١- تمهيد
أ- انتهت البلاد رسمياً في مطلع العام 2024 من إيقاف التعاطي بالعملات الأجنبية داخل معاملات الاقتصاد الوطني باستثناء العملة الوطنية، وذلك بعد أربعة عقود ونيف من تطبيق نظام الازدواج النقدي dual currency على مستوى المدفوعات والتسويات الداخلية أو على مستوى الإيداع المصرفي وهو ما يعرف أيضاً بالـ dual currency deposit (DCD). وهي انظمة مصرفية أخذت تتعاطى بالتدريج، قانوناً، بالوديعة المزدوجة العملة (DCD) وهي أداة مالية مصممة لمساعدة المودع على الاستفادة من الاختلافات النسبية في العملتين الدينار والدولار. إذ كان يسمح لزبائن المصارف المحلية بإجراء إيداع بعملة واحدة وسحب الأموال بعملة مختلفة إذا كان من المفيد القيام بذلك.
وتُعرف هذه المنتجات أيضًا بمنتجات أو خدمات العملة المزدوجة.
وبهذا بدأت الدولرة dollarisation بالانحسار رسميا وقانونيا في المدفوعات النقدية والإيداع والاستثمار داخل الاقتصاد الوطني بقرار وتنسيق مشترك بين الحكومة والبنك المركزي العراقي الذي دخل حيز التنفيذ منذ بداية العام 2024.
ب- ان نظام العملة المزدوجة” أو “الدولرة الجزئية partial dollarisation” هي من المصطلحات التي تستخدم عادة لوصف استخدام عملة أخرى غير العملة المحلية (في هذه الحالة، الدولار الأمريكي). وقد انتقلت البلاد تدريجياً منذ ثمانينيات القرن الماضي، كما سنلاحظ ذلك لاحقاً، إلى “الدولرة الفعلية” ولاسيما عندما تم استخدام العملة الأجنبية كوسيلة للدفع (الشراء) ووحدة حساب (تحديد الأسعار)، في حين تشير “الدولرة المالية financial dollarisation” إلى استخدام العملة كاحتياطي للقيمة وهو (الادخار).
ج- فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، وحتى وقت قريب، أمست الدولرة هي المصطلح الذي أباح استخدام الدولار الأمريكي بالإضافة إلى العملة الوطنية في تسوية المعاملات الداخلية والإيداع المصرفي والاستثمار المحلي، وتحديدا منذ أن فقدت عملة البلاد قوتها الشرائية وبشكل تدريجي كوسيلة للتبادل، بسبب التضخم المفرط في عقد التسعينيات أو عدم الاستقرار الاقتصادي جراء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، فضلاً عن مخلفات الاحتلال بعد العام 2003.
إن تاريخ التبني التدريجي للعملة البديلة أو الدولرة الجزئية partial dollarisation ثم الدولرة الفعلية لم يكن (خطيا) ولا يمكن التراجع عنه بسهولة. كما أن الطلب على الدولار من أجل الادخار الذي يسمى بـ(الدولرة المالية) ظل يشكل ضغطاً على سعر الصرف في تاريخ العراق النقدي.
وفي سياق التضخم، أدى هذا إلى انتقال أكبر لتخفيضات قيمة العملة إلى الأسعار نفسها. وفي المقابل، فإن تشجيع التقلبات على الادخار والاستثمار في الدولار، أسهم في تعثر تطور سوق رأس المال بالعملة المحلية. وأدى إلى استثمار أقل في السندات المحلية وأسهم الشركات العراقية، مما أدى إلى انخفاض القدرة التمويلية من المصادر الداخلية لكل من الدولة والشركات. وأثَّر ذلك أيضًا على النمو الاقتصادي والصادرات عموماً بسبب تأثيراته السالبة على مرونة تنويع الاقتصاد الوطني. إذ عادة ما يتسبب انخفاض عرض الدولار إلى مزيد من الضغط على سعر الصرف ولا يستفيد الاقتصاد إلا بالتمويل الواسع لتجارة القطاع الخاص الخارجية، التي مصدرها احتياطيات البلاد من العملة الأجنبية وأساسها الصادرات النفطية وعوائد الريع النفطي. وما لم يتم عكس اتجاهات النظرية النقدية، كما سنرى، فإن طفرة الصادرات النفطية لوحدها لن تكون كافية لحل هذه القضايا الاقتصادية المتداخلة.
لذا فإن الخيار البديل للسياسة النقدية وعموم السياسة الاقتصادية للعراق هي اليوم لا مناص من اتباع النهج المعاكس والتخلي عن الازدواج النقدي والرهان على تعزيز قيمة الدينار العراقي. فالتوجه البديل (إلى جانب التدابير الحكومية الأخرى الرامية إلى تحقيق الاستقرار الشامل للاقتصاد) لها جميعاً أنْ توفر مرونة أكبر في تنفيذ السياسات الاقتصادية اللازمة في تعزيز فرص الاستقرار والتنمية.
لمواصلة القراءة انقر على الرابط التالي
د مظهر محمد صالح-اشكالية الازدواجية النقدية في العراق-محررة_
الدكتور مظهر محمد صالح المحترم،
أود أن أعبر عن تقديري الكبير لمقالكم الرائع الذي يعكس دائماً مستوى عالٍ من الاحترافية والأهمية. تحليلاتكم الاقتصادية تمثل إضافة قيمة لفهم الوضع الاقتصادي في العراق.
كما أود أن أشير إلى أن هناك جوانب أخرى قد لا تغطيها النظريات الاقتصادية بشكل كامل عند تطبيقها على واقع العراق الحالي. من أهم هذه الجوانب هو ثقة الشعب في المبادرات الحكومية، خاصةً فيما يتعلق بمكافحة ظواهر اقتصادية موضوع المقالة الحالي . حيث هناك الكثير من الأمثلة في الدول الاخرى تظهر كيف لقلة الثقة في السياسات الحكومية يمكن أن تؤدي إلى نتائج سلبية، مما يؤكد على أهمية بناء هذه الثقة والحفاظ عليها خاصة مع ازدياد عامل التوقعات العقلانية لدى الافراد.
مع خالص الاحترام والتقدير،