أبحاث نظرية في الفكر والتاريخ الإقتصادي

د. مدحت القريشي: هل هناك بوادر ثورة صناعية امريكية جديدة؟

د. مدحت القريشي*: هل هناك بوادر ثورة صناعية امريكية جديدة؟
The Making of a New American Industrial Revolution
 
مقدمة
نشرت مجلة  Baylor Business Reviewالامريكية في عددها الخاص (خريف 2016) والموسوم عدد خاص بالاقتصاد مقالة بعنوان: عملية ظهور ثورة صناعية امريكية جديدة بقلم(Becca Broaddus).  وقد استعرض فيها مجريات ودوافع بلورة ثورة صناعية امريكية جديدة مشيرا فيها الى عدد من الامثلة الواقعية على هذه الظاهرة مع بعض التحليلات الاقتصادية لتفسير اسباب ودوافع ونتائج هذه العملية في امريكا.  ولأهمية المقالة هذه ارتأينا ان نستعرض أبرز الافكار الواردة في تلك المقالة وذلك لتعميم الفائدة على المختصين والمهتمين بالصناعة والتصنيع ولمتابعة اتجاهات التطورات الصناعية الحديثة في الولايات المتحدة الامريكية.[1]
 
تمر الصناعة التحويلية في الولايات المتحدة الامريكية بعملية نمو جديدة تزامنا مع دفعة جديدة لشعار (اشتري البضاعة الامريكية) Buy American حيث تتصاعد عملية التصنيع الان على الاراضي الامريكية وتتواصل ظاهرة تشجيع المنتجات المصنعة في امريكا والمعتمدة على الموارد المحلية.  وقد كان للركود الاقتصادي دور في تحفيز التغيير في ثقافة المستهلك حسبما يذكر Chris Pullig  البروفسور ورئيس قسم التسويق في جامعة بايلور الأمريكية الذي يؤكد بالقول باننا نرى عددا كبيرا من الشركات تثبت على منتجاتها عبارة (مصدرها محلي) او (مصدرها اقليمي) بالإضافة الى عبارة صنع فيUSA.  ويمضي في القول بان المستهلكين يشترون ويدفعون فعليا علاوة سعرية للمنتجات التي يعتقدون بانها تتضمن منفعة ودعما للاقتصاد المحلي.  وعندما تمر الاوضاع الاقتصادية بصعوبات، كما يحدث في اوقات الركود، فإن الناس يتجهون نحو شراء البضائع ذات المصادر المحيطة بهم لإشباع حاجاتهم، كما يقول البروفسور Pullig.
وفي استقصاء حديث للرأي اجرته مؤسسةGallup Poll  ظهر بان نحو 45% من الامريكيين ادعو بأنهم سعوا نحو شراء منتجات مصنوعة في امريكا.  كما ان 60% من أولئك المستهلكين يرجعون سبب شرائهم للبضائع الامريكية الى دافعين هما: الشعور الوطني اولا وتنمية فرص العمل ثانيا.  وهنا لابد من القول بانه إذا كان هذا هو شعور وموقف الشعب في الولايات المتحدة الامريكية، البلد المتطور والاغنى في العالم، فما بالنا نحن العراقيون الذي نمر بأصعب الظروف.  اقول هذا لأنني ارى ان المستهلك العراقي، او معظم المستهلكين لم يعودوا يهتمون بمنشأ البضاعة التي يشترونها رغم الوضع الاقتصادي الصعب الذي نعيشه، بل أستطيع ان اجزم، كما فعلت في مقالات سابقة لي، بأن هناك جهات معينة تحارب الصناعة الوطنية وتتحيز للبضاعة الاجنبية المستوردة خدمة للمصالح التجارية المحلية والاجنبية وخدمة لبعض الفئات المستفيدة من هذه الظاهرة.  ولقد سبق ونشرت مقالة لي بعنوان مستفز وهو: (الحكومة والسياسيون والمواطنون يسهمون جميعا بقتل الصناعة العراقية) للتأكيد على هذه الظاهرة الخطيرة بحق الصناعة والاقتصاد العراقيين.
وبالعودة الى موضوعنا الاساسي فإن البروفسور الامريكي المذكور يؤكد بان عملية الشراء للمنتج الامريكي لا تستند على عامل القيم values او الشعور الوطني فحسب بل ان التوجه لإقامة المصانع داخل الولايات المتحدة الامريكية وليس في خارجها يعود الى زيادة اسعار النفط العالمية في حينها وبداية زيادة تكاليف النقل، هذا فضلا عن التقدم الحاصل في توجهات التصنيع الحديثة والتي ادت الى خفض تكلفة العمل بسبب استخدام الانسان الالي في الصناعة، وكذلك التصنيع المضيف (additive manufacturing ) مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد 3D)).  وبالإضافة الى ما تقدم فإن الارتفاع الحاصل في تكاليف النقل وكذلك الاثر الايجابي للثقافة الهندسية ورخص الطاقة الكهربائية كلها كانت عوامل مساعدة على هذا التوجه الجديد.
وبناء على ما تقدم فان العديد من الشركات تعمل على اعادة المصانع الموجودة في الخارج الى اراضي الولايات المتحدة الامريكية لان هذه العملية يرونها مجدية وتتماشى مع مصالح البلاد.  وهناك العديد من الامثلة على هذه الظاهرة.  ومن بين هذه الامثلة شركة بوينج Boeing التي اخذت تقوم بتصنيع الطائرات في واشنطن، كما قامت شركة تويوتا بتصنيع الشاحنات في تكساس وكثير غيرها من هذه الامثلة.  وحتى على مستوى نشاط وعمل الفنادق فقد قام فندق ماريوت Marriot باستبدال المناشف في جميع فروعه في الولايات المتحدة الامريكية والبالغة 3000 فرعا بمناشف مصنوعة في امريكا.
وتجدر الاشارة هنا بان جميع المصانع التي عادت الى الاراضي الامريكية تتسم بانخفاض كثافة العمل وارتفاع المحتوى التكنولوجي فيها بالمقارنة مع تلك التي تركت امريكا الى الخارج في حينها.  وحتى المستودعات Warehouses فلم تعد كما كانت في السابق مظلمة وليست نظيفة، على حد قولهم، بل هي الان تتصف بالأتمتة واستخدام (الروبوت) الصناعي.  وقد انتقلت ظاهرة الأتمتة في الصناعة حتى الى المراحل اللاحقة للعملية الصناعية مثل النقل والاتصالات.  ومع تدفق المصانع نحو الاراضي الامريكية فان التقدم التكنولوجي الحاصل فيها قد خفض من الحاجة الى العمل اليدوي، وبالمقابل ازدادت الحاجة الى المهارات والتقنيات.
ويرى العديد من الامريكيين بانه رغم التأثير السلبي لعملية تحرير التجارة العالمية على التوجه المتزايد لإقامة المصانع داخل الولايات المتحدة الا ان هذه الاخيرة ستستمر في تنمية الصناعات في الداخل وتنحرف عن اندفاعها الحديث نحو زيادة نشاط الاقتصاد الخدمي.  ويؤكد بعض الامريكيين بأنهم بالأساس هم صانعون Makers، وإذا كانوا قد فقدوا هذه الميزة بعض الوقت فانه يتعين عليهم ان يبقوا مبدعين مشاركينco-creators ، كما يقولون.
* خبير اقتصادي واستاذ جامعي.
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بأعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 2 كانون الأول 2016
[1] رابط المقالة الأصلية: https://bbr.baylor.edu/industrial-revolution/
 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (1)

  1. الاستاذ الدكتور عبدالكريم جابر شنجار العيساوي
    الاستاذ الدكتور عبدالكريم جابر شنجار العيساوي:

    ..نعم يتفق هذا التوجة من الادارة الامريكية الجديدة بزعامة الرئيس الامريكي الجديد (دونالد ترامب )
    وكما هومعروف أن الاخير رجل أعمال من الطراز الاول.جاءت به مؤسسات الاعمال الامريكية لبدء صفحة جديدة من أداء الاقتصاد الامريكي قائمة على أساس السياسات الحمائية لمواجهة المنافسة الشرسة للاقتصاد المحلي من قبل الدول الصناعية الاخرى المتقدمة والناشئة منها .ويبدوأن تداعيات الاحداث العسكرية مابعد أحتلال العراق والربيع العربي والتواجد الروسي في منطقة الشرق الاوسط جميع هذه العوامل دقت ناقوس الخطر الى الاقتصاد الامريكي..ووجدت نفسها بحاجة الى مرحلة تقترب من حالى الاكتفاء الذاتي بالاعتماد على المشاعر الوطنية وحفيز المواطن الاميكي على صناعة المنتجات الامريكية بدلا من الاجنبية.. ونتذكر الاحتجاجات المواطنين المحليين عندما رفعوا شعار أحتلوا (WALLSTREET) بسسب نقل الصناعات الامريكة نحو الشرق وخلق العمالة خارج امريكا وليس في الداخل .
    ومن هذا المنطلق صرح الرئيس الجديد سوف تعاقب الصناعات الامريكية التي تنقل نشاطها خارج الولايات الامريكية
    . وأخيرا ربما فعلا هناك ثورة صناعية جديدة في أمريكا وبدء دورة حياة جديدة للمنتج الامريكي.
    أما اشارتك دكتور الى حال الاقتصاد العراقي أقول بأختصار من يقود البلاد في هذه المرحلة من تاريخ العراق لايؤمن بشيء أسمه (صنع في العراق) بل صنع في الخارج وللمعلومات الكثير من القيادات في السلطة تستثمر في الصناعات في الدول المجاورة للعراق لتقوم بالتصدير لها.والأخطر أن المواطن العراقي غير واعي الى الازمات الحاليةوالقادمة ما دام يحصل على دخل دون عمل ..بطرق شتى ناهيك على الفساد والنزعة العسكرية التي تشتاح الشارع العسكري دون التوجة الى الابداع والتطوير الى المهارات الانتاجية..
    أخيراأشكرك أستاذي الدكتور مدحت على فتح موضوع في غاية الاهمية على النطاق العالمي والذي يبدو أن الاقتصاد العالمي مقبل على موجة من الاحتكاكات بينالقوى الاقتصادية التقليدية والحديثة.وهو ما يحتاج الى التحليل لتفادي التأثيرات السلبية على الاقتصاد العراقي…

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: