأمريكان .. أزمة تنفيذ أم أزمة مشورة…
لدى اطلاعي على مقالكم المحترم وجدت الحقيقية الغائبة لدى بعض المتخصصين والخبراء وشهادات تأريخية توثق واقع الاستجابة للحكومات التنفيذية العراقية ومدى استجابتها لاراء واستشارات السادة المستشارين ، ضوء في الطريق الصحيح … وخصوصاً في المقطع الاخير امام هذه الصورة لم تعد تنفع مع الاقتصاد العراقي إلا عمليات جراحية كبرى لأن متخذي القرار على مدى ما يقارب العقدين من الزمن يمزقون وصفة المختصين بالاقتصاد والمال ويأخذون بأفكار مختطفة تأتي من غير المختصين التي تعزز مصالحهم الشخصية، يتعاملون مع الاقتصاد الكلي بسلوكيات ومتغيرات الاقتصاد الجزئي لأن التفكير بتعظيم العائد الشخصي يكون مقتلة للاقتصاد الكلي وهو سلوك لا يُمارس إلا في العراق الجريح، ويعملون على أن تمارس الحكومة، وهي المسؤولة عن السياسات الاقتصادية الكلية، سياسة جزئية، ضاربين بعرض الحائط مصالح البلد….
دمتم مشرقين ومسددين