دراسات اجتماعية وثقافية

لاهاي عبد الحسين: الطائفية ظاهرة اجتماعية

بقدر تعلق الأمر بالحياة اليومية لعموم المواطنين، تمثل (الطائفية) ظاهرة اجتماعية اعتيادية تبرز وتخبو بحسب توافر ظروف معينة لها. و(الطائفية) ظاهرة اجتماعية بمعنى أنّها سلوك اجتماعي منظور يمكن ملاحظته ورصد تكراراته وتلمسه وقياسه بالدرجة أو التقدير. ويمضي هذا السلوك باتجاه قدرة أشخاص أو أطراف معينين للتأثير سلباً أو إيجاباً على أشخاص أو أطراف آخرين. و(الطائفية) اعتيادية، ليس بمعنى أنّها إيجابية وإنّما ينبغي عدم التطيّر من ظهورها بين فترة وأخرى في ظلّ ظروف اجتماعية وثقافية وسياسية معينة لأنّها جزء من حالة الصراع الذي يعيشه المجتمع عبر مخاضاته المستمرة تاريخياً.

والطائفية تختلف بالتأكيد عن الطائفة، ففي الوقت الذي تشير فيه الطائفة الى مجموعة من الأشخاص المتوافقين مع بعضهم البعض ممن يدينون بالولاء لعقيدة (دينية في الغالب) معينة وأنّهم يشعرون بقوة الانتماء والعائدية والالتزام الأخلاقي والأدبي تجاهها، وهو أمرٌ لا غبار عليه بحد ذاته، تشير الطائفية الى أشياء مختلفة تماماً، فهي ظاهرة اجتماعية تظهر بين فترة وأخرى في المجتمع بحسب ظروف معينة تتوافر لها كما قدمنا، وهي تعني بالأساس أنّها تنطوي على مجموعة من المواقف السلبية التخاصمية العدائية في الغالب ضد الآخر. والطائفية بهذا المعنى تمثل جزءاً من منظومة التفرقة والتحيز والتعصب الذي يعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي وتشتيته، وفي الأقل شلّه أو تجميده. وهي بهذا المعنى أيضاً لا تكترث بالجدالات التي تدور حولها في مجال الدين أو المذهب. فالجدال الديني والمذهبي الخالص في قضايا جوهرية تمس البنية الفكرية والثقافية للأمة والمجتمع كما في موضوعات الخلافة والإمامة والشورى والجهاد وما اليها مهمة بحد ذاتها إلا أنّها لا تمس الطائفية كونها ظاهرة اجتماعية مواقفية إلا بقدر محاولات البعض من رعاة الطائفية والمحرضين عليها لاستغفال وعي العامة إيغالاً في تضليلهم وإيهامهم بأنّ لها ما يبررها دينياً وفكرياً وثقافياً. فما الذي يهم عموم الشباب من المتطلعين الى أنْ يجدوا موطئ قدم لأنفسهم في سوق العمل على صعيد تأمين فرصة عمل كونكريتية يعتاشون من خلالها من قضايا جدالية من النوع المشار اليه. وكذا الحال فيما يتعلق بجموع المواطنين من رجال ونساء ممن يقطعون الطرقات كل صباح ليذهبوا الى مواقع عملهم آملين العودة بأمان في نهاية النهار الى بيوتهم حاملين بأيديهم ما يسد رمق الأولاد والبنات.

إنّ ما يهم الغالبية الواسعة من أبناء المجتمع بمختلف شرائحه من كبار وصغار السن، رجال ونساء، فقراء وأغنياء، متعلمين وغير متعلمين، هو ما يحدث لهم (هنا والآن). فهم غير معنيين بما يسكن كتب التاريخ أو الفلسفة والاجتماع من أفكار ونظريات موضع جدالات ساخنة أو باردة. إنّهم لا يطمحون الى أكثر من الاطمئنان على توفير مستلزمات الحياة الحرة الكريمة التي تقيهم شر الحاجة والتطلع الى ما لدى الآخرين من موارد ليؤمنوا حياتهم وحياة أبنائهم هم. ولا يمانع غالبية هؤلاء الأشخاص في آخر النهار من التأمل والتفكر في قضايا الجدال المشار اليها وما يشبهها في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية لما تركت من آثار في ضمير الأمة والمجتمع. بمعنى أنّهم ما أنْ يستريحوا من عبء تأمين الحاجات اليومية المباشرة كالماء والشراب والمأكل والملبس لا يضيرهم التفكر في موجودات الضمير الجمعي الذي يتجسد بصورة مُثل وقيم وآمال وتطلعات تمثل الغذاء الروحي للإنسان والمادة التي يملأ فيها حياته الاجتماعية والفردية بالمعنى والمغزى مما تغدو الحياة بدونهما جرداء مجدبة كالصحراء القاحلة.

مما يؤسف له أن اختلط الأمر في مجتمعنا العراقي بين الطائفة والطائفية. وسرعان ما وجد المتصيدون في المياه العكرة فرصة سانحة لخلط الأوراق فكان أنْ استعملت المفردتان –الطائفة والطائفية – بطريقة إشكالية حتى التبس الأمر على أبناء العموم في الطائفة الواحدة ممن لم تكن (الطائفة) بحد ذاتها لتعني لهم غير أنْ تكون الملاذ الآمن ووعاء الخزين الأخلاقي والأدبي والروحي الذي نشأوا على محبته واستمدوا مشاعر الطمأنينة والأمان منه. وإذا بالخلط والتدليس يشكِلُ مفهوم الطائفة بالطائفية ليصبح تمريناً في تنمية مشاعر الخصومة والعداء وتثخين المواقف السلبية والعدائية تجاه الآخر. وغاب عن أذهان الكثيرين أننا نعيش في مجتمع إنساني تعددي بطريقة تكاد لا تتوقف عند حد خاصةً إذا ما أضفنا الى ذلك التأثير الذي تمارسه العولمة بحياة الملايين من البشر كل يوم بل وفي كل ساعة. فهناك الألوف المؤلفة من الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية والقومية والفكرية والسلوكية التي تعيش في مختلف بلدان العالم ممن تتفاعل مع بعضها البعض عبر وسائل الاتصال الإلكتروني أو غيرها من وسائل الاتصال التقليدية كالتجارة والعمل والدراسة وحتى الزواج.

لقد تعلم الكثيرون فن معالجة مشكلات التقوقع الفكري والثقافي من خلال الانفتاح على الآخر وحيازة فرصة التعلم من الآخر والاستمتاع بفضل مشاركة الآخر دون أنْ يصطدم ذلك بالمشاعر والاعتقادات المقدسة التي هي بالنهاية ملكية فردية من نوعٍ خاص جداً. لقد آن الأوان لقلب الطاولة على الطائفية والطائفيين خاصة وأنّها بدأت بفضل وعي العامة من الناس على بساطتهم وبراءتهم منذ فترة بالتحول نحو صيغ اجتماعية تشاركية مقبولة. إلا أنّ المستفيدين من قوة تأثير الطائفية وإن كان التأثير سيئاً للغاية ممن لا يهتمون إلا بمصالحهم الضيقة سرعان ما بدؤوا فصلاً جديداً من فصول استثمارها لترويج ما يرغبون فيه الأمر الذي أدى بها لتكون غطاءً لمشكلات لا تقل خطورةً منها على المجتمع وفي مقدمتها قضية الفساد الإداري. فكثير مما يجري باسم الطائفة والطائفية إنّما يحصل للتغطية على حرب المصالح المادية لأفراد أو جماعات لا يعنيهم أمر الأكثرية الساحقة من الناس بقليلٍ أو كثير بل جلّ ما يعنيهم تأمين مصالحهم الشخصية والعائلية مهما كان الثمن. لا يهم هؤلاء أنْ يكون الفساد الإداري بأشكاله المتعددة من سرقة المال العام بحسابات فلكية الى ممارسة الغش والتزوير على مستوى الامتحان والشهادة الدراسية الى ممارسة الوساطات المخجلة لسلب الآخرين فرصهم في مختلف الميادين ومنها مصادر أرزاقهم أنْ يرفعوا ورقة الطائفية وهم يدعون باطلاً أو زائفاً. يظهر هذا بوضوح من خلال ملاحظة أنّ التحالفات الاجتماعية على مختلف الصعد إنّما تتم على أساس التوافقات المصلحية وليس بالضرورة على أساس التوافقات الطائفية. فصراع المصالح قد يؤدي الى مواجهات شرسة بين أفراد أو أطراف متوافقين طائفياً إلا أنّهم متنازعون مالياً ومادياً. وهذا ما يتطلب الدعوة الى مزيدٍ من الاهتمام بتطبيق القانون واحترامه وتعزيزه ليكون سارياً على الجميع دون محاباة أياً كانت مرجعيتها ومبرراتها. وهو أمر ليس من الصعب الاضطلاع به في مجتمع واع ومدرك لمقومات الحياة الحرة الكريمة إنّما بمزيدٍ من الوعي والتعاون والحوار والجهر بالحقيقة مهما كان وقعها قاسياً ومؤلماً. فالحقيقة عُدّة الطامحين الى مستقبل ٍ أكثر أمناً من حاضر مضني وماضي صار في عداد البعيد.

* أكاديمية وباحثة، أستاذة علم الاجتماع في جامعة بغداد

ينشر بالتعاون مع جريدة العالم البغدادية 29/10/ 2013

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. Avatar
    حسن كاظم:

    سلمت اناملكي دكتورة نحن اليوم في امس الحاجة السوسيولوجية لفك اللتباس بين مفهوم الطائفة والطائفية وبين المذهب والمذهبية بين ماهوانتماء مقبول وحق ثقافي وبين ماهو تضخيم واستغلال لهذا الانتماء من اجل مصالح حزبية وشخصية لا علاقة لها بالدين وان استخدمت الدين في تبرير افعالها.

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: