في ظل الظروف الاقتصادية والمالية المتقلبة وضغوط التضخم النقدي التي حلت في بلادنا سابقا، وأدت الى آثار سلبية على انتظام السوق التجارية وأسواق العمل والإنتاج ومستوى معيشة المواطن ، فقد تولدت تشوهات كثيرة في البنى والعلاقات الاقتصادية،
والتي كان من بينها تواجد كتلة نقدية، كثيرة الأصفار، قليلة القيمة، وعلى نحو لا يتناسب والتطورات المقبلة في حاضر ومستقبل الاقتصاد العراقي، مما يقتضي إيجاد حل لهذه الظروف ومخلفاتها، ومن هذه الحلول إصلاح نظام إدارة العملة النقدية من خلال هيكلتها وحذف الأصفار منها للسيطرة على تدفق وإدارة كلفة الكتلة النقدية على نحو امثل.
إن تداول كتلة نقدية مصدرة تربو على 37 ترليون دينار عراقي بمختلف الفئات والتي يعكسها عدد الأوراق المتداولة البالغة 4 مليارات ورقة نقدية هي نتاج مرحلة طويلة من التضخم والتدهور الاقتصادي، حيث ارتفع على سبيل المثال الرقم القياسي لأسعار المستهلك بأساس 1993 من 100 الى 200000 في خضم العام 2003 مما يعني ان السلعة التي كانت تباع بـ100 دينار أصبحت تباع بـ 200000 دينار … وهكذا . وتحت هكذا ظرف وتدهور قيمة العملة ارتفعت فئة العملة الأكبر من 25 ديناراً إلى 25000 دينار، مما يعني أن التضخم هو الذي أضاف هذه الاصفار.
* لا تتناسب فئات العملة الحالية مع الوضع الاقتصادي الراهن والمقبل. فعلى سبيل المثال و قبيل اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية كانت فئة الـ25 دينارا تعادل 75 دولارا، بالقوة الشرائية، لذلك الوقت أو ما يعادلها في الوقت الحاضر 300 الف دينار. لقد اضاف التضخم المالي في البلاد على مدى ثلاثة عقود من الزمن أصفاراً الى العملة، وعلى الرغم من ذلك لم ترفع تلك الأصفار من القدرة الشرائية لأكبر فئة من العملة، وهي الـ 25 الف دينار، والتي تساوي اليوم 21 دولارا. ونحن بحاجة اليوم الى إعادة هيكلة العملة. فالاصفار الكبيرة تعني كتلة نقدية كبيرة في التداول تبلغ اليوم قرابة الـ30 تريليون دينار مما تطلبه من تداول نقدي مباشر والى كلفة كبيرة في العد والفرز وما تستغرقه من وقت وخواص مكانية وأمنية. ففي نظام الأسعار، يعد السعر هو القيمة، معبر عنها بالنقد، ومن ثم فان هيكل التكاليف والمدفوعات الاجرية والرواتب واقيام المعاملات، أمست جميعها لا تتناسب مع حاجة البلاد الى نظام ادارة نقدية، ينسجم وهيكلة القطاع الحقيقي والمستويات السعرية التي بلغها . فالبلاد بحاجة الى نظام نقدي سهل التعامل ومن فئات صغيرة وكبيرة معبرة عن كلفة ذلك الهيكل الحقيقي. (راجع التفاصيل في هامش الصفحة اللاحقة).
ويلحظ ان خلال المدة 1990- 2007 ازداد تضخم الرقم القياسي لأسعار المستهلك الى 400000%، وبغية التبسيط فإن السلعة التي كانت تباع بمئة دينار قبل بدء حرب الكويت في العام 1990 اصبحت تباع بـ 400000 دينار في العام 2007. علماً ان قيمة الدينار العراقي انخفضت مرتين وبشدة خلال مدة 1990-1998 بمعدل اكثر من 99% مقابل الدولار الأمريكي . فأن الانخفاض الاول كان عام 1990، والانخفاض الاخر كان في العام 1997، وبنسبة 93.2% مما جعل إجمال الانخفاض في سعر صرف الدينار العراقي إزاء الدولار بواقع (سالب 99.99%) ذلك في نهاية العام 1998، وان خلال هذه المدة لوحدها بلغ التضخم في الرقم القياسي لأسعار المستهلك 45000%.
وإذ ما علمنا أن التضخم يعني بنفسه ارتفاع اسعار النقود money price على السلع والخدمات (اي كم من النقود نحتاج لمبادلتها بحزمة معينة من السلع والخدمات.. فكلما تزداد كمية النقود المخصصة لمبادلتها على الحزمة نفسها معنى ذلك ان هناك تضخما او ارتفاعا في أسعار النقود). منوهين بأن قيمة النقود تتناسب عكسياً مع اسعار النقود، وان السعر هو قيمة السلع والخدمات معبر عنها بالنقد *.
(*) تشير الدراسات الاجتماعية الى ان معدل دخل الطبيب العراقي الشهري كان لا يساوي كقوة شرائية في تسعينيات القرن الماضي سوى شراء 30 بيضة دجاج و 20 قطعة خبز في ذلك الشهر، وعلى مدى سنوات الحصار الاقتصادي . كما ان الكثير من العاملين في المؤسسات المختلفة قد اقلعوا عن العمل لكون العائد الشهري لا يغطي تكاليف النقل الى مكان العمل. ولا ننسى كيف خلقت اسواق مشوهة في البلاد تقايض بها المواد المستعملة من الأثاث والسلع المعمرة والملابس لشراء الطحين او السكر وسد الحد الادنى من احتياجات الأسر للطعام. وان القطاع الزراعي بحد ذاته كقطاع منتج للمواد الغذائية قد تدهورت اوضاعه منذ سبعينيات القرن الماضي بسبب تدهور الارياف والانغماس بالريع النفطي في الوظائف العامة وعسكرة البلاد، فخلال المدة 1972-1982 على سبيل المثال بلغ معدل النمو السنوي في القطاع الزراعي (سالب 1.1% ). في حين كان معدل النمو في ذلك القطاع بين الاعوام 1962-1972 قد بلغ 7.1% سنوياً. مع العرض ان جميع القطاعات السلعية شهدت تدهوراً في النمو خلال اعوام التسعينيات ولا سيما قطاعي الزراعة والصناعة.
اما اليوم فقد ارتفع متوسط دخل الفرد العراقي السنوي من الناتج المحلي الاجمالي الى ما يزيد على 5300 دولار، بعد ان كان لا يتعدى 750 دولاراً قبل العام 2003. وان متوسط دخل الموظف الحكومي يبلغ قرابة ضعف متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الاجمالي ويقدر بحوالي 10000 دولار سنوياً.
ولما كانت النقود هي اي شيء يتفق عليه المجتمع ليصبح وسيطاً للتبادل ومخزناً للقيمة ووحدة حســاب، فان النقود (القانونية) الصادرة عن السلطة النقدية بموجب القانون وذات قوة ابراء للذمم، يُنظر إليها بانها مؤسسة اجتماعية Social Institution ، حيث تزداد كفاءة الاقتصاد وعملياته في تحريك التبادل بكفاءة تلك المؤسسة الاجتماعية اي النقود والعكس بالعكس. لقد ادى التضخم المستمر الى ارتفاع رقم العملة المتداولة من 23 مليار دينار في العام 1991 الى حوالي (30 ) تريليون دينار في الوقت الحاضر، وارتفاع اكبر فئة عملة من 25 ديناراً الى 25000 دينار بمرور الوقت. وبهذا، رسم التضخم أرقاماً جديدة للعملة المتداولة بإضافة ثلاثة اصفار مما زاد من مقدار العمليات النقدية الاسمية ورتب تكاليف انتاج كميات كبيرة منها، رافقتها عمليات خزن وتوزيع وعـدّ وفـرز وتدقيق مرافقة لها، وبمستويات مضاعفة، ساعدت على تعاظم المخاطر التشغيلية المصاحبة Operational Risk
وفي ظل الاستقرار السعري والتفاؤل بمستقبل العراق الإنمائي فقـد بات من اللازم اجراء إصلاح جذري على نظام إدارة العملة، وذلك بإعادة هيكليتها بما يتناسب وهيكل الاسعار الجديد المختلف والمستقر ومستويات الاجور والرواتب التي اختلفت كثيرا عن السنوات الثلاثين الماضية، فضلا عن التعامل بكتلة نقدية كبيرة ضعيفة في مكوناتها بحيث باتت اكبر فئة عملة لا تساوي الا 21 دولارا أمريكيا في الوقت الحاضر . منوهين بان ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي للعراق من 140 مليار دولار في نهاية العام 2011 الى اكثر من 230 مليار دولار في نهاية عام 2015، سيرفع الكتلة النقدية المصدرة من 37 تريليون دينار الى حوالي 70 تريليون دينار. وان التركيب الضعيف في هيكل العملة كما ذكرنا آنفاً قـد اخذ يضيف كلفة تسمى كلفة المعاملات النقدية من حيث التداول بها سواء بين الأفراد انفسهم والأفراد والمصارف وداخل الجهاز المصرفي نفسه.
** أمسى الطلب على الدولار الامريكي ( ولا سيما فئة الـ 100 دولار) حاجة ملحة لتسوية المعاملات النقدية في السوق المحلية خارج إرادة السياسة النقدية لكون تلك السوق تتطلع في معاملاتها الى فئات اكبر غير متوافرة حالياً ولكنها تتجسد بفئة العملة الامريكية الكبيرة لسهولة حملها وتداولها لخفض كلفة التداول النقدي او المعاملات النقدية. لذا فإن النظام النقدي العراقي اصبح بحاجة ملحة الى اصلاح إداري لنظام المدفوعات النقدية لتكون هناك فئات نقدية عالية القوة الشرائية في التداول، سهلة الحمل والحيازة، بما يسهل عمليات التبادل النقدي لاغراض المعاملات او المتاجرة. مشيرا الى ان الاختلال في هيكل او تركيب الوحدات النقدية الحالي قد عمق من مشكلات (الدولة) التي رتبت آثارا غير مرغوبة على فاعلية واداء السياسة النقدية .
ففي السويد على سبيل المثال، التي يتوافر فيها حالياً واحد من افضل انظمة المدفوعات النقدية في العالم، وعلى الرغم من ذلك ، فان كلفة التداول النقدي من عـد وفــــرز ونقل وخزن للعملة، تكلف الاقتصاد الوطني ما نسبته 4% من الناتج المحلي الإجمالي للسويد. فكيف نقارن ذلك في بلد مثل العراق يتولى ادارة هكذا مقادير نقدية هائلة ضعيفة التركيب، مما يضيف كلفة معاملات نقدية ربما تصل الى 8% او أكثر من الناتج المحلي الاجمالي، وهو عبء يتحمله الفرد في تعاملاته مما اخذ يقلل من كفاءة النقد كمؤسسة اجتماعية مؤازرة لمؤسسات الاقتصاد المختلفة بما فيها السوق، والدليل على ذلك تنحصر المعاملات النقدية الكبيرة للدفع بالدولار الامريكي، مما يعني احلال عملة دولة اخرى في التداول لإسناد المعاملات النقدية بسبب هبوط كفاءة وتركيب الكتلة النقدية الحالية.
ويثير تعدد الأصفار على فئات العملة مع انخفاض القوة الشرائية لها مصاعب جمة منها صعوبة التعبير عن القيمة النقدية، فضلا عن مصاعب العمليات النقدية نفسها ومشكلات فنية في تسجيل البيانات الاحصائية والتسجيل في الدفاتر المحاسبية وتغيير انظمة الحاسبات ونظم التسويات، فضلا عن اظهار الاسعار بارقام طويلة تصعب احياناً حتى العدادات او الاجهزة الرقمية من قراءة اصفارها في محطات الوقود او الاجهزة الرقمية الاخرى.
وعلى هذا الأساس، أصبحت هناك حاجة لإصلاح نظام المدفوعات النقدي من خــلال المزايا الآتيـة:
أولا- على المستوى الأفقي : حذف الأصفار الثلاثة .
– تحويل 37 تريليون دينار الى 37 مليار دولار عن طريق حذف ثلاثة اصفار من العملة الحالية واستبدالها بعملة جديدة مما يسهل التعامل الحسابي مع ارقام هي اقل عدداً على صعيد حسابات الموازنة الاتحادية، موازنات البنوك والشركات، فضلا عن موازنة الأسرة النقدية (الافراد) دون ان يرتب اي تغيير او تبدل على الدخل او الثروة النقدية للأشخاص الطبيعية والمعنوية، فضلا عن عدم تأثيره على التعاقدات والالتزامات بين الأشخاص الطبيعيين والمعنويين كافة. وهو ما يطلق عليه بتوليد دالة رياضية متجانسة من الدرجة الصفر Homogenous Function of Degree Zero، طالما ان كمية النقود الجديدة الاصغر رقما تغطي في التبادل الحزمة السلعية نفسها في النقود القديمة ذات الرقم الاكبر. وبهذه المناسبة يشبه David Hume (وهو من رواد علم الاقتصاد ما قبل المدرسة الكلاسيكية في كتابه الشهير النقاش السياسي او الجدل السياسي Political Discourse الصادر في العام 1752 ) تأثير مستويات الأسعار الاسمية مع ارتفاع كمية النقود مثل الانتقال من الارقام الرومانية الى الأرقام العربية (وهي الارقام الانكليزية حالياً)، فإن ذلك الانتقال لا يغير من المبادئ الأساسية لعلم الحساب او الرياضيات. فارتفاع كميات النقود يؤدي الى ارتفاع الاسعار بالنسبة نفسها دون تأثير على نتائج الاقتصاد الحقيقي.
ثانيا- على المستوى العمودي: إعادة هيكلة العملة وتركيبها
– لما كانت الفئة الكبيرة البالغة 25000 دينار تشكل لوحدها (ثلثي كمية الأوراق المتداولة) فان إصدار فئات اكبر يعني اختزال الأربعة مليارات ورقة نقدية المتداولة حاليا وتحويلها الى عدد يساوي ( 01.18 ) مليار ورقة نقدية. اذ ستختزل الفئات الكبيرة من العملة قرابة 80%- 90% من إجمالي الفئات الجديدة المصدرة الى التداول (مثل فئات 50، 100،200 دينار جديدة) .
استنادا إلى ما تقدم، فان كلفة المعاملات النقدية بين الأفراد والمصارف وبين الأفراد انفسهم طبيعية أم معنوية، ستنخفض حتما من حيث تكاليف العد والفرز والتدقيق. وإذا ما علمنا، أن الأوراق النقدية المتداولة تتآكل بالمتوسط خلال مدة خمس سنوات مما يعني استبدال كتلة هائلة ضعيفة التركيب وترتب تكاليف طباعية ذات مواصفات امنية عالية وهو عبء آخر تتحمله سلطة الإصدار النقدي وهو من مخلفات نظام ادارة نقدية، ولّدها التدهور الاقتصادي السابق واصبحت لا تتناسب والاستقرار والتقدم الاقتصادي المنشود. ختاما، إن أسباب تغيير العملة الراهنة تعبر عن ثمرة الاستقرار الاقتصادي ونجاح سياسات البنك المركزي العراقي في الحفاظ على الاستقرار، والمتمثلة باستقرار سعر صرف الدينار العراقي وهبوط التضخم الى مرتبة عشرية واحدة وبناء احتياطيات أجنبية مؤازرة للدينار العراقي بمستويات لم يسبق تحقيقها خلال الثلاثين عاماً الماضية، والتي تعد غطاء العملة العراقية. إضافة الى تحسين نظام المدفوعات النقدية وجعله يغادر التصاقه وتركيبه الراهنين بالماضي واختلالاته الاقتصادية وإعادة بنـائه على مستقبل التطور الاقتصادي ومعطياته الحقيقية والاسمية . لذا، فقد أعد البنك المركزي العراقي إستراتيجية بعيدة الأجل قابلة للتطبيق مستقبلا عند توافر الفرصة الملائمة وبصورة تدريجية، وفق تعليمات واضحة ولوائح ارشادية، توفر الحماية للحقوق والمصالح المختلفة، بما يتلاءم ومرحلة الازدهار المقبلة والنمو الاقتصادي المتوقع، حيث سيزداد متوسط دخل الفرد خلال السنوات القادمة الى أكثر من مرة، وسيخطو الاقتصاد خطوات نحو التقدم مما يتطلب إصلاحا لمخلفات مراحل التضخم وربما يتطلب بعض التشريعات بهذا الشأن.
*) نائب محافظ البنك المركزي
جريدة المدى الأربعاء 19-09-2012
http://almadapaper.net/news.php?action=view&id=72395
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية