أ.د. عبدالحسين العنبكي *: عرض الكتاب الموسوم “سعر الصرف المغالى فيه ..قمع للمنتج المحلي ، دعم للمستورد”
يقول جون ماينرد كينز “إن ممارسي الأنشطة الاقتصادية الذين يظنون أنفسهم متحررون من أي تأثير فكري هم في الغالب أسرى لأفكار اقتصادية من عهود ماضية، كما أن مجانين السلطة يستقون أفكارهم المجنونة من أنصاف الأكاديميين القدامى“.
كم انت كبير يا صاحب المدرسة الكنزية التي اوجدت منعطفا فكريا كبيرا في الاقتصاد بعد ان تمردت على موروث فكري هائل متمثل بالمدرسة الكلاسيكية والتي تحوي من التسبيب المنطقي الكثير ، لقد ازعجك انصاف الاكاديميين القدامى الذين وجهوا السهام لمدرستك الجديدة ، لا عليك فكل جديد يقاوم بشراسة ، ولكن عزائك على الاقل ان من هاجموك كانوا قد درسوا الاقتصاد فكرا ومدارسا وتشبعوا بآلية السوق واليد الخفية وحصر وظائف الدولة في كونها حارسة و يعرفون جهاز الاسعار والمنافسة التامة وغيرها كثير ويهاجموك بمنطق الاقتصاد ، فما عساني ان اقول في بلدي العراق واغلب مؤسساته الاقتصادية خالية من اي شخص اقتصادي او على اقل تقدير شخص درس مبادئ الاقتصاد ، ولا اقول تعمق الى نماذج التوازن الكلي وتحليل المرونات والاستجابات ونماذج القياس الاقتصادي ، في بلدي كل قراراته الاقتصادية يصنعها الاطباء والمهندسون والكيميائيون والفيزيائيون وفقهاء الدين والسياسيون ولا يغيب عنها الا الاقتصاديون ، لانهم يريدون ان يسيروا كل شيء بالمقلوب .
انك محظوظ يا سيد كينز على الاقل لوجود لغة اختصاص مع خصومك ومفردات متفق على تعريفها.اما انا فصرت مضطر للتعامل مع اشخاص من عصر روبنسون كروزو عام 1659 الذي انقطعت به السبل في جزيرة خالية في قلب البحر وحيدا فريدا، وبدا يفكر كيف يوفر حاجاته الأساسية التي تبقيه على قيد الحياة ليبدا حياكة التفكير الاقتصادي كما لو انه في العصور البدائية. الذين معي يا سيد كينز هم كذلك ، يستنفرون خلاصة فكرهم لوضع حلول مبتكرة من عندياتهم القاصرة لأنهم لم يقرؤوا النظريات والحلول التي تملئ ملايين الكتب الاقتصادية ، الذين معي هم جهلاء اذا سلمنا ان كل شخص جاهل في غير اختصاصه ، ويا ليتها كانت على الجهل لكانت المشكلة ابسط ، ولكن الجهل ، بطريقين ، مرة لانهم لا يدركون انهم جهلاء فيستعينون بمن يفهم ، ومرة لانه مركب مع مصالح شخصية استباحت كل الأساليب المؤدية الى الثراء على حساب الوطن ، فصار الزواج غير الشرعي بين السلطة والمال لا ينجب لنا الا أفكار لقيطة وحلول عرجاء ومشاريع مبتورة وتراجعات مستدامة .
يريد هذا الكتاب ان يسلط الضوء على السياسة النقدية في إحدى أهم أدواتها وهي (إدارة سعر صرف الدينار العراقي) تلك الإدارة المشوهة التي عززت ريعية الاقتصاد العراقي وعززت بالتبعية سيادة المنتج الأجنبي وكرست انهزامية المنتج المحلي في اطار خطى حثيثة قد لا تخلو من أجندات خارجية متضامنة مع الجهل والفساد سواء وفق أسلوب الاستمطاء دون دراية فهو غباء او وفق اسلوب التخادم بدراية فهو (مؤامرة ) او انه دون دراية فهو ( استغفال ) او ان هنالك قوى الضغط والاجبار لمتخذي قرارات اقتصادية فهو( فشل) ، او الثلاثة معا ، في عملية سياسية اقطابها متنافرة وكل يبيع ولائه بالثمن الذي يرتضيه لنفسه ، لانهم ببساطة سذج لا يدركون نقاط القوة في الاقتصاد العراقي ولا يجيدون تسخيرها بل لا يجيدون التفاوض حتى مع المنظمات الدولية بشأنها، الأمر الذي فاقم الانكماش الاقتصادي والبطالة وأمعن في توقيف ماكنة الإنتاج الصناعي والزراعي لصالح المنتج الأجنبي والدخول في ظاهرة الاقتصاد النائم (Sleeping Economy) هذا المصطلح الذي اطلقه كاتب هذه السطور لاول مرة في اكثر من كتاب ومحفل ومقال .
وعندما تتناقض في ذلك السياسة النقدية في أداة ( سعر الصرف ) مع السياسة المالية في جزئها الضريبي وبالأخص الكمركي الذي يفترض انه يسعى لحماية المنتج المحلي، فسوف يكون لهذا العبث في الرؤيا والقرار الاقتصادي اثأرا مكبلة للتنمية الاقتصادية الحقيقية ، اذ كيف لسياستين في بلد واحد تدعم كلا المتنافسين معا (المنتج المحلي ) و (المنتج الأجنبي ) في ذات الوقت ، والتجذيف باتجاهين متعاكسين يبقي السفينة متوقفة او انها تسير باتجاه الأقوى ، والأقوى في العراق كما سيتبين من خلال فصول هذا الكتاب هو دعم المنتج الأجنبي من خلال سعر الصرف المغالى فيه.
إن أهمية الكتاب الذي بين أيديكم احبتي تأتي من أهمية إيجاد مصادر بديلة للتمويل في ظل الأزمة المالية وتراجع إيرادات النفط وخضوعه لازمات الأسواق العالمية ومعتركاتها السياسية، وكونه يربط مواطن التناقض بين السياستين المالية والنقدية بالشكل الذي يجعل إجراءاتهما تذهب هباءً وتضيع فرص التنمية في العراق وفرص الخروج من الأحادية الريعية للاقتصاد واختلاله الهيكلي، فضلا عن كون الكتاب يشخص مواطن الخلل ويحاول تكميمها بما يتيح للقارئ إمكانية تلمس أدوات مقارنة سهلة الفهم.
إن الإبقاء على إدارة الإيرادات النفطية بنفس الأسلوب المتبع منذ عقود يعني الإبقاء على القطاع الحكومي مهيمن، ويعني الإبقاء على الإيرادات غير النفطية متراجعة والوعاء الضريبي منكمش ولن يسمح بزيادة الإيرادات الضريبية مطلقا ، كما ان سعر الصرف المغالى فيه يحقق خسارة مباشرة في تمويل الموازنة العامة وعامل ركود للاقتصاد، وقاضم للجهود الحمائية للسياسة الكمركية.
ومن هذا المنطلق يحمل الكتاب على عاتقه مهمة الخوض في غير المألوف وتشخيص مواطن الخلل والكفر بكل الآليات والهياكل المؤسسية المختلة وإجراء تحليلات مقارنة مع تجارب لدول مشابهة بغية الخروج من هيمنة ما اسماهم كينز قدامى أنصاف الاقتصاديين و حثالة الدخلاء من غير المختصين ، ومحاولة الإفلات من قبضة مافيات المصالح الشخصية ومستنقعات الفساد ، هذه المهمة التي بح صوتي في الحديث عنها منذ عقد من الزمن دون جدوى وتحملت لأجلها الكثير من التهديد حينا والتهميش أحيانا ، أضعها بين يدي الأجيال الشابة من الاقتصاديين وطلبة الدراسات العليا علهم يخرجوا من تضليل الساسة الى مساحات أرحب للتفكير و إلى مواطن أقوى للتغيير ، وانا هنا ساكون شاهد منصف ومن داخل الحدث على حقبة كان فيها القرار السياسي والمصالح السياسية متحكمة بالقرار الاقتصادي الموضوعي ويخالفه في التوجهات ولذلك بقي العراق دون تنمية ودون تشغيل وقد تندلع ثورة الجياع والعاطلين في اي وقت ، وهنا لابد من الاستشهاد بمقولة لمحافظ البنك المركزي المصري السيد طارق عامر الذي قاد سياسة التخلي عن دعم سعر الصرف للجنيه قائلا (لن أكون سعيداً اذا كان سعر صرف الجنية مرتفعاً بينما المصانع متوفقة ولا تعمل) .
جدوى تخفيض سعر صرف الدينار والتخلص من مزاد العملة
ان سعر الصرف للدينار العراقي يتمتع بقيمة غير حقيقية مرفوعة بضخ مليارات الدولارات في مزاد العملة بلغت (445) مليار دولار للفترة 2005-2017 بدد من خلالها البنك المركزي الكثير من احتياطي النقد الأجنبي ، وحقق خسارة مباشرة في تمويل الموازنة العامة للدولة تقدر بمليارات الدولارات فيما لو كان سعر صرف الدولار الواحد = 1500 دينار ، كما ان الفرق بين سعر الصرف للدينار العائم وسعر الصرف الرسمي الحالي يوفر حماية صافية للمنتج الأجنبي المستورد تقضم كل الجهود الحمائية التي قد توفرها التعرفات الكمركية الخجولة ، الامر الذي جعل القطاع الإنتاجي العراقي متوقف والقطاع التجاري مزدهر مما عزز من ريعية الاقتصاد ، ان اعتماد التعويم المدار التدريجي لتخفيض صرف الدينار سوف يولد ضغوط تضخمية محمودة تتفاقم بفعل التوقعات في البداية الا انها سرعان ما تتراجع مع مدى مرونة الجهاز الإنتاجي واستجابته حيث تعمل المصانع المعطلة والمزارع المهجورة لعدم قدرتها على المنافسة حاليا ، ويمكن لإجراءات حكومية ميسرة للإنتاج وحامية للشرائح الهشة ان تعجل من فترة النقاهة التي سيمر بها الاقتصاد ، ان نافذة بيع العملة قد مثلت وسادة مريحة للجهاز المصرفي منعته من ممارسة انشطته الحقيقية في خلق الائتمان وتمويل التنمية فضلاً عن انه ساهم في تهريب الدولار من دورة الدخل اذ ان الفرق بين اجمالي مبيعات البنك المركزي في المزاد وقيمة استيرادات القطاع الخاص تفوق (202) مليار $ للفترة 2010-2017 ، ويمكن الغاء مزاد العملة والاستعانة عنه بالاستيراد وفقاً لاعتمادات مستنديه ، فضلاً عن حق التحويل بسقوف محددة للطلبة وللعلاج وللسفر خارج العراق.
(*) مستشار رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية منذ 2005 ولحد الان
الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية