خواطر إقتصاديةقضايا اللاصلاح الاداري والاقتصادي

أ.د. عبدالحسين العنبكي: الاحتكار الإداري كالاحتكار الاقتصادي … كلاهما حرام (4)

تطرقنا في العدد (3) الى الاحتكار الإداري الحاصل في منح التراخيص بغية تحقيق احتكار اقتصادي ينجم عنه ربح احتكاري، وهو خلاف المنافسة التي تعد واحدة من المبادئ الدستورية في العراق ومخالفتها ليست فقط حرام وملعون من يفعلها، وانما هي خيانة للأمانة المهنية وخرق للدستور.  وبغية استكمال هذا النوع من الاحتكار المؤسسي تم احتكار مهمة معالجة الفساد، بمعنى فساد أجهزة معالجة الفساد، الأمر الذي يجعل المشكلة أكثر تعقيداً وأصعب حلاً.
 
وفي هذا العدد نحاول التركيز على مفهوم (العائلة قراط) او (الفاملي كراط) التي اتسمت بها مؤسسات الدولة العراقية في السنوات الأخيرة.  وهي ظاهرة لم تكن شائعة حتى في عهد الطاغية صدام، اذ كانت القوانين والتعليمات تمنع تعيين الأقارب الى درجة ما في نفس المؤسسة التي يعمل فيها الشخص.  وقد ظهر في العراق الان مواقع جديدة ليست جزءً من هيكلية الدولة وانما هجين من العشائر والعوائل والدواوين الاجتماعية، مثل موقع (اخوة الوزير) و (ابن الرئيس)، و (نسيب القائد) و (ابن اخو المدير العام) وهكذا.  هؤلاء يمارسون احتكاراً عائلياً مقيتاً متبوع باحتكار الملفات الإدارية لجعل الحلقات الإدارية مستحكمة في اطار العوائل واستبعاد سواهم نحو الهوامش.  وبهذه الطريقة يتم تغطية الخروق القانونية والإدارية لبعضهما البعض.  ونعتقد بوجود نظامين للأرشفة والحفظ، نظام (عادي) يحتوي الكتب والمطالعات الخالية من الخروق القانونية، ونظام (غير عادي) مخصص للممارسات المغطاة في الدائرة العائلية.  ومن المؤلم ان هذا النوع من الأرشيف دائماً ما يغادر المؤسسة بمغادرة رئيسها او مديرها الى بيوت العائلة وربما الى المحرقة بحيث لا تبقى اوليات المواضيع المتلاعب فيها.  وهذا النوع من الاحتكار الإداري يكون فيه الحرام مزدوجاً، مرة لأنه حبَسَ الأنشطة عن الاخرين وجعلها في اطار العائلة، ومرة لأنه لا يستطيع ان يظهرها لان فيها تلاعب في المقاولات او الترقيات او المكافئات او الصرفيات.  وعليه فإن فيها فساد واضح، وفاعلها يستحق اللعن مرتين: مرة لأنه محتكر ومرة لأنه فاسد.
 
يتسع المقام هنا للتطرق إلى مفهوم آخر من ألوان الاحتكار الإداري وهو (الحَوَل الإداري) السائد في العراق.  وهو يعني عدم رؤية الحقيقة وإنما الرؤية بجانبها (أي مجانبة الحقيقة)، وهذا الامر يحصل افقياً وعمودياً في الهرم الإداري.  فمن الناحية المؤسسية (أفقيا) نجد في العراق ان هنالك وحدة إدارية صغيرة، كأن تكون شعبة في قسم في دائرة تابعة لفرع من مديرية ما، مناطة بها مهام عملاقة لتقديم خدمة كبيرة وأساسية وتعاني من نقص في الصلاحيات ونقص في الإمكانيات ونقص في الموظفين وضيق في المكان واهمال من قبل الإدارات العليا.  كما نجد ان هنالك مؤسسة عملاقة من حيث المكان والمبنى والكوادر والامكانيات ولا تناط بها إلا مهام بسيطة جداً لأمور ليست أساسية.  وهذا يعني وجود اختلال هيكلي في المؤسسات بين حجم المؤسسة والنشاط الذي تمارسه، لابد من إعادة النظر فيه، لان ذلك واحد من اهم مؤشرات الإدارة الناجحة وهو ان تخلق ارتباطاً منطقياً وموضوعياً بين المهام والامكانيات.  والإدارة في العراق تجد فيها اكوام من المهام والأعمال المعطلة، وأكوام من الإمكانيات والكفاءات البارعة المعطلة أيضا، ولكن لا يوجد ربط محكم بين الاثنين، وهو تقصير من الإدارات العليا في المؤسسات، وجزء من هذه المشكلة ناجم عن الاحتكار.
هذه الحال يجوز لنا تسميتها (الحول الإداري) وقد نجده عمودياً ايضاً حيث نجد كفاءات جبارة معطلة او مكلفة بمهام بسيطة يمكن ان يمارسها موظف بسيط، في حين نجد مهام إدارية كبيرة تحتاج للخبرة والتخصص الدقيق والكفاءة العالية والقيادية تناط بأشخاص بسطاء جداً من حيث الخبرة وفقراء في المعرفة والابداع وليس لديهم التخصص المطلوب للنشاط.  وهنا ايضاً يكون (الحول الاداري) ناجماً عن رغبة احتكارية إدارية تقدم مصلحة الأشخاص الفردية او الفئوية امام مصلحة البلد او المؤسسة او مصلحة المجتمع الذي ينتفع من الخدمة المقدمة.  وهذه هي الأخرى مسؤولية القيادات العليا في المؤسسات وفي الهرم الإداري، ويرافقها سوء اداء ناجم عن (السخط الوظيفي) او عدم الرضا الوظيفي، حيث يجد الخبير المختص نفسه مرؤوساً لشخص غير مختص وليس لديه الخبرة او الخدمة، فنخسر أداء الاثنين: بين تعطيل الخبير الساخط وعنجهية المسئول الساذج.  إن عدم الاتساق الوظيفي هذا يخلق عدم اتساق في الأداء وفي تقديم الخدمة.
 
كما أن هنالك (حول إداري آخر) غير الافقي والعمودي، انه (الحول الإداري النوعي) عندما يتم تجاوز الاختصاص العلمي لمصالح شخصية، حيث تنفق الدولة المليارات على تعليم الشباب في مختلف الاختصاصات لكي يتعلموا ويكتسبوا اختصاصاً في مجال معين ويبرعون فيه، ثم نقوم بتكليفهم بمهمة ليس لها علاقة باختصاصهم لا من قريب ولا من بعيد فنخسر مرتين، مرة من خلال مسح الاختصاص الذي درسوه، لأنهم لا يمارسونه فيمسح من ذاكرتهم رويداً رويداً، ومرة لأنهم سيمارسون أخطاء قاتلة في المهمة المناطة بهم من غير اختصاصهم ولا يعرفون فلسفتها وابعادها واعماقها ومبرراتها وبذلك يفوّتون على البلد فرص النجاح ويقلبوها الى فرص فشل، وهذه المشكلة واضحة للعيان.  ولو طلب من ألد أعداء العراق تخريبه، لما برعوا في ذلك كما برع الذين مارسوا الحول الإداري النوعي هذا، حيث تجد أحدهم عندما يمرض هو او ابنه يدقق جيداً في اختصاص الطبيب المعالج وماذا درس وأين درس وكم مارس، وعندما يمرض نشاط معين في الدولة لا يعنيه اختصاص الشخص المناطة به مهمة التشخيص والعلاج، فتجد الطبيب يمارس اعمال محاسبية والمهندس يمارس اعمال اقتصادية والإداري يمارس اعمال فنية تقنية والبيولوجي يعمل مهندس حاسبات وكل التخصصات مخروقة.  اليس ذلك تدمير متعمد للبلد؟  فلو حرص المسؤولون في المؤسسات المختلفة على تمكين المختص، وحرصوا على العراق كما يحرصون على أولادهم لكان العراق في مصاف الدول المتقدمة.  ان هذا النوع من الحول الإداري ليس بعيداً عن الاحتكار الإداري الذي يفضي الى احتكار اقتصادي يولد عائداً احتكارياً، مرة من خلال الاحتكار للوظيفة واحتكار الانتفاع منها ومرة من خلال اكتساب القدرة على ممارسة الفساد الإداري والمالي في هذه المواقع المغطاة افقياً او عمودياً او نوعياً بأحد اشكال الحول الإداري المقصود.  وفي كل الأحوال فهو احتكار، والمحتكر ملعون على لسان سيد الخلق محمد (ص) الذي يقول: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون.  الا لعنة الله على كل محتكر محتال يقدم مصلحته الشخصية ويغرق العراق وشعبه في بحر من الفقر والتخلف.
 
رابط الحلقة الاولى
http://iraqieconomists.net/ar/2016/05/19/%d8%a3-%d8%af-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d8%a8%d9%83%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%83%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%af%d8%a7%d8%b1/
 
رابط الحلقة الثانية
 
http://iraqieconomists.net/ar/2016/05/27/%d8%a3-%d8%af-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d8%a8%d9%83%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%83%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%af%d8%a7%d8%b1-2/
 
رابط الحلقة الثالثة
 
http://iraqieconomists.net/ar/2016/05/31/%d8%a3-%d8%af-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d8%a8%d9%83%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%83%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%af%d8%a7%d8%b1-3/
 
(* ) رئيس منظمة اقتصادنا للتنمية المستدامة
 
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين.  يسمح بإعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر.
http://iraqieconomists.net/ar/

الاراء المطروحة في جميع الدراسات والابحاث والمقالات المنشورة على موقع الشبكة لاتعكس بالضرورة وجهة نظر هيئة تحرير الموقع ولا تتحمل شبكة الاقتصاديين العراقيين المسؤولية العلمية والقانونية عن محتواها وانما المؤلف حصريا. لاينشر اي تعليق يتضمن اساءة شخصية الى المؤلف او عبارات الكراهية الى مكون اجتماعي وطائفة دينية أو الى اي شخصية أو مؤسسة رسمية او دينية

تعليقات (3)

  1. فاروق يونس
    فاروق يونس:

    الفقرة المهمة براْى المتواضع قول الكاتب ( وحدة ادارية صغيرة مناط بها مهام عملاقة — وموْسسة عملاقة ولا تناط بها الا مهام بسيطة جدا )
    اما الوحدة الصغيرة المتخمة فسببه عدم وجود توصيف للوظائف وتحديد لمواصفات الموظف المناسب لاشغال الوظيفة المناسبة واما الموْسسة العملاقة التى لا تناط بها سوى مهام بسيطة فالسبب هو تفصيل الوظيفة والموْسسة حسب مقاس شاغليها من ذوى الحظوظ ويقول قائلهم ( اللهم اجعلنا من ذوى الحظوظ ولا تجعلنا من ذوى العقول !)
    علماء الاحياء يقولون ( الوظيفة تخلق العضو ) يعنى اذا كانت هناك وظيفة مطلوب ادائها فيجب ايجاد العضو ( الشخص المتاسب ) لاشغالها — اما عندنا فالوظيفة تستحدث اولا ثم يجرى البحث عمن يشغلها ( وفاز باللذات من كان جسورا )
    من الامثلة الصارخة لموْسسة عملاقة فاشلة هى وزارة الثقافة ( جيب ليل وخذ عتابة ) ومن الغريب يراد دمجها بوزارة الشباب فى حين ان الاخيرة تشتغل والثقافة عاطلة
    وصدق الشاعر اذ يقول :
    ومن البلية عذل من لا يرعوى عن غيه وخطاب من لا يفهم!
    مع التقدير

  2. أ.د.عبدالحسين العنبكي
    أ.د.عبدالحسين العنبكي:

    الاخ العزيز استاذ محمد سعيد العضب المحترم ..شكرا جزيلا لمداخلتك ، اردت في المقال ان احرم الاحتكار بكل اشكاله ولست رجل دين وليس لي حق الافتاء ولكن احاول ايجاد ربط منطقي بين هذه المفاهيم وربطها بالحرام كي استفز طبقة الاسلام السياسي واجلبهم للقراءة وربما الوعي بكارثة ما يحصل .
    كما اود التنويه ان الاحتكار بكل انواعه الذي يفضي الى الفساد ليس له طابع مميز لا ديني ولا مذهبي ولا قومي خاصة وان حكم العراق اليوم يشترك فيه الجميع ، قد يتخاصمون على امور وتفاصيل الا انهم جميعا السيئين منهم تجدهم حبايب في ملعب الفساد ، او هم جميعا الصالحين منهم تجدهم حبايب في ملعب النزاهة .
    لذلك لا ارى مبرر سيدي الكريم زج اهل البيت عليهم السلام ولا الصحابة المنتجبين رضي الله عنهم ولا اي مقدس لاي اثن او ملة في هذا المعترك ، ودعنا نتعاطى بهويتنا الوطنية (العراق) لانه الجامع والمتضرر الاكبر من كل فئوياتنا ..مع الامتنان

  3. Avatar
    محمد سعيد العضب:

    التسميه قد تكون غير موفقه حسب اعتقادي المتواضع , لان ذلك ليس احتكارا مشابها للاحتكار الاقتصادي والتجاري البحت , بل استحواذ علي حق عام عبر توليفات مختلفة . مع ذلك فكافه الإحداثيات والتصورات والقضايا المطروحة من قبل الكاتب واقعيه وتشخيصات رصينة, وكلها تصب في افتقار البلد الي طبقه سياسيه واعيه ترغب حقا ,وتتمكن فعلا احداث استبدال في منطق الحكم القائم الذي انصب اهتمامه في لفلفه ما لاذ وطاب . فالعراق يعيش ازمه أخلاقية مستعصية وجبر البعض ولأسباب مجهولة تفسيرها بمفردات غلاميه “كالاحتكار الاداري وما شابهه ذلك من مفردات , وبالأخص حينما تحولت بعض تبريرات الاخفاق الي مجرد حمايه معتقدات وأساطير , ومنها مظلومية ال البيت وحق الأكثرية في تمرير كل شيء, التي عبرها ظلت هذه المفاهيم تعمل بشكل مباشر او غير مباشر في تعزيز اركان الظلم المستديم الذي ابلي فيه العراق في دولته الجديدة كما كان عليها الوضع في سلطات حكمه السابقة , عليه نحن نعيش حاله استثنائية وهي هيمنيه الفكر الظلامي المتمثل في السلطة الدينية والأثنية المتعصبة التي جاءت وتعززت اركانها مع الغزو والاحتلال . فالتحرر منها ان امكن ليس فقط القضاء علي ما اطلق احتكار اداره السلطة والدولة من قبل العائلة والعشيرة والطائفة , بل ربما تفتح الابواب علي مصراعيها وتجعل العراق يعيد عافيته من جديد

التعليق هنا

%d مدونون معجبون بهذه: