تقديم وترجمة حامد فضل الله \ برلين
فالولايات المتحدة الأمريكية لا تريد، حتى في أزمة كوفيد ــ 19، تعزيز المؤسسات الدولية، لذلك يجب على أوروبا أن تتصرف بحزم، طالما أن الصين تسير بنفس اتجاه المصالح
القليل من ما هو موكد في الحياة، ولكن يمكننا أن نفترض بأن السياسة العالمية سوف تتشكل في العشر أو العشرين سنة القادمة من خلال المنافسة الهائلة التي اندلعت بين الولايات المتحدة والصين. وكما وثقتُ في كتابي، “هل فازت الصين؟” تقود قوى هيكلية قوية قرار الولايات المتحدة ببدء المواجهة: خوف مستمر من فقدان التفوق العالمي الذي استمر لمدة قرن أو أكثر. خيبة أمل من الدمقرطة الفاشلة في الصين (على الرغم من أن مؤرخي المستقبل، قد يندهشون من أن جمهورية شابة، لا تتعدى حتى 250 عامًا، تتوقع من حضارة عمرها 4000 عام، تلبية معاييرها السياسية)؛ وأخيرًا، خوف عميق من “الخطر الأصفر”، متراكم بشكل غير مكتمل في النفس الغربية.
لقد أكد وباء كورونا فقط، مدى مرارة المنافسة الجيوسياسية. أن كوفيد ــ 19 هو خطر عام يجب أن تواجهه كل من الولايات المتحدة الامريكية والصين؛ من الناحية النظرية، سوف يكون القرار منطقيا، بل حكيما، من قبل الدولتين لترك خلافاتهما لحين، والضغط على الزر لإيقاف المنافسة الجيوسياسية والعمل معا لمحاربة كوفيد ــ 19، ولكن حدث العكس تماما، اذ تبعه اللوم الضخم، استجابة لحكومة ترامب غير الكفؤة لمحاربة الفيروس، واصبح واضحا، بأن البيت الأبيض كان يبحث عن كبش فداء.
لقد أكد كوفيد ــ 19 عدم حصر المنافسة الجيوسياسية بين أمريكا والصين فقط. تمثل هذه المنافسة لأوروبا معضلة استراتيجية كبيرة: هل يجب مواصلة الاستراتيجية السابقة وتأكيد التحالف عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة – حتى لو كان ذلك يعني الخضوع للمصالح الجيوسياسية الأمريكية؟ أم يجب عليها اغتنام الفرصة لتعزيز مصالحها الجيوسياسية وتطوير دور استراتيجي لأوروبا كقطب جديد ومستقل في عالم متعدد الأقطاب؟
معاً في إفريقيا
لو يريد الأوروبيون إعطاء الأولوية لمهامهم الوجودية الخاصة بهم، من خلال التحديات التي تفرضها الهجرة بناءً على جغرافيتهم، وكوفيد ــ 19، يجب عليهم التركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا. وأفضل شريكٍ لتنمية أفريقيا هو الصين.
يؤدي وباء مثل كوفيد ــ 19 إلى أزمة إنسانية واسعة النطاق في إفريقيا، واذا قاد إلى تفاقم الفقر في البلدان الأفريقية، فمن المحتمل أن يلتمس المزيد من المهاجرين الحماية في أوروبا، لذلك، من المهم أن تعمل أوروبا مع البلدان الأفريقية لمنع القارة من أن تصبح النقطة الساخنة التالية للوباء.
لقد أظهرت جائحة كورونا بالفعل، قوة العلاقات الصينية الأفريقية (الصين أكبر شريك اقتصادي لأفريقيا). لقد ارسلت الصين معدات طبية وخبراء يعملون تقريبا في كل بلد أفريقي.
وأعلن وزير الخارجية الصيني وانغ يي، بان الصين وأفريقيا يجب أن يكونا “أخوة جيدين، مع مصير مشترك”، والعمل سوياً من أجل مكافحة فيروس كورونا.
إذا أرادت أوروبا حماية مصالحها، فعليها أن تكون من أولويتها الفورية، تنمية إفريقيا مع الصين. وإن أكثر ما يمكن أن يفعله القادة الأوروبيون بصواب وحكمة، هو حضور القمة الصينية الإفريقية القادمة في بكين. إن المشاركة الكبيرة للسياسيين الأوروبيين في مثل هذه القمة سترسل إشارة قوية إلى الأسواق. ويمكن أن تؤدي أيضًا إلى موجة قوية من الاستثمارات الجديدة في إفريقيا. أن تعزيز الاقتصاد الأفريقي، مع مرور الوقت، سوف يقلل من حوافز الهجرة إلى أوروبا.
هناك عقبة واحدة أمام أوروبا، تقف في اتخاذ هذه الخطوة المعقولة والمنطقية: هو رفضها من قبل الولايات المتحدة الامريكية. على المرء أن ينظر فقط، في محاولات المسؤولين الحكوميين الأمريكيين لثني دول أخرى عن المشاركة في طريق الحرير الجديد. لقد حذر وزير الخارجية الامريكي مايك بومبيو في مؤتمر صحفي بعد اجتماعه مع الرئيس خوان كارلوس فاريلا في أكتوبر 2018 في بنما، بقوله: “عندما تطرق الصين الباب، فإن ذلك ليس في صالح مواطنيك دائماً”.
وسوف تعلن الولايات المتحدة اعتراضها، “إذا كانت الشركات المملوكة للدولة تعمل بطريقة غير شفافة، ولا يحركها السوق، ولا تهدف إلى إفادة مواطني بنما، وإنما فقط من أجل الحكومة الصينية”. إذا قرر الأوروبيون العمل مع الصين، من أجل الاستثمار في إفريقيا، فمن المرجح أن يزداد الضغط الأمريكي بشكل ملحوظ.
من غير الحكمة حقاً أن تحث أمريكا، الأوروبيين على عدم التعامل مع الصين وأن يتجاهلوا في نفس الوقت تحدياتهم الحياتية الى أمد طويل. إن صعود الصين لا يشكل تهديدًا لأوروبا. وإنما يمكن أن يخدم استقرارها على المدى الطويل، إذا دعمت الصين التنمية الأفريقية. بالطبع يمكن للولايات المتحدة أن تحاول مواءمة التنمية الصينية في إفريقيا. لكن كمية الأموال التي تقدمها أمريكا محدودة بشكل مدهش. وعلى النقيض من ذلك، عرضت بكين، في إطار مبادرة طريق الحرير الجديد، أكثر من تريليون دولار، لدعم الاستثمارات في البنية التحتية. لا تستطيع واشنطن مواكبة مثل هذه المبالغ الضخمة.
نقد متردد جداً لأمريكا
إن اتخاذ موقف مستقل عن الولايات المتحدة، لن يكون سهلاً على مقرري السياسة والمفكرين الاستراتيجيين الأوروبيين. لقد قامت أوروبا بذلك بالفعل بين الحين والآخر. على سبيل المثال، عندما الغت إدارة ترامب الاتفاق النووي مع إيران؛ حيث واصلت كل من ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة ممارسة التجارة مع أيران. لقد كانت خطوة شجاعة، ولكنها قامت في الوقت نفسه بتأسيس شركة ISTEX غير الفعالة.
وكذلك لم يكن لدى أي حكومة أوروبية الشجاعة، للإشارة علناً، بأن عدم تنفيذ الاتفاق النووي مع أيران، هو انتهاك من جانب حكومة الولايات المتحدة الامريكية للقانون الدولي. لقد أقر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الاتفاق في القرار 2231 في 20 يوليو 2015. إن انتهاك قرار مجلس الأمن هو انتهاك واضح للقانون الدولي.
أدانت محكمة العدل الدولية إعادة فرض أمريكا للعقوبات ضد إيران في 2018، مشيرة إلى أن “الإجراءات التي تنفذها الولايات المتحدة تنطوي على خطر على أمن الطيران المدني في إيران وحياة المسافرين جواً، [و] القيود المفروضة على استيراد واقتناء السلع اللازمة للأغراض الإنسانية، مثل الأغذية والأدوية، بما في ذلك الأدوية المنقذة للحياة. وقد يكون لها آثار ضارة خطيرة على صحة وحياة الأفراد في الأراضي الإيرانية”. تجاهلت الولايات المتحدة هذا الحكم، ومع ذلك، لم يُشر أي سياسي أوروبي بارز للانتهاك، على هذا النحو، للقانون الدولي.
هذا التردد الأوروبي للعمل ضد استمرار الجهود الأمريكية لإضعاف أو تقليص المؤسسات العالمية الدولية لا يزال عميقا. لقد شاهدت هذا بنفسي، عندما كنت سفير سنغافورة لدى الأمم المتحدة لأكثر من عشر سنوات. لقد دعمت أوروبا للأسف، المحاولات الأمريكية لإضعاف المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، على الرغم من أن كوفيد ــ 19، أثبت حالياً وبشدة، بأن قريتنا الكونية في امس الحاجة الى منظمة صحية عالمية قوية. كيف تم إضعافها؟ لقد خفضت الولايات المتحدة وأوروبا حصتها من الميزانية الملزمة لميزانية منظمة الصحة العالمية من 62 في المائة في عام 1970 \71
الى الحصة الحالية، التي تقل عن 18 في المائة، وقد أدى ذلك إلى شل قدرة منظمة الصحة العالمية على اجتذاب خبرة علمية طويلة الأجل. عندما هاجمت إدارة ترامب ظلما، منظمة الصحة العالمية لمكافحة وباء الكورونا، كانت أوروبا بطيئة ومترددة في الدفاع عنها. ومن المفارقات، بأن أوروبا تقوض مصالحها، بل أيضا مصالح أمريكا على المدى الطويل، من خلال عدم الدفاع عن المؤسسات العالمية الدولية. لقد أكد كوفيد ،19 واقعاً عالمياً جديداً، يجب أن نتعايش معه. فنحن جميعاً نجلس في نفس القارب.
الحفاظ على التعددية
يدرك العديد من كبار السياسيين الأوروبيين، مثل أنجيلا ميركل وإيمانويل ماكرون أهمية المؤسسات العالمية الدولية وقد تحدثوا عنها بوضوح. يقول الرئيس ماكرون، “نحن بحاجة إلى التعددية أكثر من أي وقت مضى. ليس، لأنها كلمة ملائمة. لا، بل لأن التعددية تعني سيادة القانون. إنها تعني التبادل بين الشعوب، وهى تمثل المساواة بيننا جميعًا. إنها تتيح لنا تحقيق السلام ومعالجة جميع التحديات، التي نواجها”.
بعد أن بدأت السياسة العالمية تتخذ الآن وتيرة متسارعة، سوف تكتشف أوروبا أن عالم ما بعد الجائحة قد تغير بصورة دِرامِية ومثيرة ويمكن لأوروبا حماية مصالحها على المدى الطويل، فقط – وكذلك المصالح الصينية والأمريكية أيضاً – إذا كانت من أكثر الداعمين، قولاً وفعلاً، للقواعد والمؤسسات الدولية. لا تزال لحسن الحظ، الفرصة متوفرة، لأن الصين لا تزال ملتزمة بتعزيز القضايا والمؤسسات الدولية، كما أوضح الرئيس شي جين بينغ في خطابه في دافوس وجنيف في يناير 2017: “[يجب] أن نتبع نهجًا منسقًا جيدًا ومتشابكًا من أجل تطوير نموذج للتعاون المفتوح من أجل المنفعة المتبادلة. “. للدول مصالح متقاربة إلى حد كبير وهي مرتبطة مع بعضها البعض. جميع الدول لها الحق في التنمية. وأضاف، يجب على كل الدول أن تنظر إلى مصالحها الخاصة في سياق أوسع والامتناع عن متابعتها على حساب الآخرين”.
وبعبارة صريحة، إن فرصة تعزيز المؤسسات الدولية، لن يستمر طويلا، الا اذا التزمت الصين لتحقيق هذا الهدف أيضاً. لقد أظهرت جائحة كورونا، بأن المؤسسات الدولية بحاجة الى التعزيز، حتى تتمكن الدول من العمل معاً للقضاء على فيروس لا يعرف حدوداً. أن اكبر مشكلة، هي التعنت الأمريكي.
ولكن هذا التعنت ناتج أيضًا عن فشل حلفاء أمريكا، مثل الاتحاد الأوروبي في إقناع الولايات المتحدة سياسيًا بأن العالم ــ بما في ذلك أمريكا نفسها ــ يعمل بشكل أفضل وأقوى مع نظام متعدد الجنسية. أدلى سفير الاتحاد الأوروبي في بكين ببيان مفاده، أن كلا من الصين والاتحاد الأوروبي “يريان المزايا الجوهرية للتعددية والحفاظ والدفاع عنها مع الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية “. يجب على سفير الاتحاد الأوروبي في واشنطن أن يعمل الآن بجدية على بيان مماثل، بأن على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ” أن يحافظا على التعددية في جوهرها وأن يدافعا عنها مع الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية”.
إذا تمكنت أوروبا من تحقيق ذلك، فستكون النتيجة النهائية هي، عالم أكثر أمناً وثقة واستقراراً – لصالح الناس في أوروبا وحول العالم. “النجاح حليف الشجعان”. لقد حان الوقت لأوروبا لإظهار قوة قيادتها.
(*) كيشورا محبوباني، أكاديمي ودبلوماسي سابق من سنغافورة
(**) عنوان ومصدر المقال المترجم من الالمانية :
Kishore Mahbubani, Europas geopolitische Chance, internationale Politik, Juli/August 2020 Nr.4 . 75. Jahr
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعادة النشر بشرط الاشارة الى الصدر. 10 تموز/يوليو 2020
لتحميل المقال كملف بي دي أف انقر على الرابط التالي
فرصة أوروبا الجيوسياسية- كيشوار محبوباني
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية