الموارد المائية و حماية البيئة

د.حسن الجنابي: ملف المياه المشتركة بين العراق وايران والحاجة الى مقاربة جديدة _ الجزء الخامس

أولا:
لقد فرض تطور القانون الدولي للانهار المشتركة خلال الخمسين سنة الاخيرة القبول بمبادئ لم تكن موضع رضا للعديد من الدول، ولم تعد موضع جدال على الساحة الدولية، الا لدى القلّة ممن لم يستوعبوا بعد اتجاهات او زخم التطور في قانون المياه الدولي، وبقوا اسرى لمواقف نفعية وقصيرة الامد.
فالمعرفة المتراكمة، والعولمة والتجارب العديدة في ادارة المياه في بلدان العالم، تعزز فرص التنمية المستدامة والمبنيّة على الادارة المتكاملة للموارد المائية المشتركة، اذا توفرت ارادة التعاون وحسن الجوار بين الدول المتشاطئة، كما حصل في العديد من الانهار الدولية والبحيرات المشتركة في الدانوب في اوروبا، والميكونغ في آسيا، والبحيرات المشتركة في اميركا الشمالية على سبيل المثال لا الحصر.
فقد ابتعد قانون الانهار الدولية عن مبدأ السيادة المطلقة على المياه واستقرّ على القبول بمبدأ السيادة “المنقوصة” او النسبية على اعتبار ان الانهار الدولية، وهي الانهار التي تقع اجزاؤها في دول مختلفة، كأن تكون عابرة للحدود الوطنية، او التي تشكل حدودا دولية بين اكثر من بلد واحد، يجب ان تعامل كوحدة طبيعية واحدة من المنابع حتى المصب، ولذلك فإن حقوق دول المنبع تكون مكافئة لحقوق دول المجرى والمصب، اي لايمكن ان تمارس السيادة المطلقة على الموارد المائية الجارية نحو مصبها في دولة اخرى، واذا تعرضت حقوق دولة المصب الى اضرار فيتمّ تعويضها وفقا لآليات مقبولة. لذلك فالموقع الجغرافي لاية دولة من الدول المتشاطئة لايمنحها قوة قانونية اضافية الا بصورة نسبية ضمن معايير عديدة اكدتها مبادئ القانون الدولي، ومنها على سبيل المثال المادة السادسة-اولا من اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الاغراض غير الملاحية لعام 1997.

ثانيا:
تحتّم المصادقة على الاتفاقيات الدولية التزامات اضافية على الدول الاعضاء لايجوز الاخلال بها طالما بقيت العضوية نافذة. على سبيل المثال فان العراق وجمهورية ايران الاسلامية عضوان في اتفاقية رامسار للاراضي الرطبة (وقد مررت عليها سريعا في الجزء الثاني من هذا المقال ونشرته الصباح يوم 6 كانون الثاني 2014) وكذلك فالبلدان عضوان في الاتفاقيات البيئية الشقيقة الثلاث، وهي الاتفاقية الاطارية للتغير المناخي (UNCCC) واتفاقية الامم المتحدة للتنوع الاحيائي (CBD) واتفاقية مكافحة التصحر (UNCCD)، وتعالج هذه الاتفاقيات مشكلات عالمية واقليمية الطابع توجب على الدول الاعضاء الارتقاء بعملها المشترك، وتنفيذ التزاماتها في اطار تلك الاتفاقيات، علما ان اتفاقية مكافحة التصحر هي اتفاقية ملزمة قانونا ويتحتم على الدول الاعضاء تنفيذ برامج واتخاذ اجراءات مناسبة لمنع التصحّر، ويأتي في مقدّمة تلك الاجراءات ادارة الموارد المائية بصورة مستدامة، واستنباط سياسات بيئية فاعلة عن طريق التعاون الاقليمي.
اما الضغوطات التي تفرضها التغيرات المناخية على المنطقة فقد اصبحت واضحة وتتجلّى بالاحداث المتطرّفة كالجفاف الممتد وحالات الفيضان المفاجئة وارتفاع حرارة سطح الارض، وتداخل المواسم وقلّة انتاجية الارض وغيرها، مما يحتّم اتخاذ اجراءات اقتصادية وبيئية واجتماعية للتكيّف مع المعطيات المناخية الجديدة، اذ انها ظاهرة عابرة للحدود حتى لو بنيت عليها جدران باسقة، ولايمكن مواجهة تأثيراتها السلبية الا بجهد جماعي قائم على الاستخدام الامثل للموارد الطبيعية ومنها الموارد المائية المشتركة.
ينطبق الامر تماما على اتفاقيتي التنوع الاحيائي ومكافحة التصحّر، لان هذه الاتفاقيات الثلاث متكاملة، وقد مثّلت انطلاقتها في مؤتمر قمّة الارض في البرازيل العام 1992ردّا موحّدا للمجتمع الدولي على التحديات الجديدة التي فرضها واقع التغيرات المناخية، ولا يتسع المجال لإيراد شواهد عن مديات انتشار التصحّر، وانقراض مجاميع احيائية عديدة في جنوب العراق وعبر الحدود مع ايران، وخاصة في هور الحويزة وشط العرب، بل تكفي الاشارة الى عواصف الغبار الكثيفة، والمستويات غير المسبوقة بدرجات الحرارة صيفا، وانكماش الغطاء النباتي، وتدهور الشروط البيئية لشط العرب، ولكنّ المجال يتسع للدعوة الى مراجعة جدية للكيفية التي تدار بها المياه المشتركة، والى ايقاف التغييرات القسرية باستخدامات الاراضي، التي تؤدي الى المزيد من التملح والتعرية والتوسع العشوائي في المدن على حساب البيئة وغير ذلك.
ثالثا:
ينشط العراق (وكذلك سوريا) كثيرا في مجال الترويج لاتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الاغراض غير الملاحية، التي اقرتها الجمعية العامة للامم المتحدة في العام 1997، واصبحت تعرف باتفاقية العام 1997، ويعتبرها حجر الزاوية في سياساته المعلنة، واثناء حضوره في المنتديات الدولية وفي اللقاءات الثنائية والمتعددة
الاطراف.
وقد اكتسبت الاتفاقية مؤخرا زخما جديدا، حيث استوفت شروط دخولها حيز التنفيذ قبل شهرين وذلك بتوقيع (35) بلدا، علماً ان جمهورية ايران الاسلامية لم توقع على الاتفاقية (وكذلك الامر مع تركيا).
من المعروف ان عدم توقيع اية دولة على الاتفاقية لا يعفيها من التزاماتها المعروفة دوليّاً، الا ان التوقيع يفتح افاقا مريحة للتعاون وفق المبادئ التوجيهية للاتفاقية، ويعزز انسجام الاجراءات المتخذة لدى الجانبين في محاولتهما تنفيذ تلك الاتفاقية، حيث انها تؤمن مرجعية محايدة للقضايا الخلافية، ولاتتعارض مع الاتفاقات الثنائية بين الطرفين. ولاشك ان مواد اتفاقية العام 1997 جميعها متساوية في اهميتها، وتحظى بتأييد العراق دون تحفّظ، الا اني اجد ان اكثر تلك المواد انطباقا على المياه المشتركة بين العراق وايران، هي المادة الثانية-اولا وهي التي يعتبر في ضوئها شط العرب وانهار الكارون والكرخة والوند وغيرها انهارا دولية، والمادة الخامسة الخاصة بالاستخدام المنصف والمعقول للموارد المائية المشتركة، والمادة السابعة الخاصة بتجنب الاضرار بالدول المتشاطئة وامكانية التعويضات في حال حدوثها، والمادة الثالثة والعشرين الخاصة بحماية مصبات الانهار والبيئة البحرية، دون التقليل من اهمية المواد الاخرى، ولكن هذا المقال لايتحمل الاسترسال التفصيلي بمواد الاتفاقية التي سنفرد لها مقالا منفصلا.
رابعا:
ان خلق تنمية شاملة يقضى من خلالها على الفقر السائد في المناطق المتاخمة للعراق، ومنها منطقة جنوب شرق الاناضول في تركيا، والمناطق الغربية من ايران، وهو الهدف المعلن لمشاريع الاستصلاح وبناء السدود في هاتين المنطقتين، هو حق مشروع للبلدين الجارين، وعليه فان مصدر الاعتراض ليس هو تنمية هاتين المنطقتين، بل حجم الاضرار التي سببتها وتسببها تلك المشاريع في العراق، والدعوة الى مقاربة مختلفة تحقق منافع مشتركة للبلدان المتشاطئة وتعزيز فرص السلام والتعاون بينها.
فقد اوردت تقارير دولية محايدة، ان تلك المشاريع الكبرى لم تحقق النتائج المتوقعة من الاستثمارات الهائلة التي خصصت لها، لسبب بسيط، وهو ان مصادر الفقر في المنطقتين ليست متعلقة مباشرة بضعف الانتاج الزراعي وقلة مشاريع الاستصلاح وانعدام وجود السدود وماشاكل ذلك، بل بقضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية اشمل، واذا ما اريد القضاء على الفقر او تحسين مستوى المعيشة، يصبح من الضروري البحث عن فرص استثمارية وتنموية اخرى خارج القطاع المائي والزراعي.
فمنطقة جنوب شرق تركيا تعاني من مشكلات اجتماعية وسياسية خلقت شروطا اقتصادية صعبة، ولسنا بصدد الخوض فيها. اما منطقة غرب ايران فهي غنية بالموارد الطبيعية الاخرى، كالغاز والنفط، وهي موارد اكثر قدرة من القطاع الزراعي على تحقيق التنمية المبتغاة، (انظر التقرير الخاص بحوض نهر الكرخة من برنامج التحديات حول المياه والاغذية-CPWF، وكذلك تقرير صحيفة نيويورك تايمز في الاول من شباط عن جفاف بحيرة أورميا الايرانية نتيجة لبناء السدود على الروافد المغذية لها).
خامسا:
بعد انقطاع دام اكثر من ثلاثين عاما، عقد لقاء اول فني عالي المستوى بين العراق وايران في جنيف لمناقشة قضية هور الحويزة وذلك في ايار العام 2004 برعاية البرنامج البيئي للامم المتحدة (UNEP)، وكان لي شرف تمثيل العراق، اضافة الى عدد من كبار موظفي وزارة الموارد المائية، وقد جرى اللقاء بأجواء ايجابية وتمخّض عن اتفاق على لقاءت منتظمة اخرى في البلدين.
لقد جاء اللقاء في اجواء واعدة بالانفتاح والتعاون على المستويات الفنية، خاصة بعد نشر برنامج الامم المتحدة للبيئة عدّة تقارير وصورا جوية عن انحسار الاهوار العراقية، كان اهمها واكثرها انتشارا تقريرها الثالث في العام 2001 المعنون: اهوار بلاد الرافدين، من تأليف الخبير البيئي المعروف الصديق حسن برتو وهو عراقي من كبار خبراء برنامج الامم المتحدة للبيئة.
فتح ذلك الاجتماع أفقاً كان مغلقا في ظلال الحرب والشك والتوجس لمدة ثلاثة عقود، وعقدت بعده لقاءات اخرى على مستويات عليا بين مسؤولي البلدين، نأمل انها ستثمر عن تحقيق تغيير في المقاربات المعلنة لادارة المياه المشتركة، خاصة مع الاستمرار ببرامج تشييد السدود ومنشآت التحكم وتحويل المياه التي تؤثر سلبا في البيئة الطبيعية السائدة، فمن غير الجائز الاستسلام للصعوبات وتهويل الاختلافات، اذ لاسبيل امام البلدين الجارين الا بانطلاقة جديدة تحترم بها حقوق الطرفين، وقبل ذلك حقوق البيئة، بما يفرضه القانون الدولي والاتفاقيات
الثنائية.
ونجدّ من المشجّع ان البلدين قد انخرطا مجددا بالعمل المشترك مع منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة في مشروع للتعاون الفني في جنوب وادي الرافدين، وان الوقت اكثر من مناسب لتحسين اداء الطرفين في ادارة الموارد المائية المشتركة لما فيه مصلحة البلدين والشعبين الجارين.
*سفير العراق لدى منظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو)

جريدة الصباح  12/2/2014

الآراء الواردة في المقال هي اجتهادات شخصية لا تتحمل مسؤوليتها شبكة الإقتصاديين العراقيين وانما الكاتب لوحده

 

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: