يتسائل المرء، أول ما يتسائل، لماذا يحصل صراع بين فئات المجتمع، أي مجتمع، بغض النظر عن مرحلة تطوره؟ والسؤال الثاني، هل هو صراع إقتصادي في طبيعته الأساسية، أم أثني او عرقي، أم سياسي أو طائفي أوثقافي؟ وحين يعني الصراع الإجتماعي نزاعا بين فئات المجتمع، بغض النظر عن مرحلته التطورية التي لها تأثير على حدة الصراع، وليس على طبيعته الإجتماعية، كصراع أو نزاع، فهل سيكون، بالضرورة، صراعا طبقيا، أي بين عمال وكادحين ومن يقاربهم ممن لا يملكون وسائل الإنتاج ضد الرأسماليين المالكين لرأس المال ووسائل الإنتاج؟ أم سيكون صراع سببته التناقضات الدينية والمذهبية والعرقية والثقافية؟ هذه أسئلة جوهرية، أجاب عليها المفكرون الرواد من منطلقات فلسفية تأريخية مختلفة، ولكنهم لم يحسموها، علميا، بشكل قاطع ونهائي، على الرغم من أنها إستندت الى التحليلية التأريخية، كما فعل كارل ماركس الذي طوّرها الى نظرية متكاملة لمسار التحوّلات المراحلية للصراع على فائض القيمة، وما ستفرزه هذه التحّولات، حتميا، من خلال الجبرية الإقتصادية، من هزيمة للرأسمالية والرأسماليين والبرجوازيين المتحالفين معهم، بإنتصار البرليتاريا، ومن ثم الإنطلاق نحو الشيوعية. إلا أن روبرت سبنسر إستخدم المدخل البايولوجي الموازي لنظرية داروين المتعلقة بالإنتقاء الطبيعي للأجناس، حيث ان التطور التأريخي للمجتمعات يضاهي التطور البايولوجي للأجناس، دافعا إياها دوما الى الإرتقاء الى أنماط أكثر رقيا و تقدما، بعد إزاحة الأنماط المتخلفة، عبر مسار تأريخي تطوري، وقد سميت طروحات داروين هذه بنظرية التطور الإجتماعي لمضاهاته بالتطور البايولوجي، وان الحرية الكاملة، وأهمها الحرية الإقتصادية، اي اللبرالية الرأسمالية، ستشكل نمطا أكثر رقيا من مجتمعات العبودية والإقطاع، وهذا ما يضاهي تطور الأجناس، كتطور إرتقائي عند داروين. أما ماكس وبر، الألماني، فإعتمد مدخل ” الوظيفية” التي عبّر عنها بالتضامنات الإجتماعية التي تضارع المدخل الوظيفي، حيث قسّمها الى وظائفية ميكانيكة، أي تضامنات تفرضها مرحلة ونمط العيش، وهذه تتجلى في المجتمعات البدائية التي تعيش على القنص والصيد، فتعمل كجماعات متضامنة. أما الوظيفية الأرقى، فقد سمّاها بالتضامنات العضوية التكاملية لوظائف قئات المجتمع المختلفة، وهذه تتحقق من خلال ما سمّاه بالتداخل الإجتماعي؛ وخلاصة الأمر ان المجتمعات الأرقى، حيث تقسيم العمل والتبادل والتفاعل، تتوّلد تضامنات إجتماعية، بسبب الحاجات الملّحة للعيش المشترك، إذ لايستطيع فرد أو فئة تحقيق إكتفاء ذاتي، خصوصا، حينما تكون هناك موارد لا يمكن إستغلالها إلا من خلال هذه التضامنات الإجتماعية التي لا يمكن الإستغناء عنها. فمثلا، لو أرادت فئة عرقية أن تنفصل بنفسها، عندذاك امامها خيارين، أما أن تسيطر وتقمع بقية الفئات، لتبقى مستفيدة من الموارد الشائعة للجميع، أو تنفصل وتغلق حدودها، فتحرم نفسها من الموارد والممكنات الأوسع المتاحة لها لو بقيت ضمن مجتمع متعدد الأعراق. وهذا نموذج ينطبق على الإنقسامات التي تشعلها الإختلافات الأثنية والدينية والمذهبية أيضا. نعتقد بأن هذا النموذج، من الناحيتين السياسية والإقتصادية، يمكن تطويره لتحليل الصراعات الدينية والعرقية في العراق، لأنها تخفي صراعا أكثر عمقا، وهو الصراع على الموارد، أي بما ترجمته؛ صراع المصالح، وهو المفهوم الأقرب للصراع الطبقي، من حيث الأساس، لأنه سيترجم بالنهاية الى صراع طبقي أو فئوي ضمن المجتمع. وأخيرا، نشير الى نموذج شارلز كولي، وهو نموذج نفساني، فردي وإجتماعي، حيث يتوّلد الإنقسام، وبالتالي الصراع، من خلال نظرة المجتمع، أو الآخرون، وقد تكون نظرة دونية، الى الأنا الخاصة بفرد معين، فتنسحب على الفئة الإجتماعية التي ينتمي إليها، معززة بإقتناع ذلك الفرد المنظور إليه دونيا، بأنه، ومن ثم فئته التي ينتسب إليها، لا يستطيع تغيير نظرة الآخرين إليه و/أو الى الفئة التي ينتسب إليها، فهو يصدقها ويقتنع بها، وهكذا يتعزز الإنقسام وما سيجّره ذلك من صراعات وضياع للموارد التي يمكن أن ينتفع بها جميع الأفراد والفئات.
هذه خلاصة نظرية نقدمها، ولكن يمكن نقد جميع مدارسها في ضؤ الظروف الخاصة بكل مجتمع ودرجة رقيه الثقافي وحسّه الإجتماعي، ومقدار ترسّب مفهوم الإنتماء لهذا المجتمع لدى الجميع. ولكن، الصراع الطبقي، بغض النظر عن دوافعه، سواء كان ثورة البروليتاريا، كما تكهن ماركس، او عرقيا أو دينيا ومذهبيا، فهو صراع مصالح .ولعل التنظير الماركسي برمته ينطلق من مفهوم تناقض المصالح، ومن ثم توفيقها، بعد حصول ونجاح ثورة المستلبين من الشغيلة، أو عبر إقامة نظام إجتماعي عادل، لا يسرق القيمة الإنتاجية المضافة التي حققها العاملون أو الشغيلة أو الفئات المتوسطة التي لاتملك وسائل الإنتاج. وهذا يعني بان صراع المصالح يمكن أن يُترجم الى صراع طبقي بين من يملكون و بين من لا يملكون، أو قد يتخفى بصراعات أثنية او دينية أو مذهبية، تستهدف، في الحقيقة، مصالحها، تحت رداء الأثنية والدين أو المذهب.
بيد ان مفهوم الصراع الطبقي في العراق، في هذه المرحلة من تطوره، لا يمكن وصفه بصراع طبقي بين البروليتاريا والرأسماليين، وذلك لأسباب موضوعية عديدة، منها ان الطبقة العاملة في العراق صغيرة ولا تشكل ثقلا سياسيا وإجتماعيا مهما، ومنها، ان هناك خصوصية للإقتصاد العراقي، كونه إقتصاد ريعي، حيث تتحول فيه جميع طبقات المجتمع، ما عدا المحابون للحكومة وأصحاب رؤوس الأموال المرتبطين بها، وإن قل عددهم في العراق، تتحول الى ما يشبه الأقنان لدى الحكومة التي تهيمن على موارد النفط، بإعتباره المورد الأساسي لحياة المجتمع أو الناس، والمصدر الوحيد، في هذه المرحلة، لتنمية بقية النشاطات او القطاعات الإنتاجية والخدمية غير النفطية. بكلمة أخرى، في الدولة الريعية تتحول الحكومة الى مستبد وطاغي ومتحكم بمصادر عيش الناس، فالحكومة هي التي توظّف وهي التي تطرد وهي التي تسيطر على وسائل الإعلام، وهي التي تعيّن وتمنح وتمنع، وبالتالي، هنا نحن أمام حالة يمكن وصفها بصراع بين الحكومة وشلّتها الأوتوقراطية و البيروقراطية المنتفعة، وبقية المستفيدين المحابين لها، من حهة، مقابل بقية فئات الشعب، اي الشغيلة والبرجوازية الصغيرة، وسكان الريف والمدن، من حهة أخرى. فهنا، تغيّرت طبيعة الصراع من طبقي الى صراع بين مجموع فئات الشعب المستلبة ضد حكومة تملك مواردهم وتضطهدهم، ولديها الإمكانيات لشراء الناس، ولاسيما المثقفين الإنتفاعيين المتخاذلين، ولتزييف الإنتخابات أو كسبها عن طريق تغييب الوعي العام، وتوظيف النوازع الدينية والأثنية، فالناس، في الأصل، هم الذين تعود كل الموارد النفطية لهم وليس للحكومة التي تستخدمها سياسيا، ولمنح نفسها و مريديها كل الإمتيازات، ولقمع الشعب وخداعه.
ما تقدم قد يمثل مساهمة فكرية وتوضيحية للإجابة على الأسئلة التي أثارها الأخ إبريهي، وربما نستكملها لاحقا بعد إكمال الدكتور حبيب بقية مناقشاته.
مع أطيب تمنياتي.
د. كامل العضاض
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية