الموارد المائية و حماية البيئة

د.حسن الجنابي: ملف المياه المشتركة بين العراق وايران ، الجزء الثالث: شط العرب وضرورة تحقيق السلام المائي

اولا:
تضم منطقة غرب ايران المتاخمة للعراق اكبر ثلاثة انهار في البلاد وهي نهر دز ونهر كارون ونهر الكرخة. واذا عرفنا ان نهر دز يصب في نهر كارون، اي انه رافد من روافد كارون، وان نهر كارون يصب في شط العرب جنوب البصرة، وان مياه المد البحري تدفع مياهه حتى شمال مدينة البصرة، وان نهر الكرخة يصب هو الآخر في شط العرب قرب القرنة عن طريق هور الحويزة،لاصبح بديهيا الاستنتاجان مياه الانهار الثلاثة الكبرى هذه تصب برمتها داخل الحدود العراقية بدون اية عوائق، منذ بدء جريانها، وبالضبط كما هو حال الرافدين دجلة والفرات اللذين يمثل التقاؤهما في القرنة نقطة انطلاق شط العرب لمسافة تقرب من (200) كم حتى مصبه في الخليج، وحيث تتفرع من جانبيه شبكة كثيفة من الانهار الصغيرة يزيد عددها على (600) نهير تربطها قنوات حُفربعضها منذ استقرار السكان بناة الحضارة الاوائل، واستمروا بصيانتها على مر التاريخ، فاصبحت بها دلتا النهر من اخصب مناطق العراق وايران فضلا عن جمالها الطبيعي الأخاذ وثرائها، ونظام الارواء فيها الذي يحدث طبيعيا اثناء المد والجزر وحيث ترتوي الحقول والمزارع دون تدخل مباشر من الانسان.
ثانيا:
ان سر احتفاظ شط العرب بعذوبة مياهه وتجددها منذ الازمنة السحيقة هو كونه مجرى مائيا يمثل مصبّا ًللانهار الكبرى من الجانبين العراقي والايراني،اضافة الى الفائض السنوي لخزين المياه في الاهوار العراقية، الذي يتدفق على مدار العام بدءا من موسم الفيضان الربيعي. ولذلك فقد اقيمت جميع محطات اسالة مياه الشرب في البصرة على شط العرب، وكذلك محطات اسالة مياه مدينتي عبادان والمحمرة (خرمشهر)، علما ان مياه الشط كانت صالحة للشرب عبر التاريخ دون معالجة نظرا لعذوبتها، وكانت تلك المياه العذبة تمتد في الخليج الى مسافة تزيد عن (5) كم جنوب نقطة المصب بسبب غزارتها، وقد احتضن الشط بسببهاعلى ضفتيه ملايين النخيل، قدرت نسبتها في السبعينيات بحوالي(20 بالمئة) من اشجار النخيل في العالم ومن انواع فريدة ومتميزة، قبل ان تأتي سلسلة الحروب وتقتلع الزرع والضرع والبشر والخصوبة، وتسبب زحف المياه المالحة شمالا، حيث زادها سوءا تعثر ادارة المياه على مستويات الاحواض النهرية وحجبها عن الجريان، بسبب كثافة بناء السدود وتشغيلها دون تنسيق، ناهيك عن تجفيف الاهوار شمال الشط، مما ادى الى احتضار النهر وانحدار نوعية مياهه وتلويثها وتدهور اراضي المنطقة المحيطة به.
ثالثا:
كان نهر كارون، وحتى العام 2006 ، يصبّ سنويا في شط العرب ما معدله حوالي (15) مليار متر مكعب من المياه العذبة، يضاف لها مايقرب من (5) مليار متر مكعب هو معدل تصريف نهر الكرخة الى هور الحويزة ومن ثم الى شط العرب، واذا اضفت معدل جريان نهر دويريج والطيب والجباب وغيرها من السيول، وروافد نهر ديالى وروافد نهر الزاب الاسفل ستجد ان ايرادات العراق من الجانب الايراني اكثر بكثير من ايراداته من الجانب التركي عن طريق نهر دجلة والبالغة بحدود (20) مليار متر مكعب سنويا.
مايجب ذكره ايضا هو ان منابع نهر دجلة في تركيا ليست خاضعة لسيطرتها بعد، لان سد اليسو التركي مازال تحت الانشاء حتى هذه اللحظة،كما لم ينجز سد جزرة الاروائي القريب من الحدود العراقية بعد، وهما جزء من مشروع “غاب” التركي،في حين ان السدود الكبرى على نهر دز ونهر الكرخة ونهر كارون قد اكتملت ودخلت مراحل التشغيل وبالتالي فقد تناقصت تدفقات المياه من هذه الانهر الى درجة كبيرة، تغير معها الوضع الطبيعي في شط العرب والدلتا العراقية بشكل دراماتيكي مقارنة بما كان عليه قبل عقد او عقدين من الزمن.وبالوقت نفسه الذي تنفذ فيه الجارة الشمالية برنامجها الكبير “غاب” الذي يتضمن تشييد اكثر من (20) سدا على منابع الفرات ودجلة، فان الجارة الشرقية تنفذ برنامجا لايقل طموحا في مجال الموارد المائية واستصلاح الاراضي والري في محافظة خوزستان وغرب ايران على منابع الانهار الثلاثة الكبرى، حيث يتضمن البرنامج تشييد (17) سدا، اكتمل منها حتى اليوم (5) سدود كبرى ودخلت مرحلة التشغيل، ويجري حاليا تشييد (5) سدود اخرى، وهناك (7) سدود في طور التخطيط والدراسة،اضافة الى عشرات المنشآت والنواظم التي تقوم بتحويل المياه بغرض استصلاح وارواء مئات آلاف الهكتارات من الاراضي الزراعية، تزيد حاجتها الاروائية من المياه احيانا على ايرادات النهر نفسه كما في مشروع نهر الكرخة الاروائي،الذي من المخطط له ان يروي مساحة تبلغ (340) الف هكتار، مما يعني ان الموارد المائية التي كانت تجري برمتها الى شط العرب، سيتم استخدامها بالكامل داخل الحدود الوطنية الايرانية، وان كان هناك من فائض يدخل الحدود العراقية فسيكون اما في اوقات الفيضانات الكبرى او على شكل مياه المبازل.
رابعا:
هناك تشابه في حظوظ منطقة الغرب الايراني المتاخمة للعراق وجوارها في الجانب العراقي. فقد عانت المنطقة من الفقر والاهمال والتدمير برغم انها تحوي الجزء الاكبر من ثروات النفط والغاز في ايران، تماما مثل محافظتي البصرة وميسان اللتين ينهشهما الفقر بالوقت نفسه الذي يخفي سطح الارض تحتهما خزينا هائلا من الثروات، وهنا اود تثبيت ملاحظة مفادها:ان لجوء الحكومات الى المشاريع الكبرى هي محاولة مشروعة لاختصار الزمن وتحقيق “تنمية شاملة” في المناطق المهملة والمتضررة، سواءا من سياسات سابقة اعتبرت فاشلة، كما في مشروع “غاب” التركي الذي يهدف، كما هو معلن رسميا، الى انتشال منطقة جنوب شرق الاناضول من الفقر والتخلف ونزع فتيل التوتر الاجتماعي والسياسي، في منطقة غالبية سكانها من القومية الكردية، او في المناطق التي عانت من الاهمال والحرب، كما هو حال المناطق الغربية من ايران.لكن هذا الطموح المشروع لتحقيق العدالة والتنمية يغفل امرين وهما:
1.ان المشاريع الكبرى في ميادين الموارد المائية واستصلاح الاراضي وبناء السدود والمبالغة في حجز المياه في سدود جبّارة، والتحكم المفرط بجريان الانهار، يؤدي الى تشويه الدورة الهيدورولوجية الطبيعية، وما يتعلق بها من تجديد لحيوية البيئة وخصوبة الارض، والحفاظ على التنوع الاحيائي الذي يسند الحياة وحلقاتها الضامنة لسلسلة الغذاء المستمرة منذ الازل، بدلا من تعزيزها وتسخيرها لخدمة السكان، ولذلك لن تتحقق التنمية المبتغاة من هذه المشاريع وخاصة على المديين المتوسط والبعيد،وقد اثبتت ذلك تجارب الامم المتقدمة في اوروبا واميركا، وافضل مثال عليها التجارب الاروائية الكبرى الفاشلة في الاتحاد السوفيتي السابق، وخاصة تلك التي ادت الى ما يعتبره المختصون اكبر كارثة بيئية حلّت على سطح الارض وهي اختفاء بحر الآرال نتيجة لتحويل الانهار المغذية له الى مشاريع استصلاح ثبت انها فاشلة، ولدينا تجربة مشابهة في العراق وهي محاولة النظام السابق تحويل الاهوار الى مشاريع استصلاح زراعي بعد تجفيفها وهي مشاريع كارثية بكل المقاييس، انسانيا واقتصاديا وبيئيا.
2.ان هذه البرامج الطموحة لدى البلدين الجارين اهملت بالكامل مصلحة العراق وحقوقه التي يؤكدها القانون الدولي ومبادئ ادارة المياه المشتركة فضلا عن روابط الدين وحسن الجوار وغير ذلك، وهي بالنتيجة لن تجلب الفوائد المرجوة منها خارج الحدود العراقية، ولا مفر من اتفاق البلدين على ادارة مشتركة تحقق المنفعة للطرفين بعد ان سفكت دماء عشرات الآلاف من مواطني البلدين لاثبات ان احدهما اولى من الآخر بالانتفاع من مورد يحتضر الآن امام الأعين.
خامسا:
ان احياء شط العرب وايقاف تدهوره ومنع احتضاره وتحويله الى ممر للسلام المائي يتطلب تعاونا ثنائيا يتجاوز ضغائن الماضي واحقاده، والابتعاد عن منطق القوة والامر الواقع، فقد مثلت الحدود المائية في شط العرب عنصر توتر مستمرتم التعاطي معه بالتفاوض حينا وبالحرب المدمرة حينا آخر منذ القرن التاسع عشر حتى عام 1975 حيث عقدت اتفاقية الجزائر وتضمنت ملحقا بالحدود المائية.
(يتبع).
* سفير العراق لدى منظمة الاغذية والزراعة للأمم المتحدة(فاو)
ملاحظة: ماورد في المقال وكل المقالات المشابهة السابقة واللاحقة يمثل اراء واجتهادات شخصية لا تتحمل مسؤوليتها اية جهة اخرى سوى الكاتب
لتنزيل المقال بصيغة ملف بي دي اف انقر هنا

 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: